القرافة في السينما.. واقعية لم تستغل السحرية

وسط شواهد القبور وموسيقى جنائزية مهيبة يشدو موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بكلمات أحمد رامي “أيها الراقدون تحت التراب..  جئت أبكي على هوى الأحباب”. تصوير الأغنية تم في أحد أحواش جبانات القاهرة ختاما لفيلم (دموع الحب) 1935، يتم توظيف شواهد القبور في البناء الدرامي للبطل الذي فقد حبيبته فذهب يناجي الأموات وسط قبورهم، ليقدم لنا المخرج محمد كريم واحدا من أكثر المشاهد المبتكرة التي توظف جبانات القاهرة في عمل سينمائي، ليبدأ بعدها استخدام الجبانات بأشكال مختلفة في الأعمال السينمائية، لينتج في النهاية ما يمكن وصفه بالقرافة السينمائية.

إذا كان الشعر ديوان العرب قديما، فالسينما هي ديوان الحياة المعاصرة. التفاصيل التي تلتقطها الكاميرا وتدمجها في العمل السينمائي، تكتسب معنى آخر وحياة أخرى. شيء من هذا عرفته جبانات القاهرة، التي دخلت عالم السينما المصرية منذ زمن طويل، وعرفت أدوار البطولة والكومبارس على حد سواء، عاشت الجبانات حياة أخرى غير حياتها التاريخية، حياة يمتزج فيها البشر بالحجر، كان الحضور في الكثير من الأحيان خجولا، لكنه في أحيان أخرى يتصدر الأفيش ويصنع الحدث وعقدة العمل السينمائي، فخلال تاريخ السينما المصرية الطويل، حضرت الجبانات القاهرية بأشكال وصيغ مختلفة يقوم فيها المخرجون بعملية تخيل وتوظيف للجبانات في أعمالهم السينمائية، هنا نطل سريعا على بعض أدوات توظيف السينما للجبانات.

***

في فيلم (لا وقت للحب) إنتاج 1963، بعد أن ضاقت السبل بالبطل حمزة (رشدي أباظة)، لا يجد مكانا يختبئ فيه إلا ترب باب الوزير. ويطلب من أحد العاملين في الجبانة مكانا يسكن فيه ويختفي عن الأنظار، عم إسماعيل يقترح على البطل وحبيبته التي يتم تقديمها في صورة الزوجة، أن يذهبا إلى “في أي حوش من الأحواش اللي الجبانة دي”، ليقرر إسماعيل أبو دومة أن يفتح لهما قبة أفندينا، هنا نجد أن الفيلم لا يهتم بجغرافية جبانات القاهرة فقبة أفندينا تقع في ترب المجاورين لا ترب باب الوزير كما يوحي سياق الفيلم.

ميزة فيلم (لا وقت للحب)، أنه يقدم لنا صورة حية وتسجيلية عن قبة أفندينا ومنطقة المدخل قبل سنوات من اقتحام طريق الأوتوستراد لخلوة الجبانة ويشق طريقه في قلب الجبانات غير بعيد عن قبة أفندينا، ويظهر بوضوح ضريح الخديو توفيق، ولا يخلو حضور ضريح الخديو من لمز، إذ يدور الفيلم في أجواء مقاومة الاحتلال البريطاني، فلا يضر أن يذكر البطل بأن الخديو توفيق هو من جلب الاحتلال لمصر.

المفارقة أن التخطيط لمواجهة الإنجليز تتم والبطل مستندا إلى ضريح الخديو! لا ننسى طبعا أن الفيلم أنتج في عز المد الناصري، لذا لم يكن غريبا أن يأكل البطل الإفطار الذي تجلبه له حبيبته (فاتن حمامة) على قبر الخديو، لقد وظف المخرج صلاح أبو سيف رمزية ضريح الخديو توفيق المتعاون مع الإنجليز لخلق لحظة مفارقة إذ تؤسس فوقه حركة مقاومة الاحتلال، أنه الماضي الذي يطويه الحاضر الذي يصنعه الأبطال المصريون، كانت الجبانة هي المكان الذي وظفت فيه الرؤية حيث يرقص الوطنيون على ضريح الخديو الخائن.

***

وإذا كان فيلم (لا وقت للحب) قد جسد أحد تجليات الخطاب الناصري ورمزيته في الجبانات، فإن فيلم (أنا لا أكذب ولكني أتجمل) 1981، يقدم تجسيدا حيا لفشل الخطاب الناصري في خلق مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، وذلك عبر استدعاء عالم الجبانات مرة أخرى، لكن بصورة مغايرة، فالبطل إبراهيم صالح (أحمد زكي)، من أبناء المهمشين الذين يسكنون الجبانات، ويحاول إخفاء أصوله الاجتماعية في رحلة تفوقه الجامعي، والذي يعمل والده كحارس لمقبرة، ويحاول أن يكافح هو وأسرته لضمان حياة كريمة بعدما صدق شعارات ثورة يوليو حول تحقيق العدالة الاجتماعية، ويقع في حب زميلته في الجامعة خيرية ابنة الأستاذ الجامعي، وتبادله هي نفس المشاعر.

أحمد زكى في «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل»
أحمد زكى في «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل»

الأزمة أن الشاب المكافح المتفوق دراسيا يفشل في محاربة تقاليد وعادات المجتمع فيحاول إخفاء أصله ووضعه الاجتماعي، كمحاولة للتجمل أمام حبيبته لكن الانتماء لسكنى المقابر يقضي على علاقتهما سريعا، وهنا يلفت إحسان عبد القدوس كاتب القصة والمخرج إبراهيم الشقنقيري النظر إلى ظاهرة سكنى المقابر، ونظرة المجتمع لساكني المقابر، إذ يحمل الفيلم نقدا مريرا لنظرة المجتمع الذي ينظر إلى أهالي المقابر باعتبارهم أقل درجات السلم الاجتماعي، تتحول الجبانات هنا بطل الفيلم الرئيس فظهورها لأول مرة في الفيلم يغير مجرى أحداثه، لذا المشاهد المصورة داخل المقابر هي الأكثر واقعية.

***

انتقل الاهتمام السينمائي بالقرافة إلى خانة معالجة أزمة السكن التي خيمت على فترة الثمانينات لذا نجد أكثر من فيلم يعالج هذه المشكلة عبر انتقال العديد من الأسر لسكنى أحواش الجبانة، في ظاهرة عرفتها مصر جيدا خلال هذه الفترة، كما هو واضح في فيلم (الشقة من حق الزوجة) 1985، إذ يقرر الزوج سمير (محمود عبد العزيز) مغادرة شقته بعد الطلاق من زوجته كريمة، والذهاب لسكنى المقابر، وهو ما يتكرر في فيلم (كراكون في الشارع) 1986، فأسرة بطل الفيلم تدخل في مغامرات البحث عن شقة بعد انهيار منزلهم، وفي إحدى المحطات يسكنون أحد أحواش المقابر، هنا تحضر المقابر في الخلفية لا اهتمام حقيقي بها إلا بكونها مكان يهرب إليه الإنسان فعليا وعلى مستوى رمزي.

أزمة السكن يعالجها فيلم (مدافن مفروشة للإيجار) 1986، وإن كان بتركيز أعلى على الجبانات التي يتم التصوير في أحد أحواشها بشكل واقعي، إذ تدور الأحداث حول أسرة تفقد مسكنها ولا تجد بديلا إلا سكنى المقابر، وهناك يعرفون واقعا جديدا وغريبا عن حياتهم السابقة، وتجسد هذه النوعية من الأفلام واقع إعادة استخدام الأحواش بجبانات القاهرة كمنازل في ظاهرة ترسخت بقوة منذ سبعينيات القرن العشرين، وهي الظاهرة التي رصدها علميا الدكتور محمود محمد جاد، في كتابه (سكنى المقابر في عاصمة مصر- نظرة عبر العصور).

***

تطورت الرؤية التي تنظر إلى الجبانات كمركز لنشاط سكاني، إلى نظرة ترى الجبانات كمركز للعشوائيات والخارجين عن القانون وتجار المخدرات كما يظهر بوضوح في فيلم (إبراهيم الأبيض) 2009، الذي يفترض أن أحداثه تجري في منطقة الأباجية وهي منطقة مقابر بالأساس. لكن المخرج مروان حامد، يقرر أن يبني الأباجية كما يستطيع أن يتخيلها ويتلاعب بها لكي تخدم تصوره الدرامي، لذا بنى ما يشبه الحي المشابه للأباجية الأصلية. ما يهمنا هنا أن المقابر كانت حاضرة بشحوب وبلا أي تجليات، أشبه ما تكون كومبارس صامت يكثف حضور الموت الذي يغلف أحداث الفيلم، هنا تغيب الحقيقة وتنتحي جانبا لصالح عملية التخيل الإبداعي.

حضور الموت المرتبط بالقرافة يعكسه بوضوح فيلم (السقا مات) للمخرج صلاح أبو سيف وإنتاج 1977، في هذه الفيلم نلتقي بحضور مكثف للموت المرتبط بشخصية شحاتة أفندي (فريد شوقي)، الذي يمثل عبثية العلاقة بين الحياة والموت والذي يعمل كصبي حانوتي، وشخصية شوشة السقا (عزت العلايلي)، الذي يخشى الموت منذ أن اختطف زوجته، ومن خلال وظيفة الأول تحضر مشاهد القرافة على استحياء وربما يكون المشهد الأبرز خلال عملية دفن شحاتة أفندي نفسه، حيث أجريت مشاهد الدفن بشكل يعكس التقاليد الشعبية لمدينة القاهرة في دفن الموتى.

***

استخدام آخر للقرافة اقتصر على كونها مهرب وملجأ كما فعل سعيد مهران (شكري سرحان) في فيلم (اللص والكلاب) 1962، إذ لم يجد أفضل من القرافة ليتوارى فيها عن أعين الشرطة. وفي أحد مشاهد الفيلم يطل من شباك منزل حبيبته نور (شادية)، على ترب الغفير ويطل في خلفية المشهد خانقاه فرج بن برقوق في قلب صحراء المماليك. وعلى العكس نجد القرافة كمكان للبحث عن الخلوة كما في فيلم (أصدقاء الشيطان) 1988، للمخرج أحمد ياسين، وهو عن قصة جلال صاحب الجلالة من ملحمة (الحرافيش) لنجيب محفوظ.  في ذلك الفيلم نجد البطل جلال (نور الشريف) يبحث عن مجد القوة عبر الخلوة في دنيا القرافة باعتباره الحيز الذي يسمح باستقبال هذا النوع من الانفصال عن حركة البشر. يظهر في الفيلم مشهد من أعلى لتربة سيدي جلال ثم تنتقل الكاميرا لمشاهد في ترب الأباجية.

نلاحظ من خلال استعراض النماذج السابقة أن استدعاء القرافة في الأعمال السينمائية كان محصورا بالتوظيف الواقعي. فمعظم الأفلام ركزت بالأساس على الجبانات كمكان مكتظ بالبشر بسبب أزمة السكن التي عرفتها القاهرة لعدة عقود وصعدت إلى السطح بكثافة في عقد الثمانينات من القرن الماضي. لذا غلب الاستخدام الواقعي المرتبط بواقع الناس في المدينة على استدعاء جبانات القاهرة سينمائيا، وهو ما غيب التنوع الهائل الذي تعرفه الجبانات، التي ظهرت في الأفلام كمكان يبرز التناقض بين عوالم الأحياء والأموات فقط.

العوالم التي تضمها القرافة كفيلة لإنتاج أعمال سينمائية قائمة بذاتها. تجمع بين سحر الموروث الشعبي والقصص المدهشة التي تضمها الجبانات لخلق عالم سينمائي بمفردات شديدة العذوبة والفرادة، معبرة عن الواقع المصري بلمحة غرائبية، فما قدم عن جبانات القاهرة سينمائيا لا يزال محدودا جدا ولا يتناسب مع حجم التنوع الذي تعرفه هذه الجبانات، والتي تستطيع أن تدلف بنا إلى عوالم الواقعية السحرية بصورة تنتج مرادفات بصرية على الشاشة الفضية تعيد اكتشاف ما في جبانات القاهرة من كنوز منسية، فلا تزال الجبانات المهددة الآن بالمحو تقف صامتة تنتظر من يكتشف كنوزها سينمائيا.

اقرا أيضا:

ألغاز القرافة.. حساب الجُمّل فن منسي

بساتين القرافة.. ثروة خضراء مهددة

بطن القرافة.. مشاهدات خيري شلبي في الجبانة

قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة

«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب

هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية

الباب السحري.. القرافة مفتاح كتابة تاريخ مصر

جبانات القاهرة.. متحف مفتوح للعمارة المصرية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر