عبدالرحيم كمال: الحكايات تزيد من خلود الإنسان على الأرض

حوار: محمد سرساوي

 في الوقت الذي يختار فيه أغلب المبدعين قالب الخيال العلمي للكتابة عن المستقبل، اختار الأديب والسيناريست عبدالرحيم كمال أختار العودة إلى أجواء ألف ليلة وليلة مستلهما أحدث أعماله الروائية “أبناء حورة” -الصادرة عن دار الكرمة. يرى عبدالرحيم أن الرواية مديح الحكاية، لذا حاول أن يكتب رواية محلية للحكي. وحينما يمدح الحكاية وتكون حكاية ككنز والحكاية كتراث والحكاية كمستقبل، بل الحكاية كأمن قومي، لن يجد أفضل من ألف ليلة وليلة النص العربي الأشهر على مر السنين ولمدة تتجاوز الألف عام.

تحكى الرواية عن العالم بعد أزمة جائحة كورونا. في عالم خال من القنوات الإعلامية وعالم السوشيال ميديا. والشيء الوحيد الذي يجعل البشر سعداء أن يحكون الحكايات لبعضهم البعض. وفي أحد الأيام يتفاجئ سكان شمال إفريقيا: مصر وتونس والمغرب ودولة اللاجئين –دولة ابتكرها المؤلف- بظهور كائن يطير في السماء رأسه أنثى بشرية، جسده على شكل طائر، وسنعرف فيما بعد اسمها “حورة”. وستضع أربع بيضات في كل بلدة، وحينما يقفس البيض يظهر أربعة عشر عملاقا، رؤوسهم على هيئة طائر، وأجسادهم مثل أجسام البشريين، وسيحكمون تلك البلاد لمدة سبع أعوام. وتحدثنا مع عبدالرحيم كمال عن الرواية عبر السطور التالية:

كيف جاءت فكرة الرواية؟

بعد جائحة كورونا أصابتني حالة من الإحباط الشديد وشعرت بأن العالم ينتهي ويفنى وكنت وحيدا في تلك الفترة. بعيدا عن بناتي وزوجتي لأني خشيت عليهم من كورونا فذهبوا إلي بيت جدتهم لأمهم وكنت في وحدتي كل صباح، أجلس منفردا ليمر بجوار سور البلكونة طائر رمادي بديع ويبدأ في التغريد. سبعة أيام متتالية لم ينقطع فيها عن المرور صباحا في نفس التوقيت ثم يغرد ويطير. شعرت بأنه يرسل رسالة محددة لي، وهي إن كنت تخاف فأكتب وامتثلت لرسالته. وبدأت في كتابة أبناء حورة وتلك الرحلة العجائبية بين الناس والطيور والحكايات. وكأن الحكاية هي الملاذ من الكارثة، عن مسرح أحداث الرواية شمال إفريقيا كان اختيار حورة لتضع بيضتها وليس اختياري أنا.

لكن اختياري أنا ككاتب أمتد أيضا لبلاد أخرى مثل العراق ودولة اللاجئين، لأن الشرق الأوسط وبلاد العرب هي بلاد السر في اعتقادي. السر الذي يدفع الكثير من دول الدنيا غربا وشمالا للحصول عليه واغتصابه، كما حاول صاحب الراصدة “طاكين” في روايتنا. أين أذهب من عالمي؟ من منطقتنا ليست شمال إفريقيا من أصولي العربية الإفريقية المصرية؟ لا فكاك. فهنا الحكاية وهنا الأصل وهنا السر أيضا.

السر الذي دائما مصر في مركزه، مصر هي عمود الخيمة إليها تنطلق الأغراض، ومنها يخرج المعنى، وفيها وفي أعماق مواطنيها وأرضها الكنز والأسرار. حين أخترت الطيور التي تحولت إلى كائنات عملاقة وغيرت مجرى أحداث العالم. حيث الطيور في الأدب والخيال والتراث الصوفي والعربي، هي رموز كبيرة منذ القدم ومنذ فريد الدين العطار النيسابوري وكتابه المدهش “رحلة الطير والحكاية”. تدين جور الإنسان على الطبيعة بسبب اعتقاده ملكيتها، مما دعا أصغر وحدة في الطبيعة مثل فيروس بحجم فيروس كورونا يجعله حبيس داره مرعوبا يخشى الاقتراب من أمه وأبيه وابنته وأخيه. الرواية تدين موقف الإنسان من الطبيعة وتطرح سؤالها الطريف، ماذا لو حكم الإنسان جنس آخر؟ وكيف سيتعامل معه؟ كما حدث بين أبناء حورة والبلاد التي حكموها.

غلاف الرواية
غلاف الرواية
العمالقة الذين يحكمون مصر تطلب من المواطنين “سليم الخردواتي” و”نبيل السماك” أن يكتبوا تاريخ مصر على شكل حكاية شعبية، ويجعلنا نتساءل متى تكون الحكاية الشعبية أو الاجتماعية هي أصل التاريخ؟

الحكاية الشعبية في ظني هي طريقة من طرق حكي التاريخ. وقلت ذلك حتى في أعمالي الدرامية التاريخية مثل “شيخ العرب همام” و”أهو ده اللي صار”. دائما هناك تاريخ شفهي هام وربما أصدق من المدون من قبل سلطة ما. والحاكي الشعبي أقل غرضا وأقل مرضا وأقل توجها ولا يحكمه الهوى، ويحكي التاريخ كما شاهد أو سمع أو ظن أو أعتقد وستظل الحكاية الشعبية هي صورة من صور التاريخ وربما الصورة الأكثر بريقا والأقرب للصدق.

قبل الكورونا بكثير جعل عبدالرحيم كمال أنفلونزا الطيور تفتح بوابة سحرية للحكايات حينما وقع الفتى طاهر في غرام وزة تحولت إلى امرأة في غاية الجمال ويتزوجها وينجبان، وينجب أحد أبنائهم حورة التي ستتزوج جمال صادق عبدالرازق، الذي يمتلك مكتبة في بغداد وينجبون العملاقة. كأن تلك الفيروسات تعيد تشغيل العالم مرة أخرى أو تجعل حكاية العالم تبدأ من أول الزمان مرة أخرى، فما تعليقك؟

العالم الحالي بكل تأكيد يدخل مرحلة جديدة ويعاد صياغته وتشكيله. والمذهل هذه المرة وهذا ما تناولته الرواية بشيء من الخيال أن التغيير وإعادة صياغة العالم لم يأت كالعادة من الإنسان الذكي العاقل القادر القوي صاحب الخيال. ولكن من كائنات أخرى عله يفيق. أما الثابت في اعتقادي أن العالم يتغير وتغييرات جذرية. وأن الأعوام القادمة تحمل ما لا يتوقعه أحد على الإطلاق. لقد أفلت العالم من يد الإنسان والأفكار الكبرى مثل العولمة والرأسمالية وغيرها تتآكل وتنتهي، ويبدأ عالم جديد لا نعلم عنه شيئا، ربما عالم يعلم عنه البسطاء والسذج وسليم القلب الأكثر مما نعلم نحن عنه بكثير.

تطرح في روايتك كيف سيكون شكل العالم بعد كورونا؟ هل ستضم مخلوقات جديدة في حياتنا اليومية؟، وتخيلت أن العالم سيكون ملئ بالحشرات العملاقة والحيوانات المفترسة ستعيش بشكل طبيعي مع الإنسان، متى ستظهر مخلوقات جديدة في حياتنا اليومية؟

العالم الجديد الواقعي قد لا أعلم عنه شيء. لكني أتصور وأتخيل أنه سيكون مختلفا تتبدل فيه الأدوار ليس بالضرورة أن يضم طيورا وحيوانات مثل ما حكت في أحدث أعمالي الروائية. لكنه عالم مختلف يضم كائنات مستحدثة تشارك البشر قراره ومصيره أيضا. ليس القصد بالتأكيد مخلوقات جديدة، فلست كاتبا من كتاب الخيال العلمي أن أقدم عملا أدبيا يحمل خيالا على قدر ما من الاختلاف، ولا أصنف عملي أبدا كخيال علمي، لكنه خيال يرتكز على واقع بإيقاع أسطوري تراثي يتخيل وينشد مستقبل مغاير وليس الهدف من الرواية خلق عالم مثير للمراهقين أو الاقتراب من سينما أمريكية مفتعلة، لكنه عمل مصري عربي خيالي يعيد التفكير والنظر لأنفسنا من الداخل في علاقتنا بعضنا البعض وعلاقتنا بجيراننا من الكائنات الأخرى ومحاولة تغليب الحب وقبول الآخر ليستمر هذا الكوكب في سلام.

بجانب آخر يظهر غلاب وزوجته أروى وابنهما رماح ويحكون قصة العمالقة ويحولونها إلى سيرة شعبية من أجل إنقاذ حياتهم من شخصيات ترغب في قتلهم، وكان الحل الوحيد لينجوا أرواحهم بأن يحكون الحكايات من أجل البقاء أحياء مثلما فعلت شهرزاد التي قررت أن تحكى لشهريار حتى تنقذ نفسها، هل الحكايات تجعل الإنسان حيا؟

الحكايات تزيد من خلود الإنسان على الأرض. الحكايات لا تحيي الموتى بالتأكيد لكنها تجعل الموتى أعياد في ذاكرتنا. وتلك هي عظمة الحكاية أنها الحياة اللانهائية لمن انقضت حيواتهم. طموح كل كاتب حقيقي أن يكون جزء من ذاكرة القادمين من بعده. واستغلتها قصص ألف ليلة وليلة كطريقة حكي لا تعني تبني أفكار قديمة تبنتها ألف ليلة وليلة، وإلا فهي موجودة لكن رماح ليس شهرزاد. والحياة هنا ليست هدف الحكاء. لكن الهدف هو أن تحكى الحكاية وهو الهدف الخفي أيضا لدى شهرزاد لو أمعني النظر والتفكير، ولم نأخذ شهرزاد بخفة وسطحية.

عبدالرحيم كمال
عبدالرحيم كمال
تبتكر شخصية “طاكين” رجل قادم من أوروبا ويريد أن يحتل البلاد، ويصنع كيان “الراصدة” كأنها قادمة من قصص الخيال العلمي ويستولى على الحكايات الموجودة في العالم، وجعلتني أتساءل ما هي الحكايات التي استولت عليها البلاد المحتلة مثل بريطانيا لمصر وأمريكا لعراق وإسرائيل لفلسطين؟، هل ستصبح الحكايات أغلى من النفط والأراضي؟
أنهم يستولون على حكاياتنا يوميا. الهرم وأبوالهول يصنع الإسرائيليون حكاية تحكي أنهم هم من بنوه. مسلات القدماء المصريين تملئ ميادين الغرب. هناك من يزعم أنهم مجرد أفارقة من جنوب القارة. والحرب على الحكاية الأصلية كل لحظة. الديانات والمذاهب الدينية المتفرعة عنها هي حروب على الحكاية الأصلية، وكل يدعي أن حكايته هي الحكاية الأصلية فيكون يهود ويكون مسيحيون ويكون مسلمون ويكون شيعة وسنة ويكون كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت، وهكذا لا صراع إلا على الحكاية أصلا يا عزيزي.
في نهاية الرواية تحدث حرب كبيرة بين “طاكين” المنتمى إلى قصص الخيال العلمي، وحكام شمال إفريقيا القادمين بحكايات ألف ليلة وليلة، كائنات نصفها الأعلى بشرى والنصف الأسفل سمكة مثل الذين يظهرون في حواديت قبل النوم، من الذي سينتصر؟

الحرب قائمة ومستمرة وستستمر بين أهل الحكاية الأصلية وأسرارها وبين من هم بلا حكاية حتى يغتصبوها منهم. أهل الخيال والاتصال الروحي وأهل المادة والمدنية القلقة، والانتصار لن يكون لأحد. لأن الانتصار الحقيقي هو الحب وقبول الآخر وذوبان الروح في الجسد وقبول المدنية والعولمة للهوية الشخصانية. وأن يعترف من ملك القوة أن هناك صورة أخرى للقوة. الراصدة في الراوية تملك كل شيء، بينما الآخرون يملكون حكايتهم فقط التي يحفظونها ويتوارثونها وهي مصدر قوتهم. وهناك دولة اللاجئين التي جمعت بين القوة المادية والروحية وستستمر الحرب إلى اليوم الأخير على وجه الأرض.

اقرأ أيضا

في مناقشة ديوان «حطيتي إيدك ع الوجع»: عندما يحفظ الشعر أساطير العالم

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر