د.لؤي سعيد في فعاليات «الرحلة»: ليس من المنطق إسباغ قداسة على لغة ما
يرى الدكتور لؤي محمود سعيد، مدير قسم الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، أن لعبة اللغة والحضارات هي لعبة سياسية للغرب واستعمار في المقام الأول، الهدف منها إبعاد الدول عن بعضها البعض. وأن تظل كل دولة فتخر بحضارتها وتغذي النزعة الشعوبية لديها. حيث شارك سعيد في فعاليات الندوة الثقافية «علاقة المصرية القديمة بالعامية» التي أقيمت على هامش افتتاح النسخة الثالثة من معرض «الرحلة» الذي نظمه موقع «باب مصر» بالتعاون مع قصر ثقافة الفيوم.
أبعاد سياسية
يقول الدكتور لؤي سعيد: “أرى أن اللغة لها أبعاد سياسية. حيث إن قضية اللغة في الأساس هي قضية هوية، ونحن لا نناقش قضية أثرية تاريخية أو علمية بحتة. إذ أن مناقشة قضية اللغة موضوع يشغل المصريين منذ القرن التاسع عشر، وعلى مدار التاريخ حدث هبوط وصعود، والعديد من الخلافات والنقاشات حول هذه القضية هل نحن فراعنة أم عرب؟ وهل ننتمي إلى الحضارة الفرعونية القديمة أم للحضارة العربية؟”.
وتابع: أولا يجب أن نفرق بين اللغة المكتوبة أو المنطوقة. ومن ناحية الخط المكتوب فنحن نتحدث عن الخط الهيروغليفي والخط الديموطيقي وهكذا، لكن اللغة المصرية القديمة واحدة، على سبيل المثال اللغة العربية هي لغة لكن قد تكتب بالنسخ أو الرقعة وهكذا فجميعها خطوط لكن اللغة واحدة.
وأضاف لؤي، هناك شيء هام يجب على الجميع معرفته وهو أن المصريين لم يغيروا لغتهم إلا مرة واحدة في التاريخ وهو الانتقال من المصرية القديمة إلى العربية، في حين غيروا عقيدتهم مرتين على مر التاريخ من المصرية القديمة إلى المسيحية، ومن المسيحية إلى الإسلامية. ويعود ذلك إلى أن من خصائص الثقافة المصرية التراكمية، حيث تختلف الحضارة المصرية عن غيرها، فالحضارات الأخرى تأتي وتزيل ما قبلها، لكن مصر ليست كذلك. حيث إن حضارتها تراكمية، على شكل طبقات، ليس من ناحية العادات والتقاليد فقط، بل من حيث اللغة أيضًا، وهذا ما ينعكس على لغتنا العامية التي نتحدث بها.
وأوضح، تعود أقدم نصوص العامية المصرية التي نتحدث بها إلى القرن الحادي عشر الميلادي. إذ نشأت وتبلورت في فترة مبكرة جدًا، وبالطبع تم إضافة بعض المفردات والمصطلحات إليها من لغات أخرى تباعًا، لذا نحن أمام ظاهرة ثقافية بالأساس، مرتبطة بالشخصية المصرية وتجسد العامية المصرية تركيبتها الخاصة بها.
التراث القبطي والعربي
وحول مصر القبطية قبل دخول الإسلام وبعد دخول الإسلام يقول الدكتور لؤي: “دعونا نتكلم عن مصر بعد دخول الإسلام، حيث امتازت بالامتزاج بين ما هو وافد “اللغة العربية” وبين ما هو موروث “اللغة المصرية القديمة”. وقد جسدت العامية المصرية هذا الامتزاج، وأنتجت كائن جديد بخصائص جديدة ليست عربية خالصة، أو مصرية قديمة قبطية خالصة أيضًا. لذا يمكننا القول أن العامية عربية مقبطة أو قبطية مُعربة”.
وأردف، من هذا المزيج في اللغة العربية الفصحى تستخدم كلمات الإشارة، مثل: اللاتي والذي واللذين وغيرها. أما في العامية المصرية تم اختصارهم جميعًا في كلمة “إلي… الراجل إلي، الست إلي، الناس إلي، الجماعة إلي”. وذلك لأنه لا توجد في اللغة القبطية سوى أداة صلة واحدة. وعندما دخلت اللغة العربية، أخضع المصري اللغة الوافدة إلى عقليته القبطية، وأنتج أداة جديدة واحدة تتفق مع ثقافته القبطية، وجاءت تلك الأداة الجديدة مكونة من ثلاثة أحرف “الألف واللام والياء” وهم الأحرف العربية التي تشترك فيها كلمات الإشارة.
وهذا ببساطة ما تختص به العامية المصرية، مثل استخدام “دي، ده، بدل هذا وهذه، ودكر بدل ذكر، واتنين بدل اثنين وهكذا”. حيث إن أحرف مثل الذال والثاء لا توجد في اللغة القبطية.
وتابع، هناك بعض الجمل على سبيل المثال كاملة مثل “خد أديله الكتاب ده” فهو اسم فعل قبطي اسمه دي. ودخل في العامية المصرية بنفس نطقه، وليس له علاقة باللغة العربية. وهناك اختلاف أيضًا في القواعد، مثل “يا تاكل يا تشرب”. حيث إن “يا” في اللغة العربية هي أداة نداء، لكنها في اللغة القبطية أداة تخيير، ليست لها علاقة باللغة العربية.
إشكالية كبرى
وأضاف سعيد، هناك إشكالية كبرى ليست في مصر بل في جميع دول العالم العربي، وهي وجود لهجات محلية عامية تختلف عن اللغة العربية الفصحى، وجميع العاميات في تلك الدول هي خليط ما بين لغتهم الأم القديمة الموروثة مثل الكنعانية والسومرية والعدنانية والبابلية، وغيرها من لغات، وبين اللغة العربية الفصحى.
وتابع: حدث مزج بين الثقافة العربية الوافدة بلغتها وبين الثقافة الموروثة، وأنتجت تلك العاميات، لكن بدأ المثقفين والشعراء والأدباء ينظرون لتلك العاميات بشئ من الاحتقار، والتقليل من قدر كُتابها. وأرى أن من أعاد الوئام ما بين تلك العاميات واللغة العربية الفصحى، هو مجمع اللغة العربية في ليبيا بطرابلس، الذي أنشأه المرحوم الدكتور علي فهمي خشيم.
ويعد هو المجمع الوحيد في العالم العربي الذي يعترف بتلك العاميات المختلفة. لأنه أدرك جيدًا أن تلك العاميات ليست تشويهًا للغة العربية الفصحى، لكنها تأصيل لثقافات وحضارات كانت موجودة واستمرت حتى اليوم. وبذلك أزال هذا العداء بين العاميات والفصحى، لكن في مصر عندما تدخل مجمع اللغة العربية وتتحدث بالعامية المصرية تعامل كأنك ارتكبت خطيئة كبرى.
ويؤكد سعيد أن اللغة لا دين لها ولا عقيدة. وأن اللغة العربية لم يبتكرها القرآن الكريم، بل أن أقدم نصوص اللغة العربية كانت على جدران كنائس حران في سوريا، وكانت هناك قبائل عربية أصيلة تسبق ظهور الإسلام. وأن اللغة العربية اكتسبت قدسيتها فقط لارتباطها بالعقيدة والدين الإسلامي. ونفس الشئ حدث في القبطية. فقد ظهرت اللغة القبطية في مصر قبل دخول المسيحية، لكن عندما ترجم الكتاب المقدس من اليونانية والعبرية إلى القبطية، اكتسبت القبطية قداسة لدى المسيحيين المصريين، لكن لا يوجد لغة مقدسة في العالم أجمع، وبالمناسبة يمثل المسلمين الذين يتحدثون العربية أقلية في العالم.
“ليس من المنطق إسباغ قداسة على لغة ما”. هكذا قال سعيد، مضيفًا أنه الأهم من ذلك أن القرآن الكريم تضمن العديد من الألفاظ والمصطلحات غير العربية، ولم يجد غضاضة في استخدام تلك المصطلحات من اللغات القديمة الأخرى قبل ظهور العربية، ولا يجب التشدد في ذلك.
اللغة والهوية
وحول تساؤل هل اللغة تمثل الهوية؟ أجاب سعيد: يتكرر هذا السؤال كثيرًا خلال محاضراتي في الأديرة والكنائس المصرية. ويكون أول ما يتم توجيهه لي من الأقباط على سبيل المثال “مصر بلدنا نحن، وأن المسلمين محتلين ودخلاء”. وأن المسلمين عرب من شبه الجزيرة العربية وأن المسيحيين هم المصريين الأصليين. ويتحدث هذا النوع من الناس بحدة غريبة وغير مبررة. وهذا الكلام سمعته للأسف من أساقفة كبار. حيث قال الأنبا بيشوي -في أحد لقاءاته-: “نرحب بالمسلمين كما رحبنا بهم منذ 1400 سنة. وهو ما يكشف أن لدى الكثير من الأقباط قناعات أن المسلمين والمسيحيين عرقين وثقافتين مختلفتين داخل مصر، وبالتالي فإن المسيحيين هم أهل البلد وأن المسلمين دخلاء”.
وتابع سعيد: هذا الكلام عار تمامًا من الصحة أو الحقيقة. فعندما دخل عمرو ابن العاص مصر دخل معه 15 ألف مقاتل، ومصر وقتها على أقل تقدير كان تعدادها 6 ملايين نسمة. وببساطة لو كان هؤلاء الجنود قرروا أن يستقروا في مصر وهو ما حدث بالفعل، وتزوجوا من مصريات. حدث هنا ذوبان بعد إنجاب أطفال فقد تعرب هذا الجيل ثقافيا، وتمصروا جنسيًا وعرقيًا.
“لا يوجد مصري مسلم ليس له جد مسيحي”. وتلك هي الحقيقة التي يراها الكثير صادمة، فلدينا جميعا تلك الدماء الواحدة، والجين والعرق المصري سرى في دماء الجميع. نحن عرب بالثقافة وليس العرق، واللغة هي “عربية مقبطة أو قبطية معربة”.
المصرية القديمة واللغة العربية
وأشار سعيد إلى أن أحمد باشا كمال أول أثري مصري في القرن التاسع عشر، الذي كتب قاموس عام 1925م ويتكون من واحد وعشرون جزءا. وهو القاموس الأهم الآن في العالم لدراسة المصريات، الذي ضم الكثير من الكلمات المصرية القديمة وما يقابلها باللغة القبطية واليونانية والعربية. وأثبت فيه أن هناك علاقة وثيقة بين المصرية القديمة واللغة العربية. وأنا أرى أنه لا يوجد شئ اسمه نحن عرب أم فراعنة. فقد لخص جمال حمدان هذا الأمر ببساطة وعبقرية بسيطة. حيث قال: “مصر من أب عربي، وجد فرعوني، والاثنين لهما أصل واحد مشترك”.
وأضاف، الشعوب القديمة لم تكن تعلم أن هناك لغات، بل كانوا يعلمون أن لديهم تنويعات مختلفة للغة واحدة، وكان التحول من لسان للسان يتم بسهولة، لأن الأصول والجذور واحدة. والدليل على ذلك عندما تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام من ماريا القبطية وذهبت للجزيرة العربية، لم تحتاج لمترجم، وتكلمت العربية بسهولة وبساطة. وهناك سنوحي المصري الذي ذهب لمنطقة الشام. فقد تحدث لغتهم أيضًا بسهولة. حيث كان التحول من لهجة إلى لهجة سهل.
واختتم سعيد حديثه: أرى أن لعبة اللغة والحضارات هي لعبة سياسية للغرب واستعمار في المقام الأول. الهدف منها إبعاد الدول عن بعض. وأن تظل كل دولة تفتخر بحضارتها وتغذى النزعة الشعوبية لديها. وبالطبع لا يمكن أن تتوحد تلك الدول بعد ذلك. ويرى الغرب أن اللغة العربية ترتبط بالحضارة الإسلامية التي لديهم تحفظ عنها. فهناك خلط بين اللغة العربية والثقافة الإسلامية، لذا أرى أنه لا تعارض أو تناقض ما بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية. ولا يجب الخجل من عاميتنا المصرية.
اقرأ أيضا
تنظمه «ولاد البلد»: اليوم افتتاح النسخة الثالثة من معرض «الرحلة» بالفيوم