البحث عن الأرشيف الضائع (1): «أهل القمة».. تلف وضياع

منذ نصف قرن تقريبا، في عدد نوفمبر 1974، من مجلة “رسالة اليونسكو”، التي تصدرها المنظمة الدولية الكبيرة، خصصت المجلة غلافها والتحقيق الرئيسي للعدد لموضوع تراث السينما العالمية، باعتبار الأفلام ثروة قومية ينبغي الحفاظ عليها وإنقاذها من التلف والضياع.

سبعة عقود من الاهمال

تحت عنوان “كنور السينما المفقودة” كتب صانع الأفلام والمؤرخ الهندي بجوان د. جارجا عن آلاف الأفلام التي ضاعت من تراث السينما، خاصة في عهدها الأول الصامت، في كل أنحاء العالم. حيث لم يأت الوعي بأهمية هذه الأفلام إلا في مرحلة متأخرة، فبات في معظم بلاد العالم أرشيف لحفظ أصول (نيجاتيف) ونسخ (بوزيتيف) الأفلام. قبل أن يصل عصر الثورة الرقمية فيجعل حفظ الأفلام أمرا سهلا، ويتيح إمكانية ترميم ما تلف من أفلام وإعادته سليما نضرا، وحفظه في أمان تام بعيدا عن عوامل التعرية والعمر الافتراضي للشرائط السيلولويد القديمة.

من أكثر من نصف قرن، كما يشير ملف “رسالة اليونسكو”، وبالتحديد عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. بدأ العالم ينتبه لأهمية حفظ أرشيفه السينمائي، وقامت بلاد كثيرة بإنشاء ما يطلق عليه السينماتيك، أو أرشيف السينما.. إلا عندنا. فحتى الآن لا يوجد كيان اسمه أرشيف السينما المصرية، بالرغم من أصوات التنبيه التي بحت على مدار عقود.

فيلم يتلف كل يوم

قد يعتقد القارئ أنني أبالغ حين أقول أن هناك فيلما من أفلام السينما المصرية يتلف كل يوم. بما في ذلك نسخ النيجاتيف المحفوظة في ثلاجة مدينة السينما، فالثلاجة لا تحمي الأفلام إلى الأبد، ولا سبيل لإنقاذها سوى تحويلها إلى نسخ رقمية قبل أن تتحلل تماما. ولكن ليعلم القارئ أن هذه هي الحقيقة على الأرض، وأن كل يوم يمر دون أن تنقذ هذه الأفلام يعني أنها تزداد تلفا وتحللا.

الصديق سامح فتحي، المهتم بأرشيف السينما، قام بشراء حقوق بعض الأفلام، ليحولها إلى نسخ رقمية. وعندما ذهب للبحث عن بعض هذه الأفلام أخبروه أن هناك ثلاثة أنواع من الأفلام: نوع بحالة جيدة. نوع أصابته تلفيات بنسبة أقل من 70%. ونوع تلف تماما أو تقريبا. وعندما سأل في الثلاجة عن نيجاتيف فيلم “أهل القمة“، وهو فيلم حديث نسبيا، من إنتاج 1981، أخبروه أنه غير موجود. وعندما سأل عن نسخة البوزيتيف الموجودة في مخرن المركز القومي للسينما أخبروه أنها تلفت تماما!

و”أهل القمة” هو بالفعل فيلم لأهل القمة: قصة نجيب محفوظ، وإخراج علي بدرخان وبطولة سعاد حسني، نور الشريف وعزت العلايلي، ولكن كل هذه الأسماء لم تشفع له من الضياع والتلف.

نداء إلى اليونسكو

هذه حالة واحدة من عشرات، أو مئات، الحالات. وتخيل معي أن بعض أفلام الثمانينات ضاعت وتلفت، فما بالك بأفلام السبعينات والستينيات والخمسينات. وعليك أن تضع يديك فوق رأسك إذا حاولت تخيل ما حدث ويحدث مع أفلام الأربعينات والثلاثينات!

هل يعقل أن مصر حتى الآن لا يوجد بها معمل محترم لترميم النيجاتيف. وأن كل ما هناك ماكينة أو اثنتين لغسل النسخ البوزيتيف، وماذا يفعل الغسل لنسخ ممزقة متحللة؟

طيب هل يعقل أننا نلف حول أنفسنا منذ أربعة عقود بحثا عن أرشيف للسينما يعمل على البحث عن، وترميم، وحفظ الأفلام، بحجة أننا ليس لدينا ميزانية كافية؟ وهل يعقل، طيب، أننا لم نهم إلى الآن بتوقيع اتفاق مع فرنسا. التي تملك واحدا من أقدم وأفضل أرشيفات الأفلام، والتي عرضت علينا مرارا وتكرارا التعاون لإنشاء أرشيف مصري وترميم الأفلام على نفقتها. مقابل الحصول على نسخ تحتفظ لنا بها في أرشيفها؟ ولو لم تعجبنا فرنسا هناك غيرها. ولو وجهنا نداء إلى اليونسكو لإنقاذ تاريخ السينما المصرية كما فعل مع آثار أبي سنبل الغارقة لأسرع المجتمع السينمائي الدولي بالتدخل لإنقاذ كثير من هذه الأفلام.

 الورق أسوأ حالا

الأفلام طبعا هي أغلى مقتنيات السينما، ولكن الاهمال لا يقتصر على الأفلام، وما يتعرض له الأرشيف الورقي أسوأ. وقد كتبت منذ أسابيع عن مقتنيات نور الشريف التي تباع على الرصيف منذ عام ولم تزل. والأسبوع الماضي نزلت إلى الأرصفة مقتنيات فنان آخر هو سمير صبري الذي تعرض أوراقه الشخصية وعقود أفلامه وصوره الفنية والشخصية الآن لمن يرغب في شراءها قطاعي أو بالجملة. وكل ما حدث كرد فعل على تشرد مقتنيات نور الشريف كان عاصفة في فنجال، كما يقال، طالما أنه لا يوجد مؤسسة لها سلطة وميزانية ومبنى مناسب وخطة لجمع وأرشفة هذه المقتنيات.

وأول خطوة يجب أن تتخذ في هذا الاتجاه هو تشكيل لجنة يشارك فيها متخصصون أجانب، وأشدد على ذلك، متخصصون أجانب، كما نفعل مع الآثار. لجرد وفحص الثلاجة ورصد ما تحلل وما تلف تماما وما يمكن إنقاذه من الأفلام.

وسوف اكتب خلال مقالات قادمة عن بعض محتويات هذه الثلاجة وعن الكوارث البيئية والبشرية التي لحقت بالكثير منها. فالأمر لا يقتصر على  عوامل الطبيعة، ولكن الكثير من هذه الأفلام تعرض للتشويه بفعل فاعل، مثلما حدث مع أفلام شركتي “ART و”روتانا”، وهذا موضوع خطير آخر.

اقرأ ايضا:

نور الشريف على الرصيف في سوق الروبابيكيا

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر