«قنا».. إرث حتحور

يمثل معبد دندرة أشهر معالم محافظة قنا العريقة وأهمها، وهو يستحق تلك المكانة المرموقة لتفرده الفني والمعماري، ولتأثيره كذلك وموقعه بين الناس، وعبقرية بناءه وتمثلات الرموز فيه. وهو معبد يضفي على القلب المهابة والسكون في آن واحد، فحتى في أكثر أوقات السنة حرارة يزخر المعبد بهواء نقي بارد كأنه في عالم آخر، فأسقف المعبد المرتفعة ارتفاعا مبهرا تعمل على تلطيف الجو داخل المعبد. يقع المعبد على مقربة من مدينة قنا لكنه على الناحية الأخرى من النيل، تصل إليه بسهولة فموقعه يتداخل بشكل مبهر مع عناصر العمران والزراعة حوله وهو أحد المعابد المتفردة القليلة التي تتسم بتلك الميزة بين معابد المصريين القدماء.

***

في زيارتك للمعبد، تستقبلك في بداية الأمر ساحة واسعة. ثم يطل المعبد في الأفق القريب بتيجانه الحتحورية الفريدة التي تشكلت على رأس الإلهة حتحور معبودة المعبد الرئيسية والتي تميز بها المعبد دون معابد مصر القديمة كلها. ثم تدخل إلى المعبد عبر ممر صاعد حتى قدس الأقداس. وفي نفس الوقت يهبط السقف عند كل خطوة تخطوها داخل المعبد وفي نفس الوقت يتضاءل حجم الضوء الداخل إلى المعبد حتى الظلمة الكامل بالقرب من قدس الأقداس. ثم يهبط شعاع ضوء صغير في هذا الركن المقدس من المعبد على تمثال عبادة الإلهة. تلك هي الحالة التي تدخل بها إلى المعبد وتعيشها معه بشكل استثنائي. ينفرد هذا المعبد بكثرة الغرف داخله وكثرة المباني داخل بهوه الرئيسي لذلك يطلق عليه مدينة المعبد، كأنه مدينة كاملة بتفاصيلها. ويمكن فهم تلك الطبيعة المعمارية في هذا المعبد من خلال نظرة واحدة من أعلاه لترى فيها كمًا هائلا من التفاصيل المعمارية وكأنه مدينة مصغرة.

يرجع تاريخ معبد دندرة إلى العصر البطلمي، وهو واحد من أجمل المعابد المصرية القديمة التي حفظت لنا لحسن الحظ بألوانها الزاهية الأصلية حتى الآن، وبريق نقوشها الأنيقة والدقيقة. يحتوي المعبد على مشاهد متفردة مثل تلك التي تحتفظ بها القاعة الرئيسية، التي صورت نوت وهي تبتلع قرص الشمس وتلده مرة أخرى كأنها تضمن كونها ربة السماء. هذا مشهد يعكس طبيعة التفكير الديني لدى المصريين القدماء. مشهد آخر يمثل الشمس حين تشرق من خلال وجه حتحور ربة المعبد، وهو تمثل عبقري وفريد من نوعه.

***

وهذا المعبد العظيم الذي كرس خصيصا لعبادة وتقديس الإلهة حتحور فرصة ذهبية لكل ملك منذ الأقدمين لكي يسجل نقوشه عليه. حتى يتقرب إلى المصريين من خلال معبودة الأمومة والحنان عندهم. ودلالة هذا مثلا منظر قيصرون ابن الملكة كليوباترا السابعة الضخم خلف المعبد، حيث يوثق تلك الحالة.

لكن المعبد على كل هذا التفرد، ارتبط بحادثة مأساوية في القرن التاسع عشر. وهي حادثة سرقة لأحد أجمل وأفضل نقوشه الفنية. حيث تمت سرقة دائرة البروج الفلكية في سقف حجرة أوزيريس المعرفة بزودياك دندرة، وهي خريطة كاملة ووحيدة تمثل السماء القديمة في مصر. حيث تحتوي على صور الأبراج السماوية منقوشة على الحجارة بشكل معجز. ويحتوي كذلك على صور للثور والميزان. لكن ملك فرنسا أرسل مهندس فرنسي يدعى جان بابتيست لولورين وكلفه بسرقة هذا الزودياك من المعبد بأي طريقة. وبالفعل عمل على إزالته بالبارود وبعض الأدوات مثل الإزميل، سرق هذا المهندس تلك اللوحة الفريدة مقابل مبلغ مالي أعطاه إياه ملك فرنسا آنذاك. ثم نقلت إلى فرنسا في المكتبة الوطنية ثم استقرت في النهاية في متحف اللوفر وهي معروضة فيه الآن، استبدلت تلك اللوحة بلوحة أخرى مقلدة من الجص، لكنها شاهدة على قصة مأساوية وقبيحة لفرنسا.

***

المعبد لا يكف عن الإبهار، ولكي تكتمل تلك القصة المثيرة للمعبد ومعالمه الفنية، لابد من زيارة قرية دندرة. وهي واحدة من أكثر القرى التي احتفظت بنمطها العمراني والمعماري كما هو. فالبيوت الطينية تبدو بهيئة مبهرة، والمعالجات المعمارية للمداخل والشبابيك والغرف تعبر عن تقليد محلي عبقري في البناء والتكيف مع البيئة المحيطة. لقد اقتبست تلك العمارة المدنية في القرية بعض الملامح الفنية من المعبد الخالد بالجوار، مثل المداخل الضخمة ومعالجة الشبابيك. المبهر أكثر أن بعض الناس القاطنين في القرية يدركون طبيعة هذا الأمر ويفهمونه.

قنا
قنا

تزخر المحافظة بعدد لا بأس به من المعابد المصرية القديمة. ففي قفط التي تقع في منتصف الطريق بينها وبين الأقصر، والتي اعتبرت مصدرا لا غنى عنه في العصور السالفة للأحجار. تمتلك معبدا عرف قديما خصصت لعبادة الإله “مين” إله الخصوبة في فترات زمنية مختلفة. لا زالت بقاياه قائمة حتى الآن بين البيوت القديمة التي تكافح الاندثار.

اقرأ أيضا:

«قنا».. ليالي الموال

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر