الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية

لم تكشف جبانات القاهرة عن كل كنوزها بعد، فتحت كل حجر قصة، وفي كل ركن تحفة تعيد تشكيل تاريخ هذا البلد، البعض ينشغل بأسماء الشخصيات العامة التي دفنت في القرافة، والبعض يهتم بالطرز المعمارية للأضرحة، لكن بين كل هذا وذاك، توجد خطوط ذهبية تنسج الروابط بين أطراف القرافة، كنغم سحري يسري في أوصال القرافة كلها، تلاحظه بالعيون وتستمتع بجماله النفوس، فأحد أعظم كنوز القرافة غير المسلط عليها الضوء تلك الخاصة بالنقوش الكتابية، التي يعود أقدمها إلى ألف سنة أو يزيد.
أما تلك التي تعود إلى نحو مائة عام فهي تحف صنعت بأنامل كبار الخطاطين في مصر والعالم الإسلامي، ليتجسد أمامنا أكبر متحف مفتوح لروائع فن الخط العربي، وهو كنز أثري لا تعترف به وزارة الآثار لذا يتهدده الإزالة بقوة البلدوزر، وإذا حدث ذلك فإننا أمام خسارة فنية لا تعود وتراث إذا بدد لا يجمع مثله أبدا، فهل نحكم العقل ونحافظ على كل هذه التحف المنصوبة وغير المدروسة وغير المسجلة؟ أم ننحاز للهدم العشوائي الذي لا يعرف معنى التراث ولا أهميته للشعوب؟
جولة في جنبات القرافة كفيلة أن توقظ عينيك على كم الجمال المختبئ على جدران الأضرحة وشواهد القبور، ففي ترب الإمام الشافعي، بنيت الكثير من المقابر في فترة حكم أسرة محمد علي، من مدافن أسرة الباشا الكبير والأسر ذات القرابة والمصاهرة وليس انتهاء بكبار رجال الدولة وشخصياتها العامة، لذا تحولت هذه المساحة إلى ساحة تنافس جمالي في تزيين الأضرحة، بفنون إسلامية مختلفة وفي مقدمتها فن الخط العربي الذي يميز هذه التحف الفنية.
الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي تصوير: محمد شافعي
الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي تصوير: محمد شافعي
***
لا تخلو مقبرة من شاهد في تكريس لرغبة إنسانية في تسجيل أن صاحب هذا الشاهد كان في دنيا الأحياء يوما، قبل أن يدلف في باطن الأرض في صحبة من سبقوه إلى عالم الأموات، لذا يحرص المرء أو أهله على كتابة اسمه وألقابه وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته على شاهد القبر، مع تزيين الأخير ببعض الآيات القرآنية التي تناسب مقام الموت، وتذكر بحقيقة فناء الدنيا، وأن الآخرة هي دار البقاء، لذا كان علية القوم يستخدمون كبار الخطاطين لكتابة هذه الجمل التي تزين الضريح، وفي ذلك يتنافس المتنافسون، في تعبير عن تجربة مصرية خاصة جدا تحتفي بالموت كما الحياة، ولا تستطيع أن تترك فرصة دون تسجيل طابع شخصي يميز المصريين وكل من يعيش على أرض مصر ويشرب من نيلها.
لا غرابة إذن أن تتحول القرافة إلى ما يشبه متحف مفتوح لتطور فن الخط العربي، ومن أسف أن هذا الجانب هو الأقل رعاية واهتماما من قبل الحكومة ممثلة في وزارة الآثار التي لم تهتم يوما بتسجيل هذه الكتابات التي تشكل صفحة مهمة من ذاكرة الوطن، وتقدم عدة نماذج بديعة التكوين لفن الخط العربي تستحق أن يخلق لها برنامج سياحي لمشاهدة هذه الروائع المنسية.
***
ووسط الإهمال الرسمي بالقرافة وما تحوي من روائع، ظهر شاب ينتمي لأسرة من الخطاطين عريقة، لديه شغف غير عادي بالخطوط التي يتنفسها والتي يجمع تراثها ويعمل على تسجيل المنسي منها وإنعاش ذاكرتنا المنهكة بأسماء كوكبة من كبار الخطاطين الكبار الذين مروا على القرافة وتركوا فيها بصمات فنية لا تنسى، ذلك الشاب هو محمد شافعي، الخطاط الشاب حفيد الخطاط الراحل خالد الصوفي زاده رأس عائلة من الخطاطين، يعد شافعي الجيل الخامس فيها، لذا لم يكن غريبا أن يشعر محمد شافعي بحنين جارف للنقوش الكتابية في القرافة، إذ نشأ في بيت العائلة المجاور لقبة الإمام الشافعي، فكان من البداية الأقدر على الاضطلاع بمهمة الكشف عن كنوز فن الخط العربي والتوعية بما تحتويه جبانات القاهرة من روائع منسية تتعلق بالنقوش الكتابية، التي لا تعود أهميتها إلى تاريخها أو إلى اسم الشخص الذي تحمله، بل أن بها قيمة في ذاتها إذ تعد لوحة فنية أبدعها فنان مصري فحملت بصمته وتوقعيه.
تصوير: محمد شافعي
تصوير: محمد شافعي
***
يقول شافعي “لباب مصر” إن المنطقة المهددة بالإزالة في ترب الإمام الشافعي لأنها في طريق مشاريع الكباري هي أغنى مناطق جبانات القاهرة بالنقوش الكتابية التي لا تقدر بثمن، لأنها تضم أجمل نماذج أعمال كبار الخطاطين في مصر والعالم الإسلامي، وتابع: “لسنا ضد التطوير ولا مشروعات التنمية، لكن المسار الحالي لمشروعات الطرق في القرافة يهدد مجموعة من المقابر التي تضم مجموعة نادرة من النقوش الكتابية والتي تمثل أهم أعمال خطاطين كبار، وللأسف لا يوجد توثيق لهذه الأعمال الكفيلة بإعادة كتابة مراحل تطور فن الخط العربي عموما، وتاريخ المدرسة المصرية في الخط العربي”.
يمتلك محمد شافعي شغفا لا يحد في عمله شبه اليومي بالتوجه إلى القرافة والعمل على توثيق ما يقدر عليه من كتابات وخطوط كبار الخطاطين المصريين، وهو عمل فردي يبذل فيه الساعات يوميا بجهد عاشق لمدرسة الخط العربي، وهو يرى عن حق أن النقوش الكتابية لها أهمية تاريخية معروفة للجميع لما تحمله من معلومات مهمة على الصعيد التاريخي لمصر، لكنه يرى أن الشق الفني للنقوش الكتابية مهم جدا على الرغم من أن قلة هي التي تهتم بهذا المجال، لافتا إلى أن معظم النقوش الكتابية المهمة تعود إلى فترة توهج مدرسة الخط العربي في مصر في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ورغم أهميتها فإنها قلما درست بشكل جدي فالقرافة “منجم بكر” في مجال النقوش الكتابية، على حد وصف شافعي.
تركيبة فاطمة هانم حرم إسماعيل صدقي..خصوص أحمد خالد
تركيبة فاطمة هانم حرم إسماعيل صدقي..خصوص أحمد خالد
***
ويشير الخطاط الشاب إلى أن النقوش الكتابية في القرافة، تقدم فرصة ذهبية لتقديم دراسات حقيقية عن كبار الخطاطين الذين انتجوا أبرز أعمالهم في مصر ولا نعرف عنهم ولا عن أعمالهم إلا القليل. ضاربا المثل بالخطاط محمد إبراهيم الأفندي، الذي توفي في أربعينيات القرن الماضي، والذي تتلمذ على يد صاحب النهضة الخطية في مصر الخطاط محمد مؤنس زاده.  إذ تولى محمد إبراهيم الأفندي عدة مناصب حكومية منها وظيفة خبير مضاهاة الخطوط بالمحاكم، ومدرس الخط العربي، والذي لا نعرف له إلا أعمال لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لكن المفاجأة أن محمد شافعي عثر له على عدة نماذج في القرافة لم تدرس ولم يتم تسجيلها من قبل، كما أشار إلى أن الخطاط الشهير عبد الله بك الزهدي، الذي تم هدم قبره في هوجة الإزالات الأخيرة بالقرافة، لم يكن يعرف له من أعمال إلا سبيل أم عباس بالصليبة، وسبيل صالح أبو حديد بالسيدة زينب، ومسجد الرفاعي، لكن له تركيبة في حوش الباشا لا يلتفت إليها أحد، كما أن الخطاط الشهير عبد العزيز الرفاعي، الذي توفي سنة 1934، والذي لم تعرف له أي أعمال باستثناء كتابة المصحف بخطه للملك فؤاد، لكن المفاجأة -والحديث لمحمد شافعي- أن له نقوش كتابية بديعة تحمل توقيعه في مدفن أحمد شفيق باشا وهو مهدد بالإزالة، وهو نفس الوضع مع الخطاط أحمد الكامل الذي له ثلاثة أعمال في غاية الروعة والجمال بالقرافة لا يعلم عنها أحد أي شيء.
***
يتحدث محمد شافعي بمزيج من الحسرة والألم عن حجم المصيبة التي تتهدد القرافة ومعها مستقبل التأريخ لمدرسة فن الخط العربي. كان يتمنى أن يقام متحفا مفتوحا في القرافة لمن يرغب في مشاهدة روائع الفنون الكتابية ورائع الخط العربي التي تزين القرافة بأنامل كبار الخطاطين في مصر والعالم الإسلامي على مدار قرنين من الزمان. لكن رغبته يبدو أنها ستظل حبيسة الصدور، فعند مغادرتنا للقرافة تاركين شافعي ينهمك في عمليات توثيق كل حجر وزاوية في القرافة لينقذ ما يمكن إنقاذه من تاريخ بلده، لمحنا البلدوزر يقف أمام القرافة ينتظر فقط إشارة ببدء الدهس ليضيع معه تاريخ لا يمكن أن يعوض إذا ضاع.
اقرا أيضا:

قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة

«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب

هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر