مواجهة الثأر.. آذان وزارة الثقافة الصماء

للمؤسسات الثقافية آذان من طين وعجين تَظْهَر في القضايا التي تخصها، لكنها لا تفكر في الالتفات إليها، كما هو الحال في ظاهرة القتل الثأري. لا توجد إحصائية رسمية بعدد ضحايا الثأر، لكن العدد في أقل التوقعات مرعبٌ، ووفق بوابة الأهرام في 13/12/2021، يوجد الآن مائة وأربع وثلاثون خصومة ثأرية في محافظة قنا وحدها.

لنا أن نتخيل عدد الضحايا في بقية المحافظات، وفي ظل سقوط أكثر من إنسان في الخصومة الواحدة، ونحن نعرف أن الخصومة قد تمتد إلى سنوات، وقد تصل فيها الأمور إلى حد التناحر الذي يذهب بأرواح الكثيرين.

**

المؤسسات الثقافية لا علاقة لها بكل هذا الدم، وتلك جريمة كبيرة في حق بلادنا وشعبنا، لأن الثأر مشكلة ثقافية في المقام الأول.

الذين يتورطون في الثأر ليسوا مجرمين، كلُّ إنسان في قرى الصعيد يمكن أن يسقط في مستنقع الثأر مهما كان مسالما، لأنه أضعف من المجال الحيوي للظاهرة، أضعف من مواجهة المجتمع بمفرده.

الثأر في الصعيد سلوك اضطراري. وأغلب المتورطين فيه غير مؤهلين حتى لحمل البندقية، بعكس ما يعتقد البعض.  الثأر ورطة كبيرة، وله أثمان باهظة، والصعيدي أول من يحلم بالتخلص من تلك الورطة، لأنه يدفع الثمن من حياة أعز الناس إليه بخلاف الالتزامات المادية التي تفوق إمكانيات الناس مثل تكاليف المحامين وزيارة المساجين وغيرها.

**

الصعيدي يحتاج إلى يد تساعده وتسحبه من مستنقع الثأر، ويجب أن يجد يد المثقف في المقدمة، يجب نزع الطين والعجين من آذان المؤسسات الثقافية.

الثأر مشكلة إنسانية، لكنها تمس وجه الدولة وتعبر عن حالة من التخلف تنسف أو تجرح كل دعاوى التقدم.  الثأر يجلب العار لكل منظومة بناء الإنسان، وفي مقدمتها المؤسسات الثقافية التي ترفع راية الرقي الإنساني، وتصرف المليارات على المؤتمرات والتظاهرات المختلفة، لكنها لا تكترث بدماء الناس، ولا تفكر في مواجهة مظهر من أكبر مظاهر التخلف.

لا يمكن لظاهرة بدائية أن تستمر وهي تواجه مقاومة، لا يمكن أن ينشط القتل الثأري إلا بوجود فراغ ما، ودور المؤسسات الثقافية أكبر من إعلان رفض الثأر، أو النظر باستياء لهؤلاء المتورطين في الدم.

دور المؤسسات الثقافية يجب أن يستهدف الفراغ الذي يخلق المجال الحيوي للظاهرة. دورها الفعلي في مقاومة العنف على مستوى الجذور قبل الفروع، ومن أبسط واجباتها إدارة حوار مجتمعي حول الظاهرة.  من أبسط واجباتها النزول إلى الناس ومعاونتهم في مراجعة الظواهر التقليدية القديمة في ظل الأوضاع الحديثة التي نسفت الكثير من الأسس التي قامت عليها تلك الظواهر وأفقدتها قيمتها ومعناها.

هناك مساحات كبيرة وكثيرة مفتوحة أمام العمل الثقافي كي يلعب دورا فعالا في حقن الدماء ومحاصرة العنف بكل مظاهرة. ولا بد من استغلال تلك المساحات بخطط وبرامج، وهناك اقتراحات كثيرة يمكن تقديمها.  لكن لدينا تقليد أكبر، لدينا آذان تتحول إلى طين وعجينٍ متى تعلق الأمر بواجب حقيقي لا نود القيام به.

**

لا أريد التقليل من أي فعل ثقافي، لكن هناك قضايا كثيرة حظيت باهتمام وزارة الثقافة، وهي لا تُقارن بقضية الثأر من حيث أخطارها على المجتمع وتأثيرها على صورة الدولة.

ما زلت عاجزا عن فهم سبب تجاهل وزارة الثقافة لتلك الدماء. ولا أفهم لماذا لم تخصص مؤتمرا واحدا لثقافة الثأر، في ظل المؤتمرات السنوية الكثيرة التي تقيمها؟

سنة 2009 قدَّمتُ ورقة لوزير الثقافة بعمل أنشطة ثقافية مضادة لثقافة الثأر.  بيَّنت فيها النقاط التي يمكن استغلالها، وحرصتُ على أن تكون الأنشطة غير مكلفة، بحيث لا ترتفع  ميزانية ألف فعالية ثقافية عن ميزانية مؤتمر واحد، ولا أعرف حتى الآن مصير هذه الخطة.

ترددتُ يومها وأنا أقدم الورقة، لقد قال الشيطان لي: أن الوزارة سوف تستغل الفكرة في عمل عدة أنشطة سطحية وزائفة باسم مواجهة الثأر، حتى تغسل يدها من الدم، وتثبت أن أهل الصعيد يستحقون ما يحدث لهم.

كنت ساذجا وقتها، لأن ثقافة الثأر في اعتقادهم لا علاقة لها بوزارة الثقافة من قريب أو بعيد. وما زلت ساذجا لا أقدِّر حجم الطين والعجين.  ومع ذلك لا بد من مطالبة وزارة  الثقافة بوضع القتل الثأري في خطتها، وإدارة حوار مجتمعي حوله. لا بد من مطالبة كل المؤسسات الثقافية بالنزول إلى الصعيد ومعاونة الناس في الخروج من مستنقع الثأر.

اقرأ أيضا:

الأزهر والثأر: كيف يمكن تجفيف منابع العنف؟

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر