هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

كل قبر سيزال، وكل شاهد سيمحى.. ليست نبوءة ملعونة أطلقتها عرافة غاضبة تجولت في شوارع القاهرة ليلًا. بل قرار مسؤول بإزالة ومحو مساحات واسعة من جبانات القاهرة التي يتعدى عمر بعض أجزائها الألف سنة، لإنشاء شبكة من الطرق والكباري. فجاءت الأنباء متلاحقة كموج البحر الهادر بإزالات متتابعة لمقابر المشاهير حتى ولو كانت لشخصيات في قيمة الخطاط الشهير عبدالله الزهدي أو شاعر النيل حافظ إبراهيم. والحجة المشهرة في وجه المعترضين أن هذه المقابر والشواهد لم تكن مسجلة كأثر. وكأن القيمة تمنح للمكان بورقة! لكن ما الذي يجعل الجبانات بهذه الهشاشة أمام معاول الهدم الحكومي؟ لماذا تكون الجبانات هدفا لاستباحة الأنظمة السياسية دائما كما يخبرنا التاريخ؟ هل ما يجري على الأرض يخفي فلسفة كاملة المقصود منها يتخطى التمثيل بالجبانات وتدمير معالمها؟ يبدو أن للسلطة مآرب أخرى تتجاوز الهدم لبناء طرق!

ورثت الحكومة المصرية الحالية ميراثا طويلا من التعدي على جبانات القاهرة، لكنها فاقت كل التعديات السابقة في حجمها وخطورتها. فما يجري خلال الأيام الأخيرة غير مسبوق ويهدد بمحو مفهوم القرافة أو الجبانات التاريخية للقاهرة كوحدة عمرانية واحدة. فعمليات الهدم المتلاحقة تبدو مصممة على محو تاريخ يعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين مع استثناء الفترات الأقدم من عمليات الإعدام الجارية تحت سيف الإزالة الذي لا يرحم. فالمنشآت المملوكية تقرر الإبقاء عليها، ربما لأنها مسجلة كأثر، بينما امتدت الأيادي لهدم معظم المقابر التي تنتمي للعصر الحديث بداية من أسرة محمد علي. وهو تحرك يضرب بقرارات اليونسكو التي تعتبر المنطقة بنسيجها العمراني وطبقاتها التاريخية المختلفة ضمن التراث العالمي للبشرية.

**

السرعة التي تدهس بها الحكومة المصرية منطقة القرافة الصغرى (ترب الإمام الشافعي) والسيدة نفيسة، تكرس لوضع أنهكت فيه الجبانات بعد سلسلة طويلة من التعديات التي استمرت على مدار قرنين من الزمن تقريبا. فلا يوجد نظام إلا وله بصمة في التعدي على الجبانات وانتهاك حرمة الموتى. والعمل على التوسع على حسابها وفرض هويته وتصوراته، بما فيها التصورات الأمنية على الجبانات. عبر شق الطرق فيها من أجل الوصول الأمني السريع لقلب المدينة، لذا كانت مدافن القاهرة دوما الجزء الأكثر هشاشة في العاصمة المصرية ونسيجها العمراني. ولم يكن هذا اعتباطا بل نتيجة تصور مسبق من كل نظام حكم مصر في كيفية استخدام الجبانات كأمثولة لساكني المدينة في أحيائها المكتظة.

فالسلطة؛ أي سلطة، تميل دائما للاستعراض، استعراض قوتها وهيمنتها على الفضاء العام أمام المواطنين. لذا تبحث دوما عن الجزء الأكثر هشاشة في المدينة لتوجيه ضرباتها، والقيام بمظاهرة لتغيير معالمها وترك بصمتها عليها، كمقدمة للتدخل في نسيج مدينة الأحياء والتلاعب به والهيمنة عليه. ولا يوجد أفضل من الجبانات لممارسة هذه الظاهرة، لأنها مدينة موتى، والموتى لا يتكلمون. والأحياء المنشغلون في البحث عن قوت يومهم لن يلتفتوا إلى ما يحدث في الجبانات بنفس انشغالهم باليومي. لذا تسارع السلطة للتنكيل بالجبانات كرسالة لمدينة الأحياء بأنها حاضرة ومهيمنة على فضاء المدينة كله. هذه لعنة ملازمة لمدينة القاهرة وتاريخها والاستعراض التاريخي يكشف عن بعض جوانب هذه اللعنة الملازمة لحضور السلطة المركزية ورغبتها في الهيمنة على المدينة من بوابة الجبانات.

**

المدهش أن الاعتداء على الجبانات تزامن مع بدء دورة باتت متكررة في تاريخ المدينة. وهي أن تبدأ السلطة في الاعتداء على الجبانات بالتوازي مع إطلاق مشاريع تتعلق بالنسيج العمراني للمدينة كلها. فالتخلص من الجبانات أو جزء منها يوفر للسلطة دوما مساحة للحركة والانطلاق للتوغل أكثر في أحشاء المدينة. تنتزع منها ما تريد وتعيد تشكيلها بما يتناسب مع رؤيتها لكيفية إدارة المدينة العملاقة والسيطرة عليها أمنيا. ما يمكن السلطة من مزيد من الهيمنة، فإزالة المقابر تزامن في القاهرة دوما مع إقامة الطرق في متلازمة استمرت على الأقل خلال القرنين الماضيين.

فيبدو أن السلطة على مدار هذه الفترة الزمنية الطويلة كانت تستخدم الجبانات كعينة اختبار. ومختبر لإزالة معالم المدينة ومحوها وبناء معالم جديدة تؤكد من خلالها السلطة الجديدة على هيمنتها وسلطاتها المطلقة على البشر والحجر. ففي هذا التصور يبدأ التاريخ دوما مع السلطة الجديدة فما قبلها هو التاريخ البائد. ليس على مستوى نظري فقط بل على مستوى مادي أيضا عبر الانطلاق من التلاعب بالجبانات والمدافن وصولا إلى فرض نموذجها على المدينة كلها.

**

إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلا، سنجد أن محمد علي باشا يبني مقبرة له ولأسرته خلف قبة الإمام الشافعي في سنة 1231هـ/1816م، وهي بلاشك قد بنيت على مقابر سابقة. ويرى الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، في كتابه “وجه القاهرة من ولاية محمد علي حتى نهاية حكم إسماعيل”. أنها بنيت فوق مقبرة الباشوات العثمانيين، فيبدو أن محمد علي باشا أراد أن يقول إنه باشا مصر الوحيد بطمس أثر الباشوات العثمانيين ومقابرهم. والذين حكموا مصر قبله على مدار 300 عام، والمدهش أنه كرر نفس الفعل على مستوى أكبر عندما أطاح بالمنشآت المملوكية من القلعة لبناء مسجده الذي أراد منه أن يهيمن على فضاء المدينة كلها، أي أن أفكار الباشا في الهيمنة البصرية انتقلت من المقابر إلى القلعة.

وإذا انتقلنا إلى عصر الخديو إسماعيل (حكم 1863-1879م)، سنجد أنه حاضر في أذهاننا بالقاهرة الخديوية، والتي أراد لها أن تكون بصمته العمرانية الأبرز على فضاء القاهرة. ولكي يبدأ هذه المشاريع لإعادة هندسة المدينة أزال كل ما قدر أن يصل إليه من مقابر. فمع شق شارع محمد علي باشا بداية من سنة 1869م، تم إزالة مقابر الأزبكية ونقلت عظامها إلى قرافة الإمام الشافعي وغيرها من المقابر. أي أن نظام الخديو إسماعيل اتخذ من إزالة المقابر مدخلا لمشروعه لإعادة تشكيل المدينة وفرض بصمته عليها. وهو ما تم له بعدما بنى بداية من الأزبكية الأحياء التي ستعرف باسم الإسماعيلية أو القاهرة الخديوية.

**

إذا انتقلنا إلى العصر الجمهوري وعندما شق طريق صلاح سالم في خمسينيات القرن الماضي، تم إزالة العديد من المقابر. اللافت هنا أن هذه المنطقة كانت مليئة بمقابر لأسر باشاوات العصر الملكي. لم يكن انتهاك السلطة الناصرية لهذه المنطقة عبثا بل دهسا واعيا لمقابر الطبقة التي أطاحت بها ثورة الضباط الأحرار وأخرجتها من حلبة الصراع السياسي. كما مكن هذا الطريق تطويق السلطة للقاهرة من جهة الشرق ما يعني سرعة انتشار للقوات المتواجدة شمالي العاصمة.

تكرر الأمر عند شق طريق الأتوستراد من منتصف السبعينيات حتى منتصف الثمانينات، والذي أطاح بعدد معتبر من المقابر الواقعة شرق القاهرة القديمة. بطريقة همجية وصفها خيري شلبي بـ”قسوة جهنمية بشعة”. وهو ما تزامن مع أكبر مشروع للسلطة -وقتذاك- لشق مدينة القاهرة. والمتمثل في كوبري أكتوبر الذي افتتحت أولى مراحله نهاية السبعينيات. وشكل بداية رؤية في الاستخدام المكثف للكباري في القاهرة التي بدأت رحلة الانفجار السكاني والتشوه المعماري في مرحلة ما بعد الانفتاح الاقتصادي. الذي أعطى الأولوية للمال على حساب أي قيمة أخرى، وهو ما وصل ذروته في السنوات الأخيرة.

**

وسط هذا المنطق الحاكم للسلطة منذ السبعينيات، كان طبيعيا أن تصاب الجبانات بالهشاشة فالمشاريع المتتالية وشق الطرق في قلبها أدى إلى إنهاكها مع انتهاك نسيجها العمراني. لكن ما أخر إطلاق رصاصة الرحمة هو أن التوسع العشوائي الذي قادته الحكومات المصرية منذ أكثر من 50 عاما. اهتم بالتوسع على حساب المناطق السهلة المتاحة سواء للإسكان الفاخر أو الشعبي. فتم التوسع على كامل الغطاء الأخضر في منطقة الجيزة وإمبابة شرقي النيل وصولا إلى شارعي فيصل والهرم غربا، واستمرار التوسع شرقا في مدينة نصر وما خلفها من مدن. لتصبح الجبانات في قلب مدينة مكتظة بملايين البشر، محاطة بتجمعات سكانية من جميع الجهات. كما وقعت الكثير من التعديات الأهلية على المقابر، وتم بناء المساكن الشعبية في غيبة وتواطؤ رسمي. ورغم ذلك واصلت المقابر ازدهارها وضمت الكثير من رموز دينية وفنية وثقافية وسياسية وأدبية ومن مختلف المشارب لمشاهير مصر في العصر الحديث، وأصبحت عن حق ديوان مصر المعاصرة.

لكن هذا التراث المركب والحاوي لتفاصيل تاريخية نادرة لم يقف حائلا أمام التعديات الحكومية على المقابر. التي هدفت مرة أخرى لاستخدام السلطة للتعدي على الجبانات كوسيلة للإعلان السياسي عن هيمنتها وسيطرتها على المجال العام. بتجاهل كل دعوات المتخصصين والمحبين للحفاظ على تراث جبانات القاهرة. وإرسال رسالة واضحة عبر استخدام هشاشة الجبانات للتأكيد على مضي السلطة في مخططها لمحو نسيج القاهرة العمراني وتفكيكه. بغض النظر عن قيمته التاريخية من أجل استغلال الأرض بمنظور المطور العقاري الذي يريد بناء الكمبوندات على جثة المقابر حرفيا.

**

لذا تظل عملية الهدم المنظم لمساحات واسعة من جبانات القاهرة -والتي ستتركها مهلهلة ومتفسخة ومقطعة لشرائح تخترقها شبكة طرق وكباري-. معبرة عن حجم الانتهاكات التي تتعرض لها مدينة القاهرة وعمرانها. فما يجري في الجبانات هو انعكاس أمين لما يجري في العديد من الأحياء التي يتم التخلص منها ومن معالمها أول بأول. فالأهم من وجهة نظر السلطة أن يتم إخلاء الأرض مما عليها وطرحها للاستثمار من ناحية وتأكيد هيمنتها على الفضاء العام من ناحية أخرى. فنحن أمام مخطط شامل لمحو معالم المدينة واستبدالها بأخرى بلا روح تفقد الآثار فيها علاقتها بنسيجها العمراني. وتتحول إلى أنتيكة في بازار عرض بلا أي رابط بما حولها. تريد السلطة أن تقول لنا إنها تحتكر الحركة في المدينة وتضبط الإيقاع. وهي وحدها التي تحدد ما يبقى وما يزول، ولا فرق في ذلك بين الأموات والأحياء.

اقرأ أيضا:

قبة تبر.. أثر إخشيدي منسي خلف الأسوار

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر