عزة كامل تكتب: 7 مشاهد من حياة هاني شكر الله

مشهد (1)

كان هذا في عام 1974 أجد نفسي ولم أكمل عامي الرابع عشر في “القناطر الخيرية”. وفي صحبة زمرة من طلاب وطالبات جامعة القاهرة من كليات مختلفة، هاني شكر الله، نجيب الجويلي، محمد فراج، سميحة الكفراوى، أنور زينهم، هالة شكر الله، أمل جمال، رضوان الكاشف، سمير حسني، أنور مغيث وغيرهم، كانوا يرددون أغانى الشيح إمام ضد أنظمة القهر التي تدين حرية الإنسان، يغنون للوطن وللسجناء. ثم يتبارون في إلقاء بعض قصائد لشعراء المقاومة الفلسطينية وأمل دنقل وبابلو نيرودا ولوركا وناظم حكمت، كان الجو صاخبا ودافئا وحميما كذلك.

ألمح في عيونهم تساؤلات ودهشة من وجود تلك الطفلة بينهم. رأيته يتقدم نحوي ويده اليسرى في جيب بنطلونه الجينز وكأنه شعر بارتباكي وخجلي. ومد يده بالسلام وقال بصوت دافئ: “هاني شكر الله”، فرددت بصوت لا يكاد يسمع “عزة”. ضحك ضحكته المميزة وقال: “أنت حبيبة رضوان”، وكانت هذه بداية تعرفي بهاني ثم صداقة قوية جدا، لم تقتصر عليه فقط، بل امتدت لتشمل كل أسرة آل شكر الله.

مشهد (2)

دائما ما ترحل ذاكرتي إلى ذلك المكان “5 شارع خان يونس”. يحمل ذلك العنوان ذكريات مشبعة بقصص وحكايات ومواقف وطرائف وأحداث تحمل نكهة الزمن لسنوات. ويشكل ذلك البيت مناخا مدهشا يصلح عالما روائيا بامتياز. فهو الذي رسم عالمي الأول، وأحدث نقلة نوعية في مسار حياتي، وكذلك صار مدخلا لصداقة نادرة مع هاني شكر الله امتدت إلى يوم رحيله، وما بعد رحيله أيضا.

كنا نجتمع دائما في هذا البيت لتحتضنا “طنط جانيت”، وتعاملنا بحب وحنو، أحباء أولادها الذين هم أحبابها، والأب إبراهيم شكر الله المثقف المتفتح، والشاعر الرقيق، الذي لم تمنعه طبيعة عمله ومسؤوليته من أن يكتب الشعر. مازلت احتفظ بديوانه: “مواقف العشق والهوان وطيور البحر” في مكتبتي، وأعود لقراءته من وقت لآخر. وعلمت بعد ذلك من خلال حواراتي الكثيرة معه، أنه كتب مسرحية تختص بالشعر العربي عنوانها: “رحلة السندباد الأخيرة”. وأنه ألف كتابا عن التصوف، وكيفية إتباع المذهب الصوفي، وكانت قضيته الكبرى هي قضية فلسطينن. وكان إبراهيم شكر الله مفعما ببلاغة السخرية التي ترصد وتفضح قوانين اللعبة الثقافية والسياسية. ودائما كان يقول: “الفانتازيا وامتزاج الخيال بالواقع في مجتمعنا يفوق الخيال”. لقد أورث الأب ابنه “هاني” هذه السخرية اللاذعة، سخرية مشبعة برؤية نقدية للعالم، وكذلك أورثه الجرأة والشغف والعناد والإصرار وحب الحياة بالحواس الخمس.

هاني شكر الله
هاني شكر الله
مشهد (3)

مر الزمن بكل ما جرى فيه، وأصبحت أمّا لطفلة عنيدة، هي عائدة الكاشف، تربت في كنف أسرة “شارع خان يونس” وأغدقها هاني بكل الحب والدلال. كما أغدق هذا الحب على ابنه حسام، وأطفال أخواته علاء وهالة وأصدقائه رضوان الكاشف وسمير حسني ودينا الخولي. كان له طريقته الخاصة في التعامل مع أولادنا، يتكرر مشهد اصطحاب هاني لـ”سلمى ومايا وعايدة وليلى” لمحل “كاش آند كارى” الذي كان يبتعد عن منزله ببضعة أمتار ليشترى لهم “الحلوى” وأحدث الألعاب. وكذلك بعض أفلام الفيديو، ويصرف بحب كل ما في جيبه تلبية لرغباتهم التي لا تنتهى. ودائما ما كان يشجعهم على القراءة، لا يقدم لهم نصائح أو مواعظ. لذلك أحبه أطفالنا، وكانوا ينادونه باسمه دون أي ألقاب، وعندما صاروا كبارا كان بالنسبة لهم المعلم والصديق، لقد كان له تميزه الخاص في مد جسور التواصل بينه وبين الأجيال المختلفة.

مشهد (4)

أدخل معه إلى المطبخ، يشعل سيجارة ويبدأ في تجهيز خلطة تشمل بهارات عجيبة لحشو دجاجة أو أكثر. ينظر لي بمكر ويقول بفخر: حأكلك النهاردة: stuffed chicken فأقول له بغيظ يعنى حتخسر حاجة لما تقول فراخ محشية. أنت فاكر لما تقولها بالإنجليزى حأفتكر إنك بتعمل طبخة محصلتش؟، يضحك حتى تغمض عيناه، ويقول بطلي غلبة، كانت أعظم فراخ محشية أكلتها من إيد هاني.

وفي أثناء انشغاله بحشو الفرحة كان يحكى لي عن هزيمة 67، تلك الهزيمة التي شكلت حياته وبعدها معركة الكرامة وانطلاق الثورة الفلسطينية والكفاح المسلح، ومذبحة الأردن. يشعل سيجارة مرة أخرى ويمسد شعره، يأحذ نفسا عميقا من السيجارة، فتغلفه سحابة من الدخان. ويبدو كأنني أرى حلما أو مشهدا سينمائيا: “أيامها كنت في كندا في أواخر 68، وكان يتم إعداد مؤتمر مع المنظمات الكندية في مونتريال للتضامن مع الثورة الفلسطنية. فاقترحت عليهم دعوة “الفهود السود”، ستوكلي كار مايكل، وأنجيلا ديفيز، ومالكوم إكس، وقتها كان أبويا مسؤول مكتب نيويورك، “روحت رايحة نيويورك وركبت المترو لـ”هارلم” الحي اللى كان بيترعب منه الجميع، وسألت: فين مكتب “الفهود السود”؟، فدلوني عليه، ونجحت في مهمتي وشاركوا في المؤتمر”.

**

تلمع عيناى فأسأله: طيب يا هاني انضميت لحزب العمال إزاى؟ يرد: زين، زين العابدين فؤاد اتعرفت عليه في ندوات الجامعة، وقتها كان في كلية آداب. في يوم كنت ماشي مع زين وأخبرني عن الحزب، وانضميت لأني كنت من قيادات الحركة الطلابية وقتها، راح يحكى عن أسرة عبدالحكم الجراحي ومجلات الحائط ونادى السينما، الذي كان يديره يسرى نصرالله. يحكى عن محاصرة قوات الأمن المركزى للطلاب وعن السادات وزيارته لإسرائيل و18 و19 يناير، يحكى عن سايغون وسلفادور الليندى وتشى جيفارا وعن رفاق الخندق.

يحكى هاني وسط سحابة الدخان الكثيفة، وأنا أستمع وأذهب بعدها لأفتش عن الشخصيات التي تحدث عنها مع أصدقاء آخرين. أبحث في الكتب والمقالات، تعاودني الذاكرة لموضوعات النقاش في السهرات الممتدة في منزله الذي تمتزج فيها السياسة بالفن بالأدب بالموسيقى، والكلام عن الحب والزواج والهجر. كانت علاقتي الإنسانية به بوتقة للتعلم والمعرفة بالكثير من الأمور والقضايا، طوال مسيرته سعى لكي يأخذ نضاله السياسي إلى فضاء إنساني أعمق من دائرة الالتزام السياسي الضيق. اقتحمت السياسة هاني في أبعادها المحلية كما في أبعادها العالمية. انتقل من ثورى حالم وطموح إلى ثورى واع بضرورة التنظيم والعمل. اتخذ من كتاباته بوتقة مشتعلة للتعبير عن مواقفه الثابتة ونضاله من أجل الديمقراطية وحرية التنظيم. دائما ما كانت لديه شرفة مفتوحة، يعرف مايريد من المعاني ويسوس حروف الأبجدية ليصنع قاموسه السحري.

مشهد (5)

في ديربان “جنوب إفريقيا ” عام 2001، ذهبت مع “هاني” للمشاركة في مؤتمر “مكافحة العنصرية والتمييز العنصري”. وكان في صحبتنا عدد من الأصدقاء: أمير سالم وجلال الجميعي، وشاهندة مقلد، وتهاني الجبالي، وفي كل يوم ولمدة أسبوع بعد حضور مكثف للفاعليات والندوات، كنا نذهب لشاطئ البحر. ودائما ما يكون النقاش بين جلال وهاني عن التنظيم. وما انتهى عليه وكنت أصرخ فيهما استمتعوا بالبحر، فيقول هاني بسرعة: “نعم ياللا نستمتع بالبحر”.

وفي إحدى المرات ذهبنا إلى السوبر ماركت بصحبة أمير وجلال، ودخل علينا اثنان، كانا يحمل كل منهما مطواة، شهروها في وجه هاني. فوجدنا هاني يلقى بمحفظته إلى الأرض ويقول باللغة العربية التي لا يفهمها اللصوص: متخافوش مش حيأذونى هم عايزين الفلوس. وبعد أن تأكد أحدهم بأن المحفظة بها نقود غادروا مسرعين. ظللنا دقائق صامتين ومتجهمين، وقطع هذا الصمت صوت هاني: “الحرامية ورانا ورانا حتى لو رحنا آخر الدنيا، يالا بقى نحتفل ومنعكننش على نفسنا، أنا معايا فلوس في الفندق حاعزمكم على أكلة سمكة..”.

مشهد (6)

في الأيام الأولى من ثورة يناير كنت مع صديقى “أحمد محمود”. ونحن في طريقنا إلى ميدان التحرير، وعند بوابة العبور، سمعت شابا صغيرا يصرخ بصوت عال: “البنات والستات من هنا، والأولاد والرجال من الممر التاني”، فاستشطت غضبا وقلت له: “لقد صنعنا الثورة رجالا ونساء، وطمحنا للمساواة…”. في هذه الأثناء سمعت أحمد وهو يرد على التليفون: أيوه يا هاني، أنا مع عزة، عزة بتجندر الميدان، طيب حنجيك في الأهرام. وقبل ذهابنا إلى مكتبه، أصريت على البحث عن بائع ورد قريب من الميدان لأشترى باقة ورد حمراء لهاني، وأنجح في الحصول على ثلاث وردات. يستقبلنى بسعادة غامرة ويشكرني على الورود وفورا ننهمك في نقاش مشتعل حول الميدان وشباب الثورة. ويقول: “لايوجد شعب يثور على طول، الجيل ده متمرد على التنظيم، ومش مستعد حد يمثله، أنا مش مستعد أقبل ده. أنا انتهيت من مقال الآن أطرح فيه وجهة نظري، ويقرأ لنا  بعضا منه:

(حكومة مؤقتة: يجب الإسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة من التكنوقراط وشخصيات عامة وسياسية. تحظى باحترام كبير لتتولى إدارة شئون البلاد، ووضع أسس الانتقال إلى ديمقراطية كاملة. إن الحكومة المؤقتة ينبغى أن تكون شاملة، فلا تتضمن فقط ائتلافا من جميع الأطياف الأيديولوجية والفكرية فحسب. ولكن أيضا من مختلف قطاعات المجتمع وعلى الأخص المرأة والأقباط.

دستور مؤقت وقانون للحقوق: تشريع لإزالة بقايا الماضي: في الوقت نفسه، يجب البدء بأسرع ما يمكن في عملية تنظيف شاقة لاسطبلات الاستبداد القذرة. والعمل بأسرع ما يمكن على متابعة أمور مثل إزالة القوانين، ووضع تشريع مؤقت يعكس أهداف الثورة. والأهداف الموضوعة في الدستور المؤقت وقانون الحقوق. وسوف يتضمن هذا كأبرز الأمثلة قانونا جديدا للانتخابات، وتشريعا جديدا لتنظيم جميع مستويات الحكومة المحلية، وإزالة قانون العقوبات من التشريعات المعادية للديمقراطية.

**

جبهة إنقاذ وطنية: هناك العديد من الأفكار العظيمة والبادرات الرامية إلى إنشاء أجهزة تمثيلية وهياكل تنظيمية للثورة.

حزب للشباب: من أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في ثورة الشباب. بلورة خطاب أيديولوجى وسياسى جديد، يبدو أنه تطور من تلقاء نفسه، بعيدا عن الفصائل الأيديولوجية والسياسية المتحاربة في البلاد.

النقابات المستقلة: وأخيرا، تمثل الحركة العمالية المصرية).

خرجت من هذا اللقاء مثقلة بالهموم وبإحساس عميق بأننا في الثورة في مفترق طرق.

مشهد (7)

تمضي بنا الأيام وتمر السنوات، والعالم يتغير من حولنا ونحن أيضا نتغير. تسرق الثورة ولا تتحقق أي من وصفة هاني لإنقاذ وانتصار الثورة. يمرض هاني ويتعرض لوعكات صحية كثيرة ولكنه لا يستسلم ويقاوم المرض، لا تعرف الهزيمة إليه مكانا. ويظل يردد مقولة أحد المؤرخين: “ذاكرة الشعوب المقهورة هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن انتزاعه منها. وطالما بقيت هذه الذاكرة، تبقى الثورة بمقدار بوصة واحدة تحت السطح”. اقرأ على صفحته البيان التأسيسي لموقع بالأحمر. أتصل به لكي أهنئه. فيقول لي: “بطلي بقى التمرد الرومانتيكي، حضري مقال أو أطرحي قضية لموقع بالأحمر”.

نتفق على ميعاد، نتقابل، أطرح عليه فكرة دراسة أريد القيام بها مستوحاة من إحدى دراساته. قدمت له عنوانا: “النسوية المصرية والأوليجاركية”، أخذ يبلور معي مجموعة من الأفكار للإطار التحليلي الذي سأستخدمه. واتفقنا أن نبلور الفكرة معا من خلال عدة لقاءات. رحل هاني ورحلت الفكرة ولم تعد الأيام تشبه نفسها هذه المرة. فقد جرت مياه كثيرة في الأنهار، والتبس الضوء مع العتمة. ومازلت أجد نفسي جالسة ممسكة بثلاث وردات حمراء في انتظار هاني الذي لن يجئ، لروحك السلام ياصديقي.

اقرا أيضا:

ملف| أن تكون هاني شكر الله

هالة شكر الله تكتب: أخي العنيد، الصامت، المتأمل

باسل رمسيس يكتب: هاني شكر الله بين لحظتين

أميرة هويدي تكتب: مديري هاني شكر الله

رندا شعث تكتب: كانت فلسطين دائما في قلبه

خالد جويلى يكتب: طرف من خبر بدايات «هاني»

نادر أندراوس يكتب: «النقد اللاذع لكل ما هو موجود».. الماركسية الممتعة لدى هاني شكر الله

كمال عباس يكتب: أسئلة معلقة إلى «هاني»

أكرم ألفي يكتب: السير على الخط الرفيع

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر