رحلة «دار الكتب» من درب الجماميز إلى كورنيش النيل

لا أحد يعرف حتى الآن مستقبل «دار الكتب» الموجودة حاليا على كورنيش النيل، بعد أكثر من 50 عاما من العمل. وهل هي قادرة على الصمود ومواجهة تحديات الزمن. الإجابة يعرفها قطعا كل مرتادي الدار حيث إنها بحاجة إلى تطوير في أجهزة الميكروفيلم والميكروفيش وكذلك في سرعة الرقمنة. معظم الدوريات أصبحت غير صالحة للاستعمال الورقي ولابد من رقمنتها حتى يتيسر على الباحثين الاطلاع عليها بسهولة.

عرفت مصر قديما المكتبات والتدوين وكان من أشهر تلك المكتبات «خزانة كتب القصر الفاطمي بالقاهرة» والتي كانت تحتوي على أكثر من ستمائة ألف مجلد. يقول عنها المؤرخ يحيى بن أبي طي: «إنها من عجائب الدنيا ويقال أنه لم يكن في جميع بلاد المسلمين دار كتب أعظم من التي كانت بالقصر الفاطمي». ولكنها تعرضت للسلب والنهب وبيعت أكثر مجلداتها، واستمرت بعدها عدة محاولات لإنشاء مكتبة عامة وطنية. ولكن نتيجة لتقهقر موقع مصر من دولة مستقلة إلى مجرد ولاية عثمانية خرجت من مصر بطريق السرقة آلاف المخطوطات والكتب النادرة التي استقرت في مكتبات ومتاحف أوروبا. ثم جاءت الحملة الفرنسية لتستولي بدورها على العديد من المخطوطات النادرة التي عرفت طريقها إلى المكتبة الأهلية في باريس.

 نشأة الكتبخانة

ظلت مصر تعاني من الجهل بقيمة الممتلكات الثقافية التي تمتلكها نتيجة عدم وجود تشريعات تحمي هذه الممتلكات وتمنع الاتجار فيها. وبذلك تعرضت العديد من المقتنيات الثمينة للنهب والسرقة إما بجهل بقيمتها أو ببيعها وتهريبها إلى الخارج. وكان أول من تنبه إلى خطورة ذلك هو “علي باشا مبارك” مدير ديوان المدارس الذي عاش في فرنسا فترة غير قصيرة ابتداء من عام 1844 ضمن البعثة التي أوفدت لدراسة العلوم العسكرية. وشاهد بنفسه المكتبة الوطنية بباريس وكيف تحتفظ الدول المتحضرة بتراثها الثقافي.

وعندما عاد إلى مصر اقترح على الخديو إسماعيل إنشاء دار كتب على نمط المكتبة الوطنية بباريس. وبالفعل أصدر الخديو إسماعيل قرارا في 23 مارس 1870 أسند فيه إلى علي مبارك جمع المخطوطات النفيسة التي لم تصل إليها يد التبديد. لتكون نواة لمكتبة عامة ضمت في أول عهدها نحو عشرين ألفا من المجلدات والمراجع والخرائط هي كل ما أمكن إنقاذه في هذا الوقت من تراث مصر المخطوط وأوائل المطبوعات. وضم إليها أيضا كتب “المكتبة الأهلية القديمة” وهي التي أنشأها محمد علي. وخصص لها مكانا في القلعة حُفظت فيها كتبه الخاصة ومجموعة أخرى من الكتب العربية والفارسية.

درب الجماميز

وهكذا من هذه المجموعات تكونت “الكتبخانة الخديوية” وجعل مقرها بالطابق الأرضي بسراي الأمير “مصطفى فاضل باشا” شقيق الخديو إسماعيل بدرب الجماميز بجوار ديوان المدراس. وأتيح الانتفاع بالكتبخانة لجمهور القراء في يوم 24 سبتمبر 1870. كأول دار للكتب وأقدم مكتبة وطنية تنشأ في الشرق الأوسط في العصر الحديث.

وفيما بعد ألحقت مكتبة الأمير مصطفى فاضل إلى الكتبخانة. وذلك بعد وفاته وعندما ضاق الطابق الأرضي بسرايا مصطفى فاضل بمجموعات الكتبخانة وخشي كذلك من تسرب الرطوبة إلى المخطوطات. إذ نقلت المخطوطات سنة 1889 إلى السلاملك بنفس السراي. ومع تزايد رصيد المقتنيات أصدر الخديو توفيق عام 1895 بعمل مشروع لبناء مكان واسع يليق بحفظ ما فيها من ذخائر. ولم ينفذ المشروع سوى في عام 1899 في عهد الخديو عباس حلمي الثاني الذي وضع حجر الأساس للمبنى الجديد في ميدان باب الخلق.

دار الكتب تنتقل إلى شارع الصحافة

شارع الصحافة اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين يختلف عن شارع الصحافة في بداية القرن العشرين وكذلك عنه في منتصف القرن العشرين. وعندما تقرر نقل الكتبخانة إلى ميدان باب الخلق في نهاية شارع محمد علي كان هذا الشارع هو شارع الصحافة وقتها. ومقر الحركة الصحافية والسياسية والفكرية والاجتماعية والفنية.

فمن الصحف التي اتخذت مكانها فيه: الفلاح والمؤيد والأفكار والدستور والمحروسة والحال. ومن المجلات الصاعقة والخلاعة والأرغول وحمارة منيتي والنهج القويم ونور الإسلام. وقامت في نفس الشارع مكاتب الخطاطين ومحلات الزنكوغراف وتجليد الكتب والمطابع والمكتبات الخاصة، فكانت الحركة لا تهدأ فيه طوال النهار حتى آخر الليل. فترى طلبة المدارس يروحون ويغدون ويترددون على دور الصحف وندوات الأدباء. ومن أشهر مرتادي هذا الشارع كان الزعيم مصطفى كامل وأحمد تيمور باشا ومحمد توفيق البكري والشيخ علي يوسف وإبراهيم المويلحي والمنفلوطي وحافظ إبراهيم وحسن الزيات والعقاد والمازني وطه حسين والدكتور هيكل.

ونظرا لقرب محكمة الاستئناف من شارع محمد علي، فقد اتخذ محامون كثيرون مكاتبهم فيه ومنهم سعد زغلول. فكانت رائحة الأدب والعلم والفن تفوح من جنبات الشارع الذي يبدأ من ميدان العتبة إلى ميدان القلعة. فيمكن القول بأن الشارع أصبح بمثابة جامعة كبرى تخرج فيها كبار الأدباء والشعراء والصحفيين. وازدادت مكانة شارع محمد علي العلمية بعد أن تم إنشاء دار الكتب عام 1903 على طراز عربي وألحق بها متحف الآثار الإسلامية. وقد كانت فيما مضى قصر يملكه محمد ثابت باشا ناظر الأشغال في عهد محمد علي، ثم اشترته الحكومة وجعلته مقرا لمحكمة الاستئناف. وعندما تم تشييد مبنى جديد لمحكمة الاستئناف سنة 1900 هدم القصر وتقرر بناء دار الكتب في موضعه. ونقلت إليه الكتب من مكتبة درب الجماميز، وفتحت الدار الجديدة أبوابها للجمهور لأول مرة عام 1904. وكانت الدار بباب الخلق مقصدا لكل رجال الأدب والفكر وقتها.

  مديرو دار الكتب

مر على دار الكتب منذ إنشائها ثلاث مراحل في الإدارة. بدأت بالمرحلة الأجنبية ثم المصرية وأخيرا عهد المديرين العاملين بالدار. بدأت مرحلة الإدارة الأجنبية للدار منذ إنشائها في درب الجماميز عام 1870 واستمرت حتى عام 1914. كان جميع المديرين من العلماء الألمان أولهم الدكتور شتيرن واستمر حتى عام 1883. ثم الدكتور سبيتا حتى عام 1889 والدكتور فولرر حتى 1896.

ثم الدكتور برنارد مورتيز وهو صاحب اقتراح نقل الدار من درب الجماميز إلى ميدان باب الخلق واستمرت فترة رئاسته للدار حتى عام 1911. وآخر عالم أجنبي تولى رئاسة دار الكتب هو الدكتور شادة وترك الدار عام 1914. وبعدها جاءت المرحلة الثانية لإدارة دار الكتب وشغل منصب المدير شخصيات مصرية عامة وبارزة في مجال الفكر والأدب. وفي مقدمتهم أحمد لطفي السيد وهو أول مدير مصري لدار الكتب. ثم جاء بعده أحمد صادق بك وعبدالحميد أبوهيف والدكتور منصور فهمي. وانتهت تلك المرحلة بتولى الأديب الكبير توفيق الحكيم إدارة الدار من عام 1951 حتى عام 1957. وفي تلك المرحلة تولى منصب وكيل الدار مجموعة من رجال الفكر والثقافة ومنهم حافظ إبراهيم وأحمد رامي ويحيى حقي. ثم كانت المرحلة الثالثة وهى مرحلة التكنوقراط وهم المديرون الذين تدرجوا في سلك وظائف الدار حتى وصلوا لمنصب المدير العام.

مديرو دار الكتب
مديرو دار الكتب
دخول المرأة دار الكتب

ظل دخول دار الكتب مقصورا على الرجال حتى ثلاثينيات القرن الماضي عندما دخلت السيدات الجامعة. فخصصت الدار أربعة مقاعد فقط لجلوس السيدات في نهاية قاعة المطالعة. ولم يكن يسمح لأحد من الرجال بالجلوس قريبا من هذه المقاعد، وكانت مقاعد النساء لا تشغل إلا نادرا.

ويذكر “محمد سيد كيلاني” في دراسته عن شارع “محمد علي” أنه كثيرا ما حدثت منازعات بين الموظفين وبعض زوار الدار بسبب مخالفة هذا النظام الصارم الذي يقضي بالفصل بين الجنسين. وقد حدث ذات يوم أن أحد المحامين دخل قاعة المطالعة. ومعه إحدى السيدات للاطلاع على صحيفة الوقائع المصرية لأمر ما، وجلسا معا في مكان السيدات. فمر الأمين الأول وشاهد هذا المنظر الذي كان يبدو غريبا جدا في ذلك الوقت. وهو وجود رجل وإلى جانبه امرأة فصاح بأعلى صوته مرسلا عبارات الاستنكار. وطلب من الرجل أن يغادر موضعه في الحال ويجلس في مقاعد الرجال. وحاول المحامي أن يتفاهم مع الأمين دون جدوى وعلا الصياح من الجانبين.

وكادت تحدث معركة حامية وأخيرا وافق الأمين على أن ينتقل الرجل والسيدة إلى حجرته الخاصة ويجلسان بالقرب منه حتى يكونا تحت رقابته. وفي الخمسينيات عندما تكاثر عدد الزوار من السيدات سمحت الدار للمشاركة في المقاعد بين الجنسين. حتى وصلت المرأة إلى أن تصبح موظفة في دار الكتب في الستينيات من القرن الماضي.

نقل الدار إلى كورنيش النيل

في عام 1937 أصبحت دار الكتب في باب الخلق بحالتها وقتها غير صالحة لأن تكون مكتبة يطلب إليها أداء رسالتها على أكمل وجه. حيث ضاق المبنى على استيعاب مجموعات الكتب التي أخذت في التزايد. وأصبح لابد من إنشاء مبنى جديد تتوافر فيه الإمكانات لاستيعاب الكتب والوثائق. وبالفعل تمت الموافقة في مارس 1938 على عمل مسابقة لوضع التصميمات اللازمة للمبنى والتي تتفق مع الاحتياجات الحديثة للمكتبة. واعتمد للبدء في تنفيذ الدار الجديدة مبلغ 150 ألف جنيه وأقرت وزارة المعارف التصميمات بتاريخ 21 مايو 1938.

وكان من المقرر البدء في البناء في العام التالي غير أن نشوب الحرب العالمية الثانية عطلت بدء البناء إلى أجل غير مسمى. وفي 23 يوليو 1961 سجل عيد الثورة حدثا جديدا في تاريخ دار الكتب. عندما وضع حجر الأساس لمبناها الجديد على كورنيش النيل بمنطقة رملة بولاق. ورصد له مبلغ مليون وأربعمائة ألف جنيه ووضع في الخطة الانتهاء من المبنى ليكون جاهزا لاستقبال مقتنيات الدار في عام 1971 متزامنا مع العيد المئوي لدار الكتب. وقد تأخرت عملية النقل حتى عام 1972. واستمرت عملية النقل عدة أشهر كانت حديث الصحف والإعلام وقتها. حيث كانت تجري عملية النقل وسط حراسة مشددة جدا من رجال الشرطة.

80 ألف مخطوط

وتم نقل مخطوطات نادرة يصل عددها إلى 80 ألف مخطوطة ومن ضمن الإجراءات التي اتخذت وقتها هو عدم تشغيل التيار الكهربائي في مبنى باب الخلق. خشية من حدوث حريق أثناء عملية النقل فتم كل شيء على أضواء النهار. ومن أبرز المخطوطات والمقتنيات في الدار مصحف يرجع تاريخه إلى عام 77هـ. بالإضافة إلى مجموعة نادرة من المصاحف المملوكية وكذلك مجموعات نادرة من المخطوطات الفارسية. وكذلك النسخة الوحيدة من مخطوط كتاب “الرسالة في أصول الفقه” للإمام الشافعي.

وقد ضمت الدار أيضا مكتبات غنية أثرت رصيدها من المخطوطات. مثل مكتبة قولة التي أنشأها محمد علي في مدينة قولة ومكتبة الأمير إبراهيم حليم ومكتبة خليل أغا. ومكتبة الإمام محمد عبده وقوت القلوب والأمير محمد علي ويوسف كمال ورقية حليم وغيرها من المكتبات التي ضمت الآلاف من المخطوطات والمجموعات النادرة. وكل ذلك جعل عملية النقل من باب الخلق إلى كورنيش النيل تشبه العمليات الحربية من حيث التأمين والحرص الشديد على التعامل بحرص مع كراتين الكتب والمقتنيات.

اقرأ أيضا:

«طه حسين» في السينما والتليفزيون

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر