«ناصر الربَّاط» في القاهرة.. إجابات عن أسئلة متفرقة

مؤخرًا حلَّ الدكتور ناصر الربَّاط، أستاذ كرسي الآغاخان والعمارة الإسلامية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT» بالولايات المتحدة الأمريكية، ضيفًا على «القاهرة»، بعد سنوات طويلة من الانقطاع عن المدينة الأقرب لقلبه. قدّم الربَّاط محاضرتين واحدة في الجامعة الأمريكية بعنوان: «كيف صارت القدس مدينة إسلامية؟»، وأخرى داخل بيت السناري الأثري بحي السيدة زينب. وخلالها ركزّ حديثه حول كتابه الأخير «المقريزي.. وجدان التاريخ المصري»، وقد أدار الندوة الدكتور نزار الصياد، أستاذ التخطيط العمراني وتاريخ المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلي.

لم يذكر الربَّاط في ندوته أنه قادرًا على الإجابة على كل ما يطرح عليه من أسئلة، لكنه أظهر جانبًا مهمًا من معرفته الموسوعية. وهي تخص قدرته على تحليل الأسئلة ومحاولة تفكيكها أمام الحضور. إذ لم يعط لهم إجابات كاملة ولم يشبع رغبتهم، بل فتحت إجاباته الكثير من الأسئلة الأخرى، التي -ربما- تحتاج لعشرات الدراسات للإجابة عنها في نهاية الأمر؛ لذلك نستعرض بعضًا من إجاباته خلال الندوة.

المقريزي وآل البيت

تحدث في البداية عن الفارق بين كتابه الأخير حول المقريزي الصادر بالنسخة العربية والآخر المكتوب بالإنجليزية. إذ أوضح أنه في النسخة الإنجليزية تناول تأثير المقريزي على المستشرقين، لكنه لم يتطرق للأمر في النسخة العربية التي ناقش فيها سيرة حياة المقريزي بشكل موسع. وكذلك كتاباته الدينية حول آل البيت.

يقول: «كان سنيًا متشددًا، وهذا يظهر في ميوله، إذ اعتقد أنه سليل للفاطميين، وفي نفس الوقت كان حذرًا في الإعلان عن ذلك، لذلك فمشروعه التاريخي كان أسبق من مشروعه الديني والذي بدأه في فترة متأخرة من حياته، فقد عمل محتسبًا، لذلك كان اهتمامه أولًا بالنواحي الاقتصادية والعمرانية بحكم  طبيعة عمله».

تجاوز الخلافات المذهبية

وحول انتماء المقريزي للفاطميين من عدمه خصوصًا أن الأمر أخذ حيزًا كبيرًا بين المؤرخين. أشار ناصر أن الأمر قد ظهر جليًا في اختياره لاسم كتابه «اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء». إذ اعترف لهم فيه بالإمامة وبالخلافة، وهذا ما لم يعترف به علماء مصر السنيين، ويعتقد الرباط أن المقريزي ذكيًا جدًا في اختيار عناوين كتبه.

«لم يكن اختياره لعنوان كتابه بهدف ضبط القافية، فكلمة الحنفاء معناها الموحدين. أي أراد المقريزي أن يتجاوز الناس الخلافات المذهبية الإسلامية كي يصلوا إلى «اتعاظ» كل من هو موحد بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء. ولو نظرنا إلى العقيدة الإسماعيلية فالإمام عندهم هو إمامًا لكل البشرية، لذلك أظن أن المقريزي كان واعيًا تمامًا لما يفعله. فنجد الشعراني مثلًا يقول أنه عندما ينظر لتجربة المقريزي كان يندهش من إعجابه بالفاطميين حتى علم في نهاية الأمر أنه من أصل فاطمي؛ لذلك فالمقريزي لم يكن واضحًا أبدًا، وهذا هو السبب النزاع بين المؤرخين».

أما بخصوص علاقة المقريزي بالرجال في حياته وخصوصًا أهله فقد رجح الرباط أنها لم تكن طيبة. يقول: كتاباته عن أمه تختلف تمامًا عن كتاباته عن أبيه وجده لأمه ابن الصائغ الحنفي -معلمه الأول- فقد كان قاضيًا حنفيًا كبيرًا. وعندما جاءته الفرصة للحديث عن جده لم يفعل فيقول أخبرني «ابن الفراض عن شمس الدين بن الصائغ الحنفي» فالمقريزي هنا لا يذكر أن الرجل الذي يتحدث عنه هو جده.

جانب من المحاضرة
جانب من المحاضرة  
منافسة المقريزي لابن حجر العسقلاني!

وكانت من ضمن الأسئلة التي أجاب عليها الربَّاط تخص حقيقة التنافس بين المقريزي وابن حجر العسقلاني. فقد نفى أن يكون تنافسًا بينهما قد حدث إذ أوضح أنهما لما يتنافسا أبدًا، فهو يرى أن المقريزي نظر لنفسه كمؤرخ ولم يقدم نفسه كمُحدث أو جامع للأحاديث. «لم يكتب المقريزي في علم الحديث إطلاقًا، وبالتالي لم يتنافس أبدًا مع العسقلاني، لكنني أرى أن العسقلاني كان «طاووسًا» مثله مثل ابن خلدون، فالمقريزي ذكر ابن خلدون داخل أكثر من 20 موضعًا بوصفه عالمًا مبجلًا، لكن رغم ذلك لم يذكر ابن خلدون المقريزي إطلاقًا، ونفس الأمر فعله ابن حجر العسقلاني مع المقريزي نفسه».

تجاوزات صلاح الدين الأيوبي

أما عن تحامل المقريزي على صلاح الدين الأيوبي فلا يعتقد الربَّاط أن هناك تحاملًا من جانب المقريزي. يقول: «صلاح الدين الأيوبي يقدم لنا الآن -في خضم انهزامنا كأمة- نموذجًا مشرقًا والكل يتغاضى عن تجاوزاته. فقد كان ديكتاتورًا إذ قضى على الفاطميين بمذبحة. كما أنه لم يهادن أبدًا أيًا ممن عادوه في سبيل بناء دولته، بما فيهم ابن معلمه نور الدين، والذي مات صغيرًا فقد لاحقه حتى سوريا. لذلك فصلاح الدين كان يطمع في السلطة، لكن يغفر له أنه اتبع نموذج معلمه نور الدين. وهو تجميع القوة في سبيل خلق قوة معادية للصليبيين والقضاء عليهم، والحقيقة أنه نجح في ذلك. لذلك فقد كان سياسيًا عنيفًا وسفاكًا للدماء، لكنه في المقابل زعيمًا ذو نظرة، وأنا أشبهه دائمًا برمسيس الثاني».

ذكاء وخبث المقريزي

طرح على الربَّاط سؤالًا حول ما إذا كان المقريزي يبدو في خططه مفكرًا عمرانيًا أكثر من كونه خططيًا. فأجاب أنه لم يحاول تتبع السؤال الذي يدور حول «لماذا أهمل المقريزي بعض المبان وبعض الفترات في خططه؟». يقول: اعتقد أنه كان يفكر تفكيرًا سياسيًا وتفكيرًا عمرانيًا أكثر من كونه يدقق ويضع المعلومات كاملة، فالمقريزي استخدم الخطط كأداة لإيصال رسالة أوسع عن مفهوم الخطط، وأظن أن عدم حديثه مثلًا عن مدرسة العيني دليل مهم حول الخلاف بين الشخصين، فالعيني سبَّ المقريزي، لكن في المقابل لم يفعل المقريزي الأمر نفسه معه بل تلافى الموضوع. فالخلاف بينهما يدل أيضًا على علو خلق المقريزي، وكذلك خبثه، إذ كان لا يوجه النقد المباشر للعلماء. كما كان يفعل مع أصحاب السلطة، فنقده كان مواربا لأبناء طبقته.

محاولة إثبات

وعن السبب الرئيسي في انعدام الاهتمام بالمقريزي حلل ناصر الأمر إذ يرى أن المقريزي لم ينظر إليه باعتباره صاحب نظرية بل باعتباره حاوٍ للمعلومات عن مدينة القاهرة وسلاطينها. لذلك فهو يعتقد أن إنجازه الأكبر في كتابه عنه -سواء النسخة الإنجليزية أو العربية- هو محاولة إثبات أنه صاحب نظرية. «المقريزي لم يزعم أنه قد وضع نظريات بعينها، لكن ما أقصده هو كيفية ترتيبه للمعلومات، واستنتاجاته للأحداث؛ لذلك اعتقد أن محاولتي الأخيرة سترفع من شأنه، بكونه صاحب نظرية».

وسائل حديثة

يرى الرباط أيضًا أن هناك فارقًا كبيرًا بين التخطيط العمراني بمفهومه الحديث وبين مفهوم الخطط. «لو نظرنا إلى تطور تعامل الكتّاب المصريين مع الخطط سنجد أن عليّ مبارك حاول استخدامها في التوثيق العمراني. لكنه فشل في الأمر؛ لذلك من جاءوا بعده لم يستخدموا أسلوب الخطط بسبب وجود الوسائل الحديثة. فعلي مبارك تعلم في فرنسا وقد استخدم كتاب وصف مصر ورغم ذلك حاول المحافظة على أسلوب الخطط. لذلك اعتقد أن مفهوم الخطط كأسلوب علمي«مات» وقت أن ظهر علم التخطيط العمراني».

دمشق.. مدينة لن يكتب عنها

في نهاية الندوة طُرح على ناصر الربّاط سؤالًا حول ما إذا كان كلًا من المقريزي ومدينة القاهرة، قد «اختطفاه» من الكتابة عن مدينته دمشق. فأوضح أنه حاليًا بصدد تحرير كتاب عن سوريا وهو عبارة عن 26 بحثًا عنها. إذ يبدأ الكتاب بعصر السلوقين، وينتهي في سنة 2015. لكنه في المقابل لا يعتقد أنه سيكتب عن دمشق في حياته. إذ أن همه الأكبر حاليًا هو تحليل عملية الانتقال من المسيحية إلى الإسلام عمرانيًا ومعماريًا في القرن السابع والثامن الميلادي. «هذا هو مشروعي خلال السنوات المقبلة».

اقرأ أيضا:

المقريزي بعين ناصر الرباط.. سيرة إنسانية شديدة الحساسية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر