من التراث.. خطابات لـ«النقراشي» تكشف خطة بريطانيا لتقسيم «السودان»

تزامنًا مع قرار الحكومة السودانية منح تركيا حق إدارة جزيرة سواكن، في الوقت الذي تدعي حكومة السودان أحقيتها في منطقتي حلايب وشلاتين المصريتين، حصلت “ولاد البلد” على نص الخطابات التي ألقاها النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر في عام 1947 أمام مجلس الأمن، حين كان يترأس الوفد المصري المطالب بجلاء القوات البريطانية من مصر والسودان، في خطاباته أتهم النقراشي باشا بريطانيا بسعيها لفصل السودان عن مصر والعمل على تقسيمها.

مثلث حلايب ومثلث بارتازوجا
مثلث حلايب ومثلث بارتازوجا


يعود تاريخ الخطابات تحديدًا إلى أغسطس من عام 1947، طبعت ونشرت بمعرفة المطابع الأميرية في كتاب حمل اسم (قضية وادي النيل – بيانات حضرة صاحب الدولة النقراشي باشا رئيس مجلس الوزراء، ورئيس وفد مصر أمام مجلس الأمن).
عريضة دعوى
في 8 يوليو من عام 1947، أرسل النقراشي باشا عريضة  دعوى لمجلس الأمن، أشار في الفقرة الأولى منها إلى عدم مشروعية الاحتلال البريطاني، طبقا لميثاق الأمم المتحدة، ثم عرض لقضية السودان مؤكدا على أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر مستنكرا احتلال بريطانيا السودان دون وجه حق، ونعرض جزءا مما كتبه النقراشي في هذا الصدد:
“أن احتلال القوات البريطانية الغير مشروع لمصر في عام 1882 واحتلالها الجزء الجنوبي من وادي النيل أي السودان تبعا لذلك، قد مكن حكومة المملكة المتحدة منذ سنة 1899 من أن تفرض على مصر اشتراكها معها في إدارة شئون السودان وأن تنفرد بعدئذ بالسلطان فيه، وقد استخدمت حكومة المملكة المتحدة هذا الوضع لكي تتبع سياسة ترمي إلى فصل السودان عن مصر ..”.
وفي الفقرة الأخيرة من العريضة يلخص النقراشي مطالب الوفد المصري في نقطتين:
– جلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان جلاء تاما وناجزا.
– إنهاء النظام الإداري الحالي للسودان.
عريضة دعوى مصر إلى مجلس الأمن
عريضة دعوى مصر إلى مجلس الأمن


احتلال وفصل
في أولى خطاباته أمام مجلس الأمن في 5 أغسطس 1947، وبعد أن قدم ديباجة الخطاب وتعرض لطبيعة النزاع بين مصر وبريطانيا، عارضا قضية استقلال مصر طبقا لميثاق الأمم المتحدة، بدأ في عرض قضية السودان مشيرا إلى عدة عوامل تؤكد وحدة مصر والسودان، مثل الوحدة الجغرافية الطبيعية التي صنعها نهر النيل، والذي ينتج عنه وحدة اقتصادية تتمثل في اشتراك البلدين في مورد ماء واحد يستخدم في ري المحاصيل ووحدة اللغة والثقافة والدين، وفي الوحدة السياسية استشهد النقراشي بالقوانين النظامية التي صدرت في عامي 1879 و 1882، والتي تنص على تمثيل السودان في البرلمان المصري، مشيرا إلى تبعية المصالح الحكومية بالسودان إلى الوزارات المصرية المعنية.
اتهم النقراشي بريطانيا باستغلال اندلاع ثورة المهدي كذريعة لطرد القوات المصرية من السودان واحتلاله ثم العمل على فصله عن مصر من خلال ابتداع مفهوم (الإدارة المشتركة) بين مصر وبريطانيا، ثم اتخاذ سياسات تؤكد ذلك، من خلال حظر الدعاء التقليدي من على المنابر للملك وتصعيب هجرة المصريين إلى السودان عمليا وإن كانت جائزة حكما، وعرقلة العلاقات الثقافية والاجتماعية بين شعبي البلدين، وأخيرا حرمان مصر من منصب قاضي القضاة بالسودان وهو منصب ديني يرمز إلى الروابط الروحية بين البلدين، وفي نهاية خطابه طالب النقراشي صراحة “جلاء الجنود الأجنبية عن بلادنا وإنهاء الإدارة الأجنبية الانفصالية، التي تقوم في جزء عظيم من أراضينا”، مشيرا إلى أن قضية مصر قضية عادلة في عصر الميثاق.
ادعاءات
في رده على خطاب السير الكسندر كادوجان، رئيس الوفد البريطاني والذي حاول أن يبرر وجود الإنجليز في السودان  بعد ثورة المهدي، خطب النقراشي بمجلس الأمن في 11 أغسطس 1947 قائلا: “على أنه يبدو أن السير كادوجان نسي أن البريطانيين أنفسهم هم الذين منعوا مصر من قمع الثورة وهي في مهدها، أنهم هم الذين أرغموا مصر على إخراج جيشها من السودان” ثم قال: إن “مصر لم تتخل في أي وقت عن وحدتها مع السودان، باسم مصر وجه كيتشنر نداءه للسودانيين لقمع ثورة المهدي، وباسمها أرغمت الحملة الفرنسية على النكوص على أعقابها في فاشودة ولم تمس اتفاقية 1899 سيادة مصر.
ثم عرض النقراشي مساوئ الحكم البريطاني في السودان؛ والذي اتسم بالتهميش والظلم وتمثل في حرمان أبنائه من التعليم العالي وإسناد الوظائف التافهة لهم، واعتبر النقراشي طرح الجانب البريطاني فكرة الحكم الذاتي السوداني ما هو إلا وسيلة من وسائل بريطانيا لاكتساب مشروعية الاحتلال لمعرفة حكومة التاج البريطاني – مسبقا -عدم استعداد السودان لتلك الخطوة بعد.
وفي نهاية خطابه عاد ليؤكد على وحدة وادي النيل، واتخاذ البريطانيين سياسة الفصل بين شطريه، مطالبا بتفعيل ميثاق الأمم المتحدة والاستجابة لمطالب الوفد المصري بجلاء القوات البريطانية تماما عن مصر والسودان.
تقسيم السودان
في 13 أغسطس وقف النقراشي أمام مجلس الأمن، ليدحض نظرية المندوب البريطاني بعدم تاريخية الوحدة بين مصر والسودان، ويعلن صراحة نية بريطانيا تقسيم السودان، وما قاله في الخطاب: “ومع ذلك قد تسمحون لي بذكر نقطة أو نقطتين أوردهما السير الكسندر كادوجان، فقد أنكر إنكارا باتا وحدة مصر والسودان من حيث هي حقيقة تاريخية، مع أن المؤرخ الكبير السير أ. و. بدج – كغيره من المؤرخين – يقول: “يبدو أن السودان كان يعتبر من قديم الزمان جزءا متمما لمصر”، ثم يقدم الدليل على خطة بريطانيا لتقسيم السودان، حين أشار إلى بيان السكرتير الإداري للسودان، والذي ورد فيه في صفحتي 13 و 14 ما نصه: “أن الأعمال تتجه إلى فصل الشمال عن الجنوب، وأكد ذلك استعمال اللغة الإنجليزية بدلا من العربية في مدارس الجنوب، ويخشى السودانيين في الشمال أن تكون نتيجة ذلك آخر الأمر شطر البلاد شطرين، بل وضم الجنوب أو جزء منه إلى أوغندا”.
في الختام جدد النقراشي مطالبه بجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان.
مصلحة السودان مع مصر
في خطاب يوم 22 من أغسطس، ألمح النقراشي إلى الخطر المحدق بالسودان والنابع من محاولات بريطانيا تقسيمه إلى شمال وجنوب، مؤكدا على موقف الحكومة المصرية واعتزامها حماية السودان من تقطيع أوصاله، وتمكين السودانيين من إدارة شؤونهم في نطاق الوحدة  تحت تاج مصر، “لن نتخلى عن السودانيين، وسنعمل كل ما في وسعنا لحمايتهم من عدوان استعمار أجنبي غريب”.
سيادة مستقلة
على مدار يومي 26 و28 أغسطس 1947، أشار النقراشي في خطاباته إلى رفض مصر للمقترحات الدولية والتي  كان من أبرزها المشروع البرازيلي، وما طرأ عليه من تعديلات من قبل أستراليا لتسوية النزاع من منطلق عدم تبعية  السودان لمصر، واستنادا إلى بنود معاهدة 36 والتي تخول القوات البريطانية فرض وصايتها على كل الأراضي المصرية، أكد النقراشي أن مسألة تقرير مصير الحكم بالسودان هي مسألة داخلية وأهلية ولا يحق لأي طرف التدخل بها، معتبرا أن معاهدة 36 فقدت مشروعيتها في ظل ميثاق الأمم المتحدة، مشيرا إلى أن بريطانيا حين قمعت ثورة المهدي فعلت ذلك باسم مصر وهو إقرار واضح بسيادة مصر على السودان، ومؤكدا أن استمرار وجود القوات البريطانية في مصر والسودان يهدد السلم العالمي، مطالبا مجلس الأمن بالفصل فورًا في النزاع على اعتبار أن مصر ذات سيادة مستقلة.
هوامش:
– نص خطابات النقراشي باشا أمام مجلس الأمن والمنشورة في كتاب:
قضية وادي النيل، بيانات حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا – رئيس مجلس الوزراء ورئيس وفد مصر أمام مجلس الأمن – أغسطس 1947 – المطابع الأميرية – رقم الإيداع ( 1023-1947-30000).

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر