عندما يصبح الطرق على الحديد وسيلة للبقاء.. حكايات من قلب «تل الحدادين» في طنطا

في جزء من الحي الثاني بمدينة طنطا، وقبل أن تطال الشوارع يد التطوير والحداثة، يقف «تل الحدادين» صامدًا أمام طرقات الزمن، كأثر حي ينبض بحكايات الصبر والأنين، مخلفًا تراثًا يصعب تكراره في ظل التحولات التي تشهدها المدينة.
في جولتي بين شوارعه وطرقه، لم تخطئ أذني صوت التل العتيق، الذي تنبض به الورش، ويعتاد عليه أكثر من 3000 عامل يوميًا، من أبناء التل والوافدين للعمل فيه. كما أن الطرقات لم تكن ممهدة بشكل كافي للسير عليها، ما أوضح لي مدى معاناة أهل التل.
في التل، ذاكرة من نار وحديد تمتد لأكثر من مائتي عام، ومساحة إنسانية أرهقها الزمن، وأهلها ما زالوا يعملون في هذه الشوارع الضيقة، يتوارثون المجال أبًا عن جدٍ منذ أسسها الحاج نادي السباعي والحاج حسين السباعي. ورغم الإرهاق البادي على وجوههم، إلا أنهم يقاومون حبهم وحاجتهم وما فرضته التقاليد عليهم.
ورش الحدادة.. بيوت ثانية
سرت في شوارع التل الضيقة، وشعرت أنني داخل حكاية قديمة مختلفة تمامًا عن حكايات طنطا التي عهدتها. لم أشعر أني غريبة على المكان، رغم علمي التام بأن يد الحداثة لم تطله قط. التقطت أنفي رائحة الدخان والفحم وصدأ الحديد وعرق الشقيانين، وكذلك رائحة القمامة التي تستقبلك بها المنطقة للأسف.
وعندما سألت أحد الرواد عن هذه الرائحة، وماذا تفعل الحكومة حيالها، أجابني بأن الأهالي هم السبب، وأن الحكومة لا تتوانى عن إزالتها يوميا تقريبًا، لكنها تتزايد مع كل صباح، مما أزعج الباعة هنا بشكل لا يوصف.
في أحد الورش، يجلس عم جميل، 65 عامًا، يمسك بيده مصحفًا يقرأ فيه وينتظر عودة الحركة إلى الشارع بعد إجازة عيد الأضحى. قال إنه لم يأخذ إجازة أصلًا، فهو يعتبر ورشته أهله وحياته، حتى وإن توقف فيها عن العمل أسبوعا.
ورث جميل الورشة عن أبيه الحاج إسماعيل، ولم تغلق أبدًا إلا يوم وفاة والده، تنفيذا لوصيته، أما بقية وصاياه فكانت الحفاظ على صلاة الفجر، والعمل بالحديد المستعمل فقط، والوقوف بجانب عمال اليومية في ورش التل دون أن يبخل عليهم بتقديم المساعدة المادية أو المعنوية.
الحديد.. لغة التل
«الحديد هو اللغة التي أستطيع الحديث بها»، قالها يوسف، الشاب ذو الـ28 عامًا بقلبه، قبل أن ينطقها لسانه. يعمل في التل منذ كان في العاشرة من عمره، تضحك عيناه رغم التعب، ويربت على قطع الخردة كأنها جزء منه، لم يخل عالمه يوما من الحديد، حتى في بيته الصغير بشارع الجلاء، لكنه حزين لتراجع حركة البيع والشراء.
يعزو يوسف هذا التراجع إلى غلاء أسعار الحديد، والقوانين التي فرضت على الأهالي عدم البناء إلا بتصاريح تأخذ شهورًا، ما تسبب في إغلاق بعض الورش لعجزها عن إنتاج ما يباع أو ما «يملي عين الشاري».
في الورشة التي يعمل بها يوسف، لا يتمنى أبدًا أن تغلق حتى لو خلت من الزبائن، فصاحبها رجل طيب وقوي، وذكاءه يجعله يسوق لنفسه في المحافظات المجاورة، خاصة المنوفية، فأكثر رواده منها، وأحيانًا من البحيرة. أما داخل المحافظة فيعتبر خطا السنطة وزفتى من أهم خطوط التوريد.
رجال التل لم يتغيروا كثيرًا، مثل التل نفسه. وجوههم السمراء المحروقة بالشمس، وملابسهم المتسخة بالرماد والعرق، تخبرك أنهم يعرفون قيمتهم، وأنهم باقون هنا باختيارهم، وكأنهم يقولون: “نحن من يشعلون النار لتسير الحياة، لا من يطفئونها”.
المطرقة التي علمت أبناءها الشرف
أهل تل الحدادين لا يرون مهنتهم مجرد صنعة. يقول أحمد لـ«باب مصر»: “الطرق على الحديد ليس مجرد صوت، بل بداية جديدة لليوم”، وهو ما علمه احترام لقمة العيش، وخوفه من فراغ البطالة.
يؤكد بوجع دفين أن الزبائن باتوا يهجرون التل ويسمعهم في كل مرة يستنكرون غلاء الأسعار والرائحة الكريهة. هذا ما يقلقه في كل يوم: أن يقضي نهاره خارج هذا التل. أو أن تأتي عليه لحظة تخونه فيها صحته ولا يستطيع الحركة والعمل.
التاريخ المنسي في قلب طنطا
يقول الحاج عبد المهيمن لـ«باب مصر – بحري» إن تل الحدادين كان شاهدا على بداية صورة صناعية صغيرة في وسط الدلتا. فلم تكن المصانع الكبرى بنيت بعد. كان يصلح فيه كل شيء ويباع الحديد بالجديد، وتصنع أدوات الزراعة. وإصلاح عجلات العربات وقطع السيارات، واللحام، والخردة المختلفة، وحديد التسليح. وما كان يحفر على بوابات البيوت الحديدية من أسماء عائلاتها.
ويؤكد أن التل كان مدرسة حرفية ثقيلة، خاصةً في الستينيات كما حكى له والده. كثير من الصنايعية الكبار في الإسكندرية والقاهرة ومدن الصعيد، بدأوا من هنا.

بداية حكاية التل
كانت المنطقة في بدايتها مجرد تجمع لورش الحدادة. استقر فيها الحدادون وصناع النحاس والنحاس الأصفر. وأسسوا ورشهم جنبا إلى جنب، لتظهر بعد ذلك معالم سوق كبير للخردة والحديد، أضيف إليه بيع الحديد الجديد.
وكان أول من خط أساس ورشته في التل المعلم نادي السباعي، الذي بدأ بجمع الخردة من الشوارع وبيعها بأسعار زهيدة. إلى أن صار “معلم السوق” وكبيره، بحسب حديث مجدي راشد، أحد كبار السوق.
يقع تل الحدادين في قلب طنطا، بالقرب من أسواقها الرئيسية التي تضم حلقة السمك، وحلقة القطن، وشارع الخضار. كما يقع خلف سوق الذهب، وضريح السيد البدوي، ومحطة القطار. هذا الموقع الاستراتيجي ساعده على الانتشار في جميع المحافظات، خاصة أنه السوق الوحيد في طنطا المتخصص في تصنيع الحديد وبيعه، بنوعيه الجديد والمستعمل.</p>
وقد تميزت المنطقة منذ نشأتها بعمالها المهرة وتنوع المنتجات. حتى صنفت قطع الغيار التي تباع فيها ضمن أفضل قطع في الدلتا. واستمر التل في الازدهار حتى الربع الأخير من القرن العشرين. قبل أن يتراجع بسبب التحديات المتزايدة، وفي مقدمتها منافسة المنتجات المستوردة، بحسب شهادة الحاج عبد العزيز العتيبي لـ«باب مصر».
حين يتحول التراث إلى مقاومة يومية
اليوم، يقاوم سكان تل الحدادين كل يوم: يقاومون الإهمال، والتهميش، وغلاء الأسعار وإغلاق الورش. لكنهم يقاومون بأسلوب شاعري، يمثل حياتهم التي يعانون فيها ويصمدون بكل حب. يقاومون بالطرق! فكل مطرقة على الحديد تثبت وجودهم، تعلن صوتهم، وتؤكد حقهم وإصرارهم على البقاء. إنهم يقاومون بكل ما أُوتوا من إخلاص.
وفي زمن يركض كل شيء نحو الربح السريع والتكنولوجيا، تجمد تل الحدادين وسط طنطا كأنه خارج الزمن. لكن الحياة فيه تعلمنا أن كل الصور، وإن بدأت بسيطة وتألقت، ستظل كما هي بسيطة.. لأنها حقيقية جدًا.
اقرأ أيضا:
في عيدها القومي| المنوفية كما يراها فنانوها: قصائد تتلى وقرى تحكي وثقافة لا تغيب