القاهرتان (4): ولكن أين كان الشعب؟

تطرق بنا الحديث إلى الاجراءات العمرانية التي استهدف بها محمد علي المدينة القديمة في إطار استراتيجية الصفحة البيضاء المستلهمة من الوجود الفرنسي في مصر خلال حملة بونابرت. ورغم أن هذه الاجراءات قد شملت القضاء على عناصر معمارية أصيلة في الشارع القاهري (كالمشربية والمصاطب الحجرية والتغطيات الخيامية للأسواق) كما شملت إجبار الأهالي على طلاء منازلهم باللون الأبيض، فإن يد التغيير قد طالت النسيج العمراني للمدينة أيضًا. ومن المعروف أن نسيج المدينة هو الأصل الذي قامت عليه فميزتها عن غيرها ومن ثم عُرفت القاهرة بنسيجها العضوي المتضام والمتجانس في نفس الوقت حتى أنه شمل حارات لا يتجاوز عرضها الستة أمتار كما احتوى على دروب وأزقة لكل منها مداخل أو مخارج كونت الصورة البصرية للمدينة فصار أهلها عارفين بها مالكين لأسرارها لقرون طويلة.  

**

تعرض النسيج العمراني القديم للمدينة ابتداءًا من عهد محمد علي للخلخلة حين دعت الحاجة لفتح قلب المدينة القديمة وذلك بشق “الشارع الجديد” سنة 1845. تم شق هذا الأخير المعروف باسم “السكة الجديدة” لربط المدينة القديمة تحديدا شارعي الأزهر والموسكي باتجاه حي الأزبكية الجديد آنذاك وبذلك يعتبر أول عملية عمرانية موسعة لربط أحياء القاهرة و “لإتاحة الفرصة لدخول ضوء الشمس لنسيج القاهرة القديم المتضام (الكثيف)” بحسب تعبير المؤرخة مرسيدس فيوليه.

تم تخطيط السكة الجديدة لتمتد بطول 1.2 كم وبعرض تسعة أمتار وهي المسافة اللازمة لمرور جملين محملين جنبًا إلى جنب – وبالتالي أدى شقها إلى توصيل المياه بسهولة إلى المناطق شديدة الكثافة السكانية. فيما بعد وبجلوس إسماعيل باشا على سدة الحكم تعرض نفس النسيج العمراني لثلاث عمليات عمرانية متتابعة كانت عبارة عن شق شارع يربط بيت القاضي بجامع قلاوون ثم شارع كلوت بك (1872) الذي يربط الأزبكية بمحطة السكك الحديدية وهو الذي تم تصميم بواكي -أركيد Arcades – على جنباته لتقي المارة حرارة الشمس.

عمليات الهدم أثناء شق شارع كلوت بك
عمليات الهدم أثناء شق شارع كلوت بك

تبع شق شارع كلوت بك شارع آخر هو شارع محمد علي باتجاه قلعة الجبل مركز الحكم القديم- سنة 1873. وفي سبيل شق هذا الأخير تم هدم عدد هائل من المباني الكبيرة (بعدد 400) والمنازل الصغيرة (بعدد 300) وكذا مجموعة من الحمامات والمخابز و المطاحن و الجوامع منها جامع أزبك (المأخوذ عن اسمه حي الأزبكية) في حين لحق بجامع قوسون أضرارًا بالغة “غير قابلة للإصلاح”  وكان من حسن حظ جامع عثمان كتخدا المعروف بجامع الكخيا أن نجا من حمى الهدم لسبب غير معروف.

جامع عثمان كتخدا المعروف باسم الكخيا، الناجي الوحيد من عمليات الهدم.
جامع عثمان كتخدا المعروف باسم الكخيا، الناجي الوحيد من عمليات الهدم.
**  

تواصلت عمليات شق الشوارع الواسعة في النسيج القديم حتى بدايات القرن العشرين: في عام 1929 تم شق شارعي الأزهر والأمير فاروق (شارع الجيش فيما بعد) وهو ما أدى لإزالة عدد 700 من مباني المدينة القديمة. على أنه لا يمكن إنكار فاعلية الشوارع الجديدة بربط أنحاء المدينة الكبيرة ببعضها لاسيما ربط قاهرة المعز بالمدينة الجديدة قاهرة إسماعيل- لكنها أدت في الوقت نفسه لخلق صورة مزدوجة للمدينة كانت نتاجًا لتشريح نسيجها وهو ما أدى إلى “تأثيرات متعددة على التنظيم الفراغي داخل المدينة” بحسب جان لوك أرنو. 

مثلت عمليات شق الشارع الجديد وما تلاه تحولًا جذريا في النسيج العمراني وأدت بالفعل إلى حالة من الخلخلة سمحت بدخول الهواء والضوء إلى قلب المدينة القديمة رغم القضاء على الكثير من مآثر المدينة. وبالمناسبة فإن حالات الإزالة التي تمت لم تكتف فقط بالمباني والبيوت التي يشغلها الأحياء بل أنها امتدت إلى عالم الموتى وفي ذلك يذكر عالم الاجتماع المستشرق جاك بيرك حادثة شديدة الدلالة عن شق شارع محمد علي حيث تم “تفجير تلة كاملة من المقابر بواسطة مدافع القلعة، حاول نابليون من قبل إزالتها ولكنه أجفل خوفًا من ثورة المصريين” ويفسر بيرك نجاح إسماعيل فيما أخفق فيه نابليون “أن نظام الحكم نظام إسماعيل- صار أكثر توطيدا وإقناعًا”. على أنقاض المقابر تمتوزيع الأراضي وتخصيصها لكبار رجال الدولة وظهرت قصور جديدة على الجانبين للتمويه على الأزقة البشعة وبقايا المباني المنحورة وراءها”. يختم بيرك الحادثة بجملة مشهورة في أدبيات التأريخ للقاهرة “تحولت المدينة إلى مزهرية مشروخة إلى نصفين… لن يلتئما أبدًا”.  

ولكن أين كان الشعب؟ 

ربما يتساءل القارئ عن موقف سكان القاهرة من رياح التغيير التي هبت على مدينتهم. وعما إذا كان هناك معارضة أو موافقة شعبية على التحولات الجذرية الحاصلة منذ عهد محمد علي. في سبيل الإجابة عن هذين التساؤلين ينبغي أن نحاول التفريق بين مفهومي الحداثة المصرية كما ظهرت منذ عهد محمد علي والشعور الذاتي للمصريين بها كما أوضحته المؤرخة إيف دي دانبير- نواري: 

إن فكرة التحول في مصر تجعل من الضروري مراعاة المعطيات الذاتية التي يمكن تسميتها «الشعور» بالحداثة. بالطبع، إنها ليست مجرد مسألة شعور، لأن هذه الحداثة تجسدت في العديد التطورات المادية والثقافية “. 

بخصوص مسألة الشعور الذاتي بالحداثة نعتقد أن المجتمع المصري لم يكن مستعدًا تمامًا لثورة مجتمعية وعمرانية أرادها له محمد علي أو إسماعيل رغم طموحية مشروعيهما. من ثم خلقت الاجراءات الاصلاحية الجذرية واستراتيجية الصفحة البيضاء ضد قيم المجتمع وأسلوب حياته نوعًا من الغربة المجتمعية فرضت نفسها على المجتمع الذي بدأ يحس بأنه «غريب عن كل المشاعر التي تساعد المجتمعات الأخرى في أن تكون أفضل تنظيما وأكثر سعيًا للتحضر» بحسب تعبير الروائي بول مرو الذي فسر هذه الغربة المجتمعية بعدم فهم المجتمع المصري لطموحات محمد علي بسبب استئثار هذا الأخير بالسلطة وانعدام المشاركة السياسية.

نضيف على ذلك أن القلاقل التي واجهت الباشا في مفتتح عهده كانت تعبيرًا عن رفض سياسة الجبر التي اتبعها ضد الأهالي وهي التي بنت حائطًا بين المجتمع وبين الباشا المحتكر لكل شيء وبالتالي كانت شمولية النظام وغياب الديموقراطية سببًا أساسيا في نفور الأهالي من السلطة وبالتالي عدم إيمانهم بطموحات الحاكم أو بجدواها. النفور والاعتقاد في اللاجدوى من الاصلاح تحولا إلى حالة التذمر الشعبي في عهد خلفاء محمد علي لاسيما إسماعيل، تفاقمت هذه الحالة في مفتتح عهد خليفته توفيق فكان من نتائجها أن نشبت الثورة العرابية ثم سقطت البلاد فريسة للاحتلال الإنجليزي في نهاية المطاف. 

**

ومن الطريف، ربما المثير للتأمل، أن عدم تفاعل الشعب المصري مع مشروعات التحديث قد أدى في نهاية عهد محمد علي إلى نشوب أزمة في الحكم وهي التي عبر عنها الباشا بنفسه قبيل نهاية عهده. ففي سنة 1846 التقى محمد علي باشا – 77 سنة- السلطان العثماني في استنبول وأسر إليه مخاوفه على مصير مشروع الحداثة في مصر: إن ولدي عجوز عليل (يقصد ابراهيم باشا) وعباس متراخ كسول. من عساه يحكم مصر سوى الاولاد؟ وكيف لهؤلاء أن يحفظوها؟” إذن أدرك محمد علي باشا خطورة سياساته الشمولية وتبنيه لاستراتيجية الرجل الواحد One-man band التي صار بها الباني والزارع والصانع الأوحد على مدار ما يزيد على أربع عقود. و إذا كان محمد علي قد اقتنع بعدم صلاحية ابناء أسرته -الأولاد حسب وصفه- لمواصلة مشروعه التحديثي في البلاد فكيف بشعبها؟ 

لم تخب ظنون محمد علي في خلفاءه: بعد عامين أصابه خرف الشيخوخة فعزله بنوه وتولى الحكم أكبرهم المحارب العظيم ابراهيم باشا. هذا الأخير لم تستطع صحته التي أفناها في الحروب النهوض بأعباء الحكم فلم يلبث غير أشهر ثم مات قبل أبيه ثم خلفه، بحسب فرمان 1841، عباس بن طوسون بن محمد علي ” المتراخ الكسول”. افتتح عباس المشهور بالغلظة ونقص الكفاءة عهده بإبعاد مستشاري جده بما فيهم الخبراء الأجانب ثم قاد البلاد إلى نظام رجعي عاد بالدولة إلى ما قبل عهد محمد علي فأغلق المدارس والمصانع وأوقف المشروعات النهضوية.

سعيد باشا
سعيد باشا

على أن الأثر الوحيد الذي تركه أن وقع بالموافقة على عقد مد السكك الحديدية سنة 1851 فظهر القطار لأول مرة في مصر ولثاني مرة في العالم بعد إنجلترا. رغم ذلك فإن عباس باشا ظل معروفًا بتطيره وعزلته مع مماليكه فنزل من قصر الجوهرة بالقلعة وأنشأ قصوره في الصحراء أشهرهم كان قصرًا منيفًا في صحراء الريدانية التي عمرت فيما بعد وسميت باسمهالعباسيةوكذا قصره الشهير ببنها الذي شهد مقتله في ظروف غامضة تمامًا بيد اثنين من مماليكه سنة 1854. 

**

تولى محمد سعيد باشا ابن محمد علي الحكم فأظهر الرغبة في مواصلة مشروع أبيه التحديثي واعاد بعض مستشاريه إلى مناصبهم كما افتتح من جديد مصانع الجيش المصري سامحًا للجنود المصريين بالترقي إلى رتب الضباط بعد أن كانت مقصورة على الشراكسة والأتراك. وربما جاءت اصلاحات سعيد العسكرية في إطار رغبته في “مجاملة” السلطان العثماني وصديقه امبراطور فرنسا نابليون الثالث حيث أوفد فرقة عسكرية لمساندة الأول في حرب القرم ضد روسيا ثم أمد الثاني بفرقة أخرى “أورطة” شاركت في مغامرة فرنسا لغزو المكسيك فأبلت الفرقتان أحسن البلاء في حربين لم تكن لمصر فيهما لا ناقة ولا جمل ! ومن باب المجاملة أيضًأ وافق سعيد على منح امتياز حفر قناة السويس لصديقه القديم الدبلوماسي الفرنسي فريديناد دو ليسبس فشمل الاتفاق اثنا عشر بندًا كان أخطرهم مدة الامتياز… 99 عامًا من تاريخ الافتتاح!

لم يكن سعيد حذرًا مثل أبيه محمد علي – رجل الدولة الداهية والدخاخني السابق – في الاعتماد على الأجانب فلجأ للاقتراض ” من باب العشم” من البنوك الأجنبية حتى بلغت الديون في نهاية عهده 8 ملايين جنيه إسترليني تسدد على 30 عاما بالإضافة إلى مليون اخر يسدد عبر 3 سنوات هذا غير الديون قصيرة الأجل (9 ملايين جنيه) ليصبح المبلغ الإجمالي 18 مليون جنيه (11 مليونا و160 ألف جنيه إسترليني). على أن سعيد باشا كانت له اليد البيضاء في إلغاء الرق ودعم الفلاح المصري باعتماده للائحة السعيدية التي سمحت ببعض الاصلاحات الاجتماعية. في يناير 1863 توفى سعيد باشا فخلفه ابن أخيه إسماعيل…وتلك حكاية أخرى. 

اقرأ أيضا:

القاهرتان (3): عملية «الصفحة البيضاء»

القاهرتان (2): المدينة الجديدة وصورة الشارع القديم

القاهرتان(1): الخديو في المعرض

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر