لماذا ابتذلت القاهرة؟ القلعة بين الفاطميين والأيوبيين

“فصارت القاهرة مدينة سكنى، بعد ما كانت حصنًا يُعتقل به، ودار خلافة يلتجأ إليها، فهانت بعد العز، وابتذلت بعد الاحترام”. بهذه العبارة الموجزة يلخص المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي، التحول الذي طرأ على القاهرة في لحظة انتقال بين عصرين ودولتين، الخلافة الفاطمية والسلطنة الأيوبية. فبعد إسقاط صلاح الدين الأيوبي لدولة الفاطميين العام 567هـ/ 1171م، وقع حدث ترك أثره الحاسم في تاريخ المدينة العريقة إلى الأبد. فما حدث يرتبط أساسا بفكرة السلطة الفاطمية والأيوبية في تحصين نفسها أمام بقية الرعية. هنا نلتقي بهاجس الأمن الذي سيطر على التجربتين وأنتج قلعتين، واحدة في سهل منبسط وأخرى فوق الجبل. وفي كل الحالتين ارتبط مصير المدينة برؤية أهل السلطة وشكل علاقتهم بالمحكومين.

الهاجس الأمني في تحصين السلطة لنفسها أمام بقية الشعب قاد إلى تحديد العلاقة العمرانية بين مقر الحكم ومحيطها العمراني في التجربة الفاطمية. فالفاطميون شيعة إسماعيلية، جاءوا بغزو عسكري من جهة المغرب، وسيطروا على مصر عسكريا بقوات بربرية (أمازيغية). فهنا وجدنا سلطة مختلفة مذهبيا وعرقيا عن النسيج المصري المكون من أغلبية قبطية وكتلة سنية ضخمة. لذا فكر في بناء حصن يحتمي فيه هو وجنوده الأغراب لحين استقرار نظام الفاطميين الجديد، فترك عاصمة مصر وقتذاك، مدينة الفسطاط، وابتعد عنها شمالا، وبنى حصنا عرف باسم القاهرة. إذ يقول المقريزي: “فبنى القاهرة حصنا ومعقلا بين يدي المدينة [الفسطاط]”.

**

اللافت أن القائد الفاطمي أحاط القاهرة بسور من الطوب اللبن، ليستكمل بناء الحصن ويخلق لنا أول مدينة مسورة في تاريخ مصر الإسلامية. إذ لم تبنى أسوار حول مدن الفسطاط والعسكر والقطائع. وهي المدن السابقة على القاهرة تاريخيا والتي ورثتها جميعا في ما بعد، والهدف العسكري من بناء القاهرة هو الحاسم هنا. فجوهر “أعدها معقلا يتحصن به وتنزله عساكره، واحتفر الخندق من الجهة الشامية ليمنع اقتحام عساكر القرامطة إلى القاهرة وما وراءها من المدينة”. على حد وصف المقريزي.

القاهرة في لحظة تأسيسها إذن كانت قلعة على الحقيقة، غرضها حماية من بداخلها. وهو ما يؤكده الرحالة والجغرافي ابن حوقل (ت 367هـ/ 977م) الذي زار القاهرة بُعيد تأسيسها. إذ يقول إن القاهرة أحدق بها “سور منيع رفيع يزيد على ثلاثة أضعاف ما بني بها، وهي خالية كأنها تُركت محالًا للسائمة عند حصول خوف”. وهو نص يعبر عن النشأة الحربية للمدينة، بترك مساحات واسعة داخل الأسوار لاستيعاب فرق الجيش الفاطمي الضخم. أي حماية النخبة الحاكمة الجديدة.

باب النصر
باب النصر

ويمكن اعتبار إحاطة السور بالمدينة، تكريسًا لشعور السلطة الجديدة بالغربة عن المحيط السني المسيحي لمصر حينذاك. فالجيش الفاطمي هو في حقيقته جيش غزو مزود بعناصر قبلية غريبة في العموم عن المصريين. ويعتنق المذهب الإسماعيلي الشيعي، وهو مخالف عن مذهب غالبية مسلمي مصر من أهل السنة. ومخالف عن معتقدات أغلبية السكان غير المسلمة بطبيعة الحال. لذا كانت الأسوار في جزء منها تعبيرًا عن رغبة الحكام الجدد في الانزواء ونظرتهم بحذر لأهالي الفسطاط السنة وبقية مجموع السكان المصريين.

**

ويعكس حصن القاهرة شعور الفاطميين بالانعزال عن مجموع السكان. وهو ما عبر عنه صراحة المؤرخ المملوكي ابن دقماق (ت 809هـ/ 1406م) بقوله إن جوهرًا بنى القاهرة لسيده المعز “ليكون هو وأصحابه وأجناده بمعزل عن العامة”. فالقاهرة في بدايتها كانت مجرد حصن ملكي لخليفة أجنبي (غازي) وحاشيته لكي يمارس حياتهم بشكل طبيعي داخل الأسوار المحصنة. بينما ظلت الفسطاط هي مركز الحياة التجارية لمصر. فتحولت القاهرة إلى مدينة ملوكية تحمي من بداخلها، فـ”لم تزل القاهرة دار خلافة ومنزل مُلك ومعقل قتال، لا ينزلها إلا الخليفة وعساكره وخواصه الذين يُشرفهم بقربه فقط”. هكذا يقول المقريزي.

مع سقوط الخلافة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي، ظهرت سلطة جديدة هي الدولة الأيوبية. هنا نتقابل مع قوة خارجية مكونة من العرق الكردي بقيادة صلاح الدين، ومذهب جديد هو الأشعرية. أي أنها غريبة عن الكتلة السكنية للقاهرة التي تعتنق المذهب الإسماعيلي في الأغلب، وتميل بولائها إلى الخلافة الفاطمية المنهارة. لذا توجس الأيوبيون من ولاء ساكني الحصن القديم للفاطميين. لذا بدأ التفكير سريعا في بناء حصن جديد تحتمي فيه السلطة الأيوبية من أي محاولة من أنصار الفاطميين لإعادتهم للحكم. اللافت أن صلاح الدين بدأ في تنفيذ مشروع قلعة الجبل بعد أشهر من فشل محاولة انقلابية لأنصار الفاطميين شارك فيها الشاعر عمارة اليمني.

**

قلعة الجبل إذن في التصور الأولي ذات هدف أساسي هو حماية السلطة الأيوبية الجديدة التي سيطرت على وسط معاد لها. يقول المقريزي إن سبب بناء صلاح الدين لقلعة الجبل إنه “لم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر… وأحب أن يجعل لنفسه معقلا بمصر”. توازي ذلك مع نظرة صلاح الدين إلى القاهرة المسورة باعتبارها المكان الذي يضم خصومه السياسيين من بقايا الإسماعيلية. لذا لم يأمن على نفسه فيها إلا بعد أن أسكن جنوده الأكراد في المدينة، وقسم عليهم القصور الفاطمية ليسكنوها. هنا ابتذلت المدينة وفتحت لسكنى العامة، ولم تعد ذلك الحصن الذي بناه الفاطميون ليتحصنوا فيه أمام بقية المصريين.

قلعة صلاح الدين الأيوبي
قلعة صلاح الدين الأيوبي

لكن أعمال البناء في قلعة الجبل تعطلت بسبب حروب صلاح الدين في الشام ضد المسلمين والصليبيين. ثم الصراعات الداخلية بين أبناء البيت الأيوبي بعد وفاة صلاح الدين. ولما عاد الاستقرار بتولي السلطان العادل بن أيوب السلطة العليا في البيت الأيوبي، جعل ابنه الكامل محمد حاكما على مصر، والذي استكمل عمليات البناء في قلعة الجبل. وانتقل إليها رسميا منذ العام 604هـ/ 1208م. واللافت أنه لم ينتقل وحده إلى القلعة بل اصطحب معه أولاد الخليفة الفاطمي الأخير العاضد وأقاربه وسجنهم في بيت في القلعة. فهنا نرى لمحة من الإجراءات الأمنية التي اتبعتها الدولة الأيوبية التي رأت في بقايا الفاطميين خطرا. لذا حملتهم معها إلى حصنها الجديد، حتى تمنع اتصالهم بأنصارهم.

رؤية جديدة

إن فلسفة بناء قلعة الجبل كما هي فلسفة بناء حصن القاهرة، وهي حماية السلطة الغريبة عن بقية المصريين. أي أن هذه الحصون لم تكن هدفها دفاعي ضد القوى الخارجية كما يتبادر للذهن. بل هدفها في المقام الأول هو عزل النخبة الحاكمة عن بقية المصريين، أي فاصل مادي بين الحكام والمحكومين. حصن يتحصن فيه السلطان من أي ثورة شعبية ضده، ورمز مادي استعراضي يؤكد على استعلاء السلطة وحصانتها أمام بقية الشعب.

فالقاهرة بأسوارها العالية هي أول ما يراه القادم من مدينة الفسطاط. حيث الغالبية العظمى من سكان العاصمة، وقلعة الجبل بأسوارها الشاهقة فوق الجبل تبدو مهيمنة على فضاء المدينة كله وتبعث برسالة هيمنة السلطة على فضاء المدينة كله. وهو ما تأكد أكثر مع سلطنة المملوكية التي خلفت الأيوبيين. إذ كونها مكونة من طبقة مغلقة على ذاتها من المماليك الأرقاء، كان حضور القلعة أساسيا برمزيتها ودورها. لذا لا نذيع سرا عندما إن القلعة لم تستخدم في الدفاع عن العاصمة المصرية قط، ولم تختبر كمركز دفاعي عن المدينة أبدًا. بل أنها استخدمت في جميع الأحوال لحماية النخبة الحاكمة، والصراع الدائر بين أبنائها على طول التاريخ المملوكي.

يفسر هذا التحليل كلمة المقريزي عن “ابتذال” القاهرة، بعد سقوط الخلافة الفاطمية، ففي الحقيقة أن القاهرة فقدت مع الأيوبيين دورها كحصن للسلطة. لذا فتح هذا الحصن الملكي بشكل كلي لسكنى العامة والجنود الأكراد، لأن الأيوبيين لم يشعروا بالأمان في القاهرة التي هي معقل أنصار الفاطميين وإتباع المذهب الإسماعيلي. أي أنها فقدت دورها كحصن تحتمي السلطة الحاكمة داخله، لذا قرر صلاح الدين الأيوبي سريعا البحث عن حصن جديد للنخبة الجديدة. فوقع الاختيار على جبل المقطم لبناء قلعة الجبل، التي ستصبح رمز السلطة في مصر لقرون طويلة.

اقرأ أيضا:

«الدرب الأحمر».. أكاذيب منشورة وأصل مملوكي منسي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر