القاهرتان(1): الخديو في المعرض

إن فهم نشأة وتطور وسط مدينة القاهرة أي المدينة الحديثة – المختلف على تسميتها ما بين المدينة الأوروبية، الكولونيالية والقاهرة: الإسماعيلية الخديوية.  يعتمد على فهمنا لعلاقة هذه الأخيرة بالسياق المجتمعي والسياسي الذي نشأت فيه، ويتصل بهذين السياقين ارتباط المدينة الحديثة بالعمران الذي قامت على حدوده، ونعني بذلك المدينة القديمة، أي القاهرة الإسلامية، الفاطمية أو قاهرة القرون الوسطى الضاربة في جذور التاريخ. وتتسم العلاقة ما بين القاهرتين الحديثة والقديمة، رغم التجاور الجغرافي، بالتضاد وهو تضاد يعكس هويتين مختلفتين معماريًا وثقافيًا واجتماعيًا.

نحاول في هذه السلسلة من المقالات سبر أغوار العلاقة بين القاهرتين – القاهرة الإسماعيلية والقاهرة المعزية عن طريق تحليل الأدبيات الأكاديمية المنشورة عنهما وكذا تمثيلاتهما في الأدب المصري الحديث حيث ظهرت القاهرتان كصورتين في المواجهة رغم انتماتئهما للقاهرة الأم. وكما حدثت المواجهة بين القاهرتين في عالم الواقع فإنها قد تمت بينهما أيضًا في عالم الخيال الأدبي. ومن ثم فينبغي علينا، في سبيل فهم العلاقة بين القاهرتين، أن نؤرخ لجذور المواجهة بينهما، منذ إنشاء المدينة الحديثة على حدود القديمة بقرار سياسي، وكذا لصور هذه المواجهة في عالم الواقع كما في عالم الخيال، وهي الصور المحفورة في أذهان المصريين حتى كتابة هذه السطور.

القاهرة المعزية، شتاء سنة ١٨٥٠

قاهرة القرون الوسطى، تتميز بالإطلالة الفريدة، المآذن العالية مختلفة الطراز ما بين الفاطمي والمملوكي والعثماني، أبوابها الإحدى والستون تلقي في قلب زائريها مهابة ثم تأخذهم في تؤدة بين مآثر المدينة العمرانية والمعمارية حيث الأحياء المقسمة بحسب “الصنعة” كالنحاسين والصاغة. خصائص المدينة تضفي روحًا وروحانية على سكانها وتعزز انتماء هؤلاء لها.

رغم هذا الثراء والزخم، إلا أن زائر المدينة، سيما القادم من أوروبا، لا يكاد تطأها قدميه حتى تداهمه المدينة بفوضاها وضوضائها وقذارة طرقاتها ودروبها. من هنا بدأت سلسلة من الانتقادات وجهها الرحالة الأوروبيين والمستشرقين للمدينة العتيقة كأنها مسئولة عن قرون التأخر الثلاثة التي تلت الغزو العثماني. من هؤلاء كان أديب فرنسا الكبير فلوبير الذي زار القاهرة سنة ١٨٥٠ ومنها كتب رسائل عدة إلى والدته وأصدقاءه قال في أحداها: “ها نحن في مصر، أرض البطالمة ووطن كليوباترا، ماذا يمكن أن يقال؟ ما الذي يمكن أن اكتبه. لا أجد سوى أن أعود إلى الدوار الذي أصابني في الأيام الأولى حيث رأيت فوضى من الألوان حتى أنه ليخيل إلى ذي الخيال المحدود أنه أمام عرض مبهر للألعاب النارية”.

**

انتقد فلوبير المدينة حجرها وبشرها ووصف شوارعها بأنه المكان حيث تختلط قطعان الماعز الأسود بضوضاء أجراس الجمال بمرور الخيول والحمير والتجار! أما عن السلوك العام لسكان المدينة أو زائريها في شوارعها فيصفها فلوبير بديناميكية مقلقة: ” الجميع يتدافع، يدور، يتشاجر، يقسم بكل الطرق ويصرخ بكل اللغات” وفي خطاب كتبه فلوبير إلى والدته حكى مشاهداته في إحدى مقاهي القاهرة الإسلامية مدللًا على غرابة وفوضى المشهد:

“بالأمس مثلا ذهبنا إلى مقهى من أجمل مقاهي القاهرة في نفس المكان كان هناك حمار يتغوط ورجل يتبول في أحد الأركان. لم يستغرب أحد في المقهى هذه السلوكيات، لم يعلق أحد!”

غلاف كتاب فلوبير في مصر
غلاف كتاب فلوبير في مصر

أما الرحالة جيرارد نرفال فقد نصح أصدقائه بعدم التفكير في القاهرة لأنها تختلف عن قاهرة “بيبرس والحاكم” التي قرأ عنها أو شاهدها في مسارح باريس، ذلك أن المدينة الحالية “تقبع تحت الرماد والتراب”.

كانت المقارنات معقودة في أذهان الرحالة والأدباء الأوروبيين بين المدينة الأوروبية، لاسيما باريس، وبين قاهرة المعز فكانت بلا شك محسومة لصالح الأولى، حتى أن نرفال يجسم بأن المقاهي الشرقية في باريس أكثر شرقية من مثيلاتها في القاهرة، وتساءل فلوبير حال مشاهدته لرجل يصلي في مقهى في القاهرة مخاطبًا أمه ” هل تتخيلين شخصًا يتلو صلواته في مقهى في باريس؟”

فلوبير في القاهرة- اسكتش للفنان: أحمد علي توفيق
فلوبير في القاهرة- اسكتش للفنان: أحمد علي توفيق

نلاحظ أن الصور التي نقلها هؤلاء الروائيون والرحالة عن القاهرة، ساهمت في بناء صورة سلبية للمدينة في ذلك الوقت لاسيما بعد نشر هذه النصوص في أوروبا وتداولها على نطاق واسع.  لعبت هذه الصور دورا رئيسيا في الرغبة في تأسيس مشروع حداثي المتردد بين بناء مدينة جديدة وتعديل المدينة القائمة في القرون الوسطى.

 

باريس، ربيع سنة ١٨٦٧

يشد حاكم مصر الجديد – إسماعيل باشا – الرحال إلى أوروبا في جولة بين المدن أشهرها باريس وفيينا، ولهما مع “أفندينا” تاريخ: ففي الأولى تلقى تعليمه وفي الثانية عالج رمدًا في إحدى عينيه. رحلة إسماعيل هذه المرة إلى أوروبا تختلف كلية عن رحلته إليها أميرًا طالبًا ضمن “بعثة الأنجال” التي أرسلها محمد علي لتعليم أمراء الأسرة الحاكمة في باريس. هو اليوم الحاكم المطلق للبلاد مدعومًا بسلطة الباب العالي الذي منحه لقب جديد ونظام حكم جديد.

اللقب الجديد هو خديو وهو لقب فارسي معناه السيد أو الأمير وقد جعله السلطان العثماني حكرًا على حكام مصر من نسل محمد علي – وهو بالطبع لا يرقى إلى لقب “العزيز” الذي طمح إسماعيل إليه ليكون “عزيز مصر” لكن الباب العالي ما كان ليمنح هذا اللقب لإسماعيل ولا لاحد غيره لأن اسم الجالس على العرش اسمه ” عبد العزيز”! أما نظام الحكم الجديد فهو فرمان بمقتضاه حصر إسماعيل وراثة العرش في مصر في أكبر ابناءه بدلًا من أكبر أفراد أسرة محمد علي سنًا. بذلك تخلص إسماعيل من منافسيه من أعمامه وابنائهم لاسيما أخطرهم “حليم باشا”.

كانت هذه أسباب ابتهاج الخديو “الشخصية” وهو يزور باريس في ربيع ١٨٦٧، لكن البهجة كانت لها أسباب تتعلق بالحدث الكبير “المعرض الدولي” حيث تشترك مصر لأول مرة بأربع أجنحة دفعة واحدة.  وهو عدد يفوق دولة بحجم الدولة العلية “العثمانية” التي تتبعها مصر.  إذن ظهرت الأخيرة بمظهر أكثر تقدمية من الدولة العثمانية وأكثر استقلالاً عنها، وهذا بلا شك من دواعي سرور الخديو الشاب الذي سوف يلتقي بسادة الدنيا وعلى رأسهم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وقرينته الإمبراطورة أوجيني ذائعة الصيت والجمال. أما الأجنحة المصرية في المعرض فكانت على طرازين: الطراز المصري القديم فظهر أحد الاجنحة على هيئة معبد والطراز الإسلامي – وينتمي تاريخيًا إلى العصور الوسطى- وهو ما تم التعبير عنه بتصميم جناح على شكل قصر لأمير عربي علاوة على تصميم يحاكي الوكالة تم جلب عدد من التجار والحرفيين إليه ليحاكي وكالات قاهرة المعز.

**

غير إن ابتهاج الخديو ما لبث أن تحول إلى كدر عظيم حين عرف أن مكان إقامته أثناء زيارته للمعرض هو المعرض نفسه!

فقد اعتبر القائمون على المعرض أن حضور الخديو “الشرقي” ذي الطربوش القصير سوف يضيف مصداقية لنماذج المحاكاة التي تمثلها الأجنحة المختلفة فقرروا أن يسكن الخديو قصر الأمير العربي فيكون بذلك معروضًا من المعروضات أو كومبارسًا “انتيكة”. ورغم ما سبق إلا أن إسماعيل – لسبب غير معروف – وافق أن يكون مقر إقامته هو جناح القصر القديم أو نموذج المحاكاة سالف الذكر وحاول أن يتأقلم مع الوضع إلى حين انتهاء الرحلة.

مقر إقامة الخديو اسماعيل في المعرض الدولي بباريس ١٨٦٧
مقر إقامة الخديو اسماعيل في المعرض الدولي بباريس ١٨٦٧

في القصر، استقبل الخديو ضيوفه الذين هالهم أن الرجل يتحدث الفرنسية بطلاقة! غير أن فكرة أن الخديو “معروض” راودت بعض هؤلاء الضيوف ومنهم الدبوماسي جورج دوين الذي كتب في تقريره عن زيارة الخديو “استقبلنا الخديو بحفاوة تذكرنا بالقرون الوسطى!”. وأسر إسماعيل هذه الإهانة، إهانة اقامته في جناح المعرض، في نفسه فبعد عامين وبمناسبة الاحتفالات بافتتاح قناة السويس، أنشأ الخديو قصر الجزيرة لضيافة الأمبراطورة اوجيني التي هالها أن عمارة القصر الداخلية تحاكي جناح الامبراطورة في قصر التوليري بباريس.

العمارة الداخلية لقصر الجزيرة، نسخة مطابقة لقصر تويليري لباريس
العمارة الداخلية لقصر الجزيرة، نسخة مطابقة لقصر تويليري لباريس

اندهش إسماعيل لنظرة الأوروبيين له وهو الذي زاملهم لسنوات كان فيها طالبًا أو أميرًا سائحًا، ساءه أن ينظر العالم إليه كحاكم شرقي متأخر يجلس على عرش دولة متأخرة واعتبر مسألة اقامته في جناح المعرض سخرية منه ومن بلاده.و لعله تذكر أنه لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُنظر إلى حاكم مصري بنفس المنظور الغربي المتعالي. ففي ١٨٤٦ تعرض أبوه إبراهيم باشا لموقف مشابه في مدينة برمنجهام الإنجليزية حين قرر الذهاب لمشاهدة عرض لجثة حوت عملاق في خيمة أحد المعارض. ورغم أن الباشا قد ارتدى زيًا غير الذي يُعرف به بغرض التخفي إلا أن مقدم العرض تعرف عليه ثم أعلن على الجموع خارج الخيمة ” تستطيع مشاهدة الحوت العملاق ومشاهدة إبراهيم العظيم هازم الأتراك بثمن تذكرة واحدة” فتدافع الناس اغتنامًا للفرصة وتم استدعاء الشرطة التي انقذت الباشا فخرج سليمًا.

**

تذكر إسماعيل وهو يشاهد المعرض خصوصًا جناح الوكالة وقارنه بما قد قرأه في فرنسا عن حال القاهرة التعيس لاسيما ما نشره فلوبير – كما أسلفنا- ونرفال وغيرهما من الرحالة والمستشرقين الأوروبيين. على أن ما قرأه إسماعيل عن القاهرة لم يكن اسعد حالًا مما يعرفه هو عنها لاسيما أن مشكلته مع القاهرة تتمثل في كونها عاصمة ملكه الجديد الذي سعى لتعضيده بكُل ما أوتي من حيلة ومال، من اقصاء للمنافسين حتى رشوة السلطان العثماني بزيادة الجزية حتى يحظى بفرمان تغيير نظام الوراثة وبلقب خديو!

صدق إسماعيل على أن القاهرة في وقته لا تصلح لأن تكون عاصمة لمشروعه الحداثي الذي يطمح أن يفوق به مشروع جده محمد علي باشا الذي تحطم على صخرة معاهدة لندن ١٨٤٠. وتلفت الخديو حوله فوجد أن باريس منذ سنوات تخضع لعملية إعادة تخطيط على يد المهندس الفرنسي البارون هاوسمان وهو المخطط الذي ثار حوله اللغط وكتب عنه فيكتور هوجو واتُهم بأنه لغرض سياسي هو توطيد سلطة الإمبراطورية الثانية وسيدها نابليون الثالث فضلًا عن القضاء على أي احتمالية لقيام ثورة جديدة عن طريق تخطيط شوارع واسعة تنتهي بميادين أوسع لا مخبأ فيها (بعكس الشوارع الضيقة المظلمة المتأصلة في رحم النسيج العضوي للمدينة) ولا مهرب فيها بالتالي للثوار من أيدي السلطة. وبالتالي ظهرت باريس إسماعيل كحل نموذجي لحل أزمة المدينة التي تقرر أن يُسدل عليها الستار في سبيل طموحات الخديو الشاب.

اقرأ أيضا:

مملكة الظلال.. كيف عبرت السينما عن التطور الزمني لمنطقة وسط البلد؟

 

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر