«حجاب» الشفاء وجلب الحبيب.. ألمان يفكون شفرة نصوص السحر القبطية| خاص

«الحجاب» من منا لم يسمع عن الورقة القديمة التي اعتادت الجدات كتابتها ووضعها في لفافة قماش حول رقبة الطفل لحمايته. هذه التميمة كانت محل اهتمام فريق من العلماء من جامعة فورتسبورج الألمانية، عكفوا على مدار خمسة أعوام لدراسة ورقة بردي قديمة عُثِر عليها بمنطقة الفيوم، مُدون عليها نصوص سحرية باللغة القبطية القديمة ضمن مشروع ضخم لدراسة 100 نص قبطي من مصر القديمة انتهوا من دراسة وتحليل 37 تميمة منها.

نصوص سحرية قبطية

وجد الباحثون في هذه البردية سر جديد عن حياة المصريين وهي اكتشاف ممارسات دينية خاصة للتعامل مع أزمات الحياة اليومية في مصر، والتي يعود تاريخها إلى ما بين القرنين الثالث والثاني عشر. جمع الفريق هذه النصوص وشرحها علميًا لأول مرة في مجلد مكون من 600 صفحة. بقيادة د. ريموند كورشي دوسو ود.ماركيتا برينينجر مديري قسم المصريات بجامعة فورتسبورج الألمانية.

في هذه الأوراق القديمة ورسوماتها غير المفهومة، همزة وصل جديدة تشرح الفرق بين المعتقدات الدينية التي آمن بها الأشخاص في مصر قديما، وبين الاستعانة بها لـ“الشعوذة” أو تحقيق معتقداتهم الشخصية. حيث قضى فريق العلماء خمس سنوات لدراسة مجموعة من النصوص السحرية التي كتبت على ورق البردي وأجزاء من الورق والفخار في مصر، لفهم الثقافة والتقاليد المصرية القديمة.

تعود هذه النصوص إلى الفترة من القرن الرابع إلى القرن الثاني عشر الميلادي. وبحسب الدراسة، اُستخدمت هذه المخطوطات السحرية في العديد من الأغراض. كالتأثير على الأفراد، نظرا للإيمان القوي بقدراتها على تحقيق التأثير السحري كالشفاء من الأمراض وإصابة الأعداء بلعنات.

نسخة من البردية بتاريخ إبريل 2019 أثناء دراستها
نسخة من البردية بتاريخ إبريل 2019 أثناء دراستها
تميمة سحرية

“البرديات القبطية السحرية” هو عنوان العمل الذي تم نشره الآن في المجلد “48” من سلسلة أرشيف “أبحاث البردي وملحقاتها”. وتشترك النصوص في أنها كُتبت بالخط واللغة القبطية – المرحلة الأخيرة من تطور اللغة المصرية القديمة – وحلت محل الديموطيقية في حوالي القرن الثاني الميلادي. ثم تم استبدالها تدريجيا مع الفتح العربي لمصر في القرن السابع.

خلال فترة الدراسة، استخدم الفريق تقنيات متطورة لتحليل تركيبة المواد والنصوص المكتوبة عليها. واتضح أن البرديات تضمن تركيبات من الأحبار والأصباغ، واستخدموا أيضا التقنيات الحديثة لتحليل الكتابة والأنماط اللغوية المستخدمة في هذه النصوص السحرية.

من بين مجموعة كبيرة من النصوص السحرية التي تم العثور عليها، تمكن العلماء حتى الآن من فك شفرة حوالي 100 منها. ومع ذلك، فإن هناك حوالي 600 نص سحري لم يتم نشرها بعد. فيما تم تصنيف هذه النصوص السحرية إلى عدة فئات تتعلق بمختلف جوانب الحياة. تشمل الحماية من الموت والشياطين، واسترضاء الأعداء، وتحقيق الرغبات الشخصية.

الدين العامي في أواخر العصر الروماني 

في أول حوار صحفي معه بالعربية، يتحدث لـ«باب مصر» عبر البريد الإلكتروني – الدكتور ريموند كورشي دوسو والدكتورة ماركيتا برينينجر، ليكشفا سبب الدراسة والهدف منها وتاريخ التميمة والنصوص السحرية القديمة.

في البداية سألناه عن المقصود من التميمة وإذا كانت تتوافق مع اللفافة الشائعة باسم “الحجاب” والتي توضع بجوار الإنسان أو تعلق حول رقبته. وأجاب قائلا: “تحتوي النصوص الموجودة في هذا المجلد على تعليمات لتنفيذ أنواع مختلفة من الطقوس. تتضمن العديد من هذه الطقوس إنشاء نص أو أي شيء آخر من شأنه حماية مرتديه أو المكان الذي تم وضعه فيه. وهذه تتوافق مع المفهوم الحديث لـ”الحجاب”.

وتابع: “نشير إلى هذه الأشياء في الكتاب باسم “التمائم”، وكان يُطلق عليها اسم phulaktêrion أو roeis باللغة القبطية. ومع ذلك، هناك نصوص لأغراض أخرى كثيرة أيضًا. وبعضها للعن الأعداء (إمراضهم أو إسكاتهم). أو لتحبب رجل وامرأة، أو للتفريق بين الزوجين، أو لمعرفة المستقبل مثلاً”.

أما عن سبب مدة الدراسة الطويلة لورق البردي، يوضح أنها استغرقت خمس سنوات، لأن المجلد يحتوي على إصدارات (النص والترجمات القبطية) لـ37 مخطوطة سحرية مكتوبة على ورق البردي والرق والألواح الخشبية والأوستراكا (قطع فخارية). يتضمن المجلد كتيبات صغيرة تصل إلى 30 صفحة، وتم إنتاج هذا المجلد كجزء من مشروع أكبر بعنوان «البرديات القبطية السحرية: الدين العامي في أواخر العصر الروماني وأوائل مصر الإسلامية»، في جامعة يوليوس ماكسيميليان في فورتسبورج.

ويوضح دوسو لـ«باب مصر»: “شمل المشروع العديد من الجوانب، بما في ذلك إنشاء موقع إلكتروني وقاعدة بيانات، وإنتاج العديد من الدراسات حول جوانب مختلفة من البرديات السحرية”.

ويستكمل حديثه: “بعد 5 سنوات من العمل، قررنا إنهاء المشروع بمشاركة عملنا في شكل هذا المجلد، الذي يعتمد على جميع أبحاثنا. وقد أتاح لنا ذلك حل العديد من المشكلات التي لم تكن مفهومة قبل مشروعنا – معاني كلمات أو عبارات معينة، والمراجع الأدبية في النصوص”.

فريق المشروع في نهاية عام 2018 ومخطوطات بمكتبة الجامعة من اليسار ماركيتا برينينجر، وكورشي دوسو، إدوارد
فريق المشروع في نهاية عام 2018 ومخطوطات بمكتبة الجامعة من اليسار ماركيتا برينينجر، وكورشي دوسو، إدوارد
ترجمة عربية بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية

هل هناك نصوص أخرى خاضعة للدراسة من البرديات المصرية؟ أجاب دوسو موضحا لـ«باب مصر» أن تخصصهما في النصوص السحرية القبطية من مصر. ويقول: “على الرغم من أننا نعمل أحيانًا مع أنواع أخرى، مثل النصوص الطبية أو الكيميائية التي لها علاقات بالنصوص السحرية، أو النصوص بلغات أخرى، مثل اليونانية أو الديموطيقية”.

وعن المشاريع الأخرى للفريق العلمي، قال: “نعمل على مشروع يسمى (الوصفات السحرية اليونانية والمصرية)، برئاسة جامعة شيكاغو، التي تقوم بنشر البرديات السحرية اليونانية والديموطيقية من مصر”.

ويضيف: “ظهر المجلد الأول من هذه السلسلة العام الماضي. هناك أيضًا ما يقرب من 560 بردية قبطية سحرية أخرى من مصر، ولذا نأمل أن نبدأ العمل قريبًا على المجلد الثاني من البرديات القبطية السحرية”. وصرح لـ«باب مصر» أنه يتم العمل حاليا لإنتاج ترجمة عربية للمجلد الأول بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية.

بردية الفيوم التي تحمل نص سحري قبطي
بردية الفيوم التي تحمل نص سحري قبطي
«الحجاب» وجلب الحبيب!

تسرد البرديات القبطية السحرية تحولات المعتقدات المصرية قديما خلال فترات تأريخها. ويتحدث الدكتور ريموند كورشي عن النصوص السحرية القبطية بشكل عام في مصر وأهميتها. ويقول: “تظهر البرديات القبطية السحرية في الفترة من القرن الرابع حتى القرن الثاني عشر الميلادي تقريبًا. هذه فترة مثيرة جدًا من تاريخ مصر، حيث شهدت تحول البلاد إلى المسيحية في القرنين الرابع والخامس. ثم الاندماج في الخلافة الراشدة في القرن السابع، وتزايد انضمام المصريين إلى الإسلام من القرن التاسع فصاعدا”.

ويضيف: “في معظم هذه الفترة، كانت اللغة القبطية هي اللغة الرئيسية المحكية لجميع سكان مصر – عبدة الآلهة اليونانية والمصرية، والمسيحيين، وحتى بعض المنضمين حديثًا إلى الإسلام. تعطينا البرديات السحرية فكرة عن حياة الناس في هذه الفترة – ما كانوا يخشونه (الشياطين، المرض، الصراعات الاجتماعية، الرؤساء الاجتماعيون القاسيون)، وما يريدون (الصحة، الأمن، الحب، الثروة) ومعرفة المستقبل. وكيف اعتقدوا أنهم يستطيعون الحصول عليها – من خلال الاستعانة بقوة الله، ملائكته، على سبيل المثال.

ويستكمل كورشي: “كل هذه الأشياء موصوفة بطريقة أكثر تفصيلا مما نجده في أي نوع آخر من النصوص. وهكذا نحصل على رسم مبدئي لحياة الأشخاص العاديين الذين عاشوا منذ أكثر من ألف عام أو أكثر”. ومن بين النصوص السحرية الشهيرة هي “جلب الحبيب”، التي استخدمت في الغالب من قبل الرجال. بالإضافة إلى ذلك، لعب السحر دورًا مهمًا في المجال الطبي، عبر كتابة وصفات للوقاية من الأمراض مثل الحمى والصداع والأرق.

فهم التغييرات الدينية

ولا تقتصر أهمية برديات النصوص السحرية أو “الحجاب” على هذا الأمر فقط، بل تعد أيضًا مصدرًا هامًا لفهم التغيرات الدينية التي حدثت في مصر خلال تلك الفترة. بعد انتقال العديد من المصريين إلى المسيحية، ترك الديانة القديمة بصماتها في النصوص السحرية. حيث تحولت آلهة العصر الفرعوني إلى ملائكة وقديسين. وبالتالي، توفر هذه النصوص نظرة مباشرة إلى حياة الناس في تلك الحقبة الزمنية وتفكيرهم ومعتقداتهم، في مصر في الفترة الرومانية المتأخرة والفترة الأولى بعد الفتح العربي.

هذه ليست المرة الأولى التي تجذب فيها “النصوص السحرية القبطية” اهتمام الباحثين. إذ بدأت الدراسات المتعلقة بها منذ عام 1928 من قبل عالم البرديات كارلبريسيدانز. يضيف دكتور ريموند: “تقدم الدراسة رؤى جديدة في مجالات مختلفة من العصور القديمة. والهدف من المشروع هو دراسة  الدين العامي في أواخر العصر الروماني وأوائل العصر الإسلامي في مصر”.

على حد وصفه، يتكون المشروع من عدة أهداف دراسية، أولها إنشاء مجموعة من النصوص السحرية القبطية محدثة باستمرار ومتاحة للجمهور عبر الإنترنت. بالإضافة إلى إصدار النصوص الجديدة وإعادة طبع المخطوطات القديمة وتصحيحها. ونشر هذه الطبعات إلكترونيا ومطبوعا، ودراسة جوانب مختلفة من النصوص السحرية – لغتهم، وعلمهم، وممارساتهم الطقسية.

كتاب البرديات القبطية السحرية – المجلد الأول
كتاب البرديات القبطية السحرية – المجلد الأول
السحر القبطي 

ما المقصود بالسحر القبطي وتاريخه؟ يجيب المؤرخ الألماني أن كلمة “القبطي” هي أبسط تعريف له لأن القبطية تعد المرحلة الأخيرة في اللغات المصرية الأقدم مثل المصرية القديمة والمتوسطة والمتأخرة والديموطيقية.

وقارن بالطريقة نفسها التي انحدرت منها اللغة الإيطالية عن اللاتينية. ويقول: “تمت كتابة اللغة القبطية باستخدام نسخة مُعدَلة من الأبجدية اليونانية، والتي أصبحت موحدة في القرن الثالث الميلادي”. من خلال دراسته يرى أنه ربما كانت لغة قريبة من اللغة القبطية هي اللغة المنطوقة الرئيسية في مصر حتى القرن التاسع الميلادي. وما زالت تُستخدم حتى الآن كلغة طقسية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

الغريب أن هذه النصوص المثيرة للاهتمام كُتبت أيضا على جدران بيوت الرهبان والمقابر، وأطلقوا عليها “نصوصا سحرية” لأنه تظهر أوجه تشابه معينة في كل من المحتوى والشكل. وتحتوي على لعنات أو حب أو حماية أو شفاء أو تعاويذ. وعادةً ما تتبع الطقوس التي تصفها أنماطًا معينة، وتستخدم نفس الأنماط اللفظية (مثل “أستدعيك اليوم”). وغالبًا ما تحتوي على صور للبشر والحيوانات والملائكة والشياطين مصورة بطريقة يمكن التعرف عليها، بالإضافة إلى الرموز الغامضة المعروفة باسم kharaktêres (وترجمتها: الشخصيات)، والتي يقصد بها أن تكون لغة إلهية.

الكائنات الحية الأربعة المصورة في Augsburger Wunderzeichenbuch (كتاب أوغسبورغ للعلامات المعجزة)، يعود تاريخها إلى 1552م
الكائنات الحية الأربعة المصورة في Augsburger Wunderzeichenbuch (كتاب أوغسبورغ للعلامات المعجزة)، يعود تاريخها إلى 1552م
نماذج لعنات سحرية

وعلى سبيل المثال، تم دراسة قطعة من الورق تعرف باسم (P.Würz.Inv. 42) يعود تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي. وهي نص لعنة مُطبق وهو كائن تم إنشاؤه في طقوس لرجل يُدعى “فيكتور”. ويهدف إلى تقييد امرأة تدعى “سيمن”، ليجعلها غير قادرة على التحدث ضد فيكتور باعتبارها لعنة. واستخدم صورة بالأسلوب السحري النموذجي، تظهر سيمن، وأطرافها مفلطحة وشعرها في النهاية، مع “شياطين” تشبه الصندوق على كلا الجانبين مع رسم شخصيات على أجسادهم.

ويذكر نموذج آخر للنصوص السحرية القبطية. ويقول: “نرى أن من قام بنسخ هذا النص قام بمحاولتين للحصول على الصورة بشكل صحيح. نظرًا لوجود محاولة أولى غير مكتملة على الظهر. يدعو النص سلسلة من الكائنات، بما في ذلك رؤساء الملائكة ميخائيل، وجبرائيل. بدءًا من عبارة “أستحلفك” وينتهي بالأمر العاجل “سريعًا، سريعًا، سريعًا”.

التميمة القبطية الخامسة في الدراسة للشفاء - المصدر: فيينا، المكتبة الوطنية K 08638 Pap
التميمة القبطية الخامسة في الدراسة للشفاء – المصدر: فيينا، المكتبة الوطنية K 08638 Pap

لكن من هي سيمن، ولماذا أراد فيكتور إسكاتها؟ ولماذا قرر أن يستدعي رؤساء الملائكة. وهل قام بالطقوس بنفسه، أم استأجر شخصاً آخر “ساحراً” ليقوم بذلك نيابة عنه؟ يفتح هذا النص نافذة صغيرة على دراما حدثت منذ أكثر من ألف عام. ويقول: “لا نستطيع أن نرى الكثير للحصول على رؤية أكمل، نحتاج إلى النظر في هذا النص إلى الأدلة الأخرى – الأدبية والأثرية لمجتمع مصر في القرن العاشر. كذلك البرديات السحرية الأخرى، والتي قد تساعدنا على فهم الطرق التي يكون بها هذا النص نموذجيًا.. لمقارنة النصوص ووضعها في سياقها”.

اقرأ أيضا:

بعد رفض مشروع «تبليط الهرم».. ماذا كتب «راهب الصحراء» عن سفن الأهرامات؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر