نجيب سرور وأمير الشعراء ورمزية القبر المهدم

بكائية القبر المهدم “عدودة”  تُغنَّى في الجنائز بشكل خاص، وتُغَنَّى بشكل عام أحيانا كي تعبِّر عن صورة الألم الناتج عن قسوة الغربة وترك الأهل والأوطان، أو تخلي الأهل عن الفرد.

البكائية منتشرة شمالا وجنوبا وكاشفة لعلاقة الإنسان بقبره، ورغم بساطتها الشديدة إلا أنها تحرك الوجدان بقوة. لدرجة أن الشاعر نجيب سرور يعتبرها بشكل غير مباشر أميرة النصوص الشعرية، لكنه لا يقدم المبررات، وقبل أن نقدم تفاعله معها، نتوقف سريعا أمام نص العدودة:

ودا قبر مين اللي ما حد يروح له

قبر الغريب اللي ما جولة أهله

ودا قبر مين اللي البقر هده

قبر الغريب اللي ترك أرضه

ودا قبر مين اللي البقر داسه

قبر الغريب اللي ترك ناسه.

لا تنظر الثقافة الشعبية إلى القبر بمعزل عن صاحبه. فكرامة القبر من كرامة صاحبه، وهوانه من هوان صاحبه، والمثل الأعلى للهوان في الثقافة الشعبية هو الرجل الذي ترك أرضه وأهله، أو الرجل الذي تعرض للنبذ من أهله. ومن ثم انحدرت مكانته إلى الحضيض.

**

في الثقافة التقليدية كان الخروج من الجماعة نوعا من الانتحار. وكانت أكبر عقوبة بعد القتل هي طرد الفرد من الجماعة، وفي المجتمعات القبلية كانت تساوي الحكم بالإعدام. ومن هنا يُعْتبر هدم القبر نوعا من العقاب على جريمة ترك الوطن بأرضه وناسه، وحتى هذه اللحظة من الشائع حرص الريفيين الذين هاجروا إلى المدينة على استقرار أجسادهم في قراهم البعيدة، فالمدفن أداة من أدوات التحام الفرد بالجماعة.

علاقة المصريين بقبورهم بالغة العمق، وحرصهم على الدفن بين الأهل قديم جدا. ولدينا قصة “سبني” الشهيرة، فقد حدث أن “محو” والد “سبني” قام برحلة خطيرة في قلب السودان طلبا للاتجار. وهناك انقض عليه بعض القوم من الهمج وذبحوه، فلما سمع ابنه “سبني” قام على الفور برحلة تحفها المخاطر في قلب ذلك الإقليم المعادي. واستخلص منه جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال الرحلة للموت، وأحضر جثمان والده ليدفن في مصر. ولا يزال قبر “سبني” باقيا في أسوان حتى الآن. ويحتوي هذا القبر على النقوش الدالة على ما قام به الابن “سبني” نحو أبيه “محو” من ضروب الشجاعة لاستخلاص جثمان والده المذكور من الأرض الغريبة.

عمق علاقتنا بالقبور كان واحدا من أسباب سحر البكائية الشعبية، لكن بناء العدودة نفسه يستحق التأمل. بداية من المطلع وهو يعبر عن الاستغراب ويكشف بشكل غير مباشر عن عظمة الحدث، مرورا بالكلمات القليلة التي تحمل قدرا من المراوغة. أي أنها تحمل دلالتها المعروفة لكنها تتجاوزها إلى دلالة أخرى غير شائعة.

**

معنى كلمة الغريب هنا يبدو مختلفا عن المعنى الشائع، أو هي تحمل المعنى الشائع كما تحمل دلالة أخرى. فالغريب هنا يبدو كما لو كان لقبا من ألقاب المتوفى، مثل “المرحوم”. وبهذا يكون الموت نوعا من الغربة لا نوعا من العدم، وتكون الغربة نوعا من الموت. ويكون الموت درجات  أشدها الغربة بين الأهل، وقديما كان يعرف المتوفى بساكن الغرب.

كلمة البقر هنا تبدو مراوغة، فهي تعبر عن كائن قوي وبهيم يمتلك القدرة على الهدم والدهس بلا شفقة. فكلمة البقر في الدلالة الشائعة تعبر عن الجهل وسوء الفهم أو البلادة والبلاهة والغباء ويرد ذلك المعنى في الشعر كثيرا. يقول البحتري في بيته الشهير:

عليَّ نَحْت القوافي من مقاطعها

وما عليَّ إذا لم تفهم البقر…

ويقول أبوتمام في هجائه لبعض الأقوام:

لا يدهمنّك من دهمائهم عدد

فإن أكثرهم أو كلهم بقر.

**

البقر رمز مناسب للهدم، بسبب قوة بنيانها وشدة أظلافها، وعدم شعورها بحرمة القبور. لكن في ظل هذا المعنى الشائع نجد البقر رمزا للوعي والمكر، لأن أظلافها تميز قبور الغرباء، أو القبور المهجورة، فلا تمتد إلى قبور أخرى.

بكائية القبر المهدم وجدت حفاوة كبيرة من نجيب سرور الذي يعتبرها من عيون الشعر الإنساني. وينصِّب مبدعها أميرا للشعراء وفق ما جاء في ديوانه “لزوم ما لا يلزم”.

الديوان يتكون من مقاطع مرقمة من رقم واحد حتى رقم (60) وبعض المقاطع يكتفي فيها بذكر الرقم وبعضها يضيف إلى الرقم عنوانا. والمقطع الذي وردت فيه المرثية الشعبية هو المقطع رقم (33) وهو من المقاطع التي أضاف لها عنوانا وهو (أمير الشعراء) الذي يبدو معروفا لدانتي. حيث يستشهد بشعره دون أن يعرف اسمه، وذلك في سياق الحديث عن الأم القاسية التي لا تعبأ بصراخ وليدها وآلامه. بل تكون هي مصدرها يقول على لسان “دانتي”:

الأم كانت لا تبالي، كنت منها قيد شعرة

ولكم مددت ذراعي، كم صرخت، فلم تجد حتى بنظرة

مارق يوما قلبها.. كانت كهرة

من قال فيكم ذات مرة:

“فيالك هرة أكلت بنيها* وما ولدوا وتنتظر الجنينا”؟!

– هذا أمير الشعراء..

شوقي..

**

من كل شعر شوقي يختار صورة “الهرة التي أكلت بنيها” لا لجمالها وتركيبها المدهش بل لقدرتها على تجسيد أزمة الشاعر بأقصر الكلمات. ويظهر أحمد شوقي هنا مجهول الاسم ومعروفا بشعره فقط، وكأنه يماثل المبدع الذي كتب المرثي الشعبية وتركنا مغرمين بها دون أن نعرف اسمه. وهكذا يمهد نجيب سرور بذكاء لتصريحه عن أميرة النصوص الشعرية. في الحوار الدائر بينه وبين “دانتي” شاعر الكوميديا الإلهية، يقول الشاعر مخاطبا دانتي:

أتدرى ما الجحيم؟!

– ها نحن فيه من الصباح!

– لا.. ليس هذا.. فالجحيم

هو أن تعيش بلا وطن

وتموت في المنفى، وتدفن في تراب الآخرين!

– الآن اذكر أغنية

كانت تُغَنَّى في المآتم عندنا

“ودا قبر مين اللي ما حَدْ يروح لُه

قبر الغريب اللي ما جُولُه أهلُه

ودا قبر مين اللي البقر داسُه

قبر الغريب اللي هَجَرْ ناسه

ودا قبر مين اللي البقر هَدُّه

قبر الغريب اللي هجر أرضه”.

– من قال هذا الشعر؟

– لا يدرى أحد

هذا يسميه “الثقاة” الفولكلور!

– الشعر عندكم بخير

ما دام هذا بينكم:

“ودا قبر مين اللي البقر هده

قبر الغريب اللي هجر أرضه”

هذا كبيركم وما فيها مرية

هذا أمير الشعراء

أَبْلِغْهُ إعجابي وأَقرِئْه التحية!

**

هكذا تظهر بكائية القبر المهدم في نظر نجيب سرور واحدة من عيون الشعر الإنساني. ويعتبر مبدعها كبير الشعراء، وهو لا يصرح بذلك على لسانه، بل يجعله يجري على لسان واحد من أعظم شعراء الإنسانية وهو دانتي. الأمر الذي يؤكد المقولة، ويدعمها بهذا الاسم الكبير، لكن لماذا منحها تلك العظمة الشعرية؟

عدودة القبر المهدم، بسيطة وسهلة جدا، لا نشعر بأن مبدعها بذل مجهودا كبيرا من حيث تركيب الجمل أو الاستعارات العجيبة المدهشة. بل هي مجرد وصف لمشهد عبور البقر فوق القبر على النحو الذي أدى إلى هدمه. ومع ذلك فنحن بحاجة لكي نستوعب سحرها، إلى أشياء كثيرة، منها قراءة ديوان لزوم ما يلزم بالكامل.

اقرأ أيضا:

رمزية الشوارع: أم كلثوم تسبق عبدالناصر في تونس

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر