«جودة الونش».. موت بائع الخبر

حينما تجهز لمهنته التي لازمته وصاحبته طويلا، ربما أدركه ظن بأن بعضا من بضاعة الكلام التي راجت كثيرا، لا تعدو سوى فائض لفظي أهترأ. أو لربما، طوقه حس أن ما تردد أو ما جرى على الألسنة “الجرنال.. بيقول”، هو محض قول عابر لا يخص أحدًا أوانه يقوض ما يجرى في نهر الحياة.

لابد وأن تلك التأملات التي خالجته وراودته، خلصت إلى أن يجهر بصوت آخر فآثر أن ينقض على ما خايله وما طاف بخياله من صور تراءت له. فاجترأ أيضا على أن يعلن عن مسار بديل ومضاد ليهزأ من أجواء ضحلة سائدة ذاعت طويلاً، حاملاً بسخرية على عقم حقيقة ما، أو لتهافت أخرى. مؤكدا على أن الاعتناق الذي استقر في ضمائر بسطاء آمنت به هو محض “وهم” و”تصور” رث سرى في النفوس والأفئدة.

فسعى ليفضي بالتوق للانعتاق. ويروج للخلاص من تعابير معقمة ومكيفة أفضت إلى نضوب حياة يانعة نابضة بنضارة فاتنة. لذا انبرى عم “جودة الونش” ليكمل خطرات ورؤى راوحته فأعلن عن تمرده. حيث سعى في قطار الضواحي “أبى قير” يشق ببراعة وخفة زحام ممرات عربات القطار، تميزه هيئته المنبعجة الموسومة بالبدانة. قامة قصيرة، ملامح وجه مجعد، يعرج قليلا.. يحمل تحت أبطه رزمة من جرائد “بير السلم” لا يعرفها أحد، ولا يقرأها أحد، جرائد احترفت “فبركة” الخبر.

**

وفي أداء مميز ولافت، يوزع الجرائد على زبائنه الذين يحتلون المقاعد الطويلة والعريضة الكائنة بضفتي العربات “الصرخة، الدهماء، الرأي الحر..” وممسكا وملوحا بأخرى كراية. ووسط ضجة وهرج زبائنه، يخترق الممرات المكتظة بالركاب، يستحضر “مانشتات” و”تحارير” الجرائد. تسعفه فطنته المنفردة في التزيد والشطط الذي لم يغب عنه ومزحة اللاذعة التي لم يحجبها.

وفي أداء تمثيلي يهتف زاعقا بربع جنيه فقط زفاف طفلة في السابعة من رجل في الثمانين. وهو مشهد في حفل تنكري، “يسرا تنتحر حزنا على مرض صديقها” يسرا أخرى غير الفنانة.

“هروب ميت بعد تحطيمه لقبره” ترديد لخرافة شاعت في إحدى قرى مصر. ولأن زبائنه لا تكف عن الضحك والتندر والصخب، يعلن عن طرفته.. أكمل ما يأتي “إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي”.

“الصرف الصحي يصرف على الوزارة” خبر مجازي يحمل حدث محاصرة مياه المجاري لمحطة الوزارة ببولكلي بالإسكندرية. “راقصة صاعدة تدير شبكة دعارة في قسم الشرطة”… مشهد حدث في مسرح الهنك والرنك.

**

اعتاد “جودة الونش” أن يؤدي حرفته في طقس يومي. وصاحبه عديد من محبيه والعاشقين لأدائه كممثل واعد وليس بائع جرائد حيث يربح من مهنته قروش زهيدة. ثم يمضي إلى مضجعه الذي لازمه طويلا، ليغفو على العشب الأخضر الكثيف بحديقة نوبار. وبالكاد تطوي جسده الذي صار هزيلا بطانية مهترئة يجاوره منديل عريض معقود، يحمل بقايا قوت يوم وذات ليل معتم من ليال صقيع “طوبة” بموت عم “جودة الونش”. وفي شقشقة الصباح كانت كلاب الحديقة الضالة تنشب مخالبها في جسده ولم يبق من سيرته سوى جرائد متناثرة والتي ظلت “وسادة” رأسه الدامية، وليصبح الرجل مجرد خبر “منتهي الصلاحية”.

اقرأ أيضا:

صباح المكن

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر