ماجدة الغيطاني تكتب: «أن تُحِبُكَ ماجدة»

«تلك الليلة»

فتحتُ باب الغرفةِ واتجهت بخطى أقرب إلى “الزحف” محاولةً الوصولِ إلى”أريكَتِكِ”. حرصتي أن تضعيها أمام “الشباك أبوشيش” والذي من خلاله “تطلي” على أشجارك المفضلة التي تظلل وتبهج شارعنا الهادئ.

لطالما أحببتي أنتِ الزرع يا ماجدة، ربما ارتبط بأيام طفولتك في المنصورة. حيث كنت تقضي إجازة كل صيف في مسقط رأس جدي وجدتي أو من أشجار “الجوافة” وتداخل رائحتها مع رائحة “مسك الليل” و”القرنفل” المزروع في بيت طفولتك بالقاهرة.

أغلقتُ خلفي باب الغرفة التي لا أعلم كيف وصلتُ لها. فقدت القدرة على الشعور وأُعاني من حالة من “التنميل الكامل” أعي، بل ظننت – مخطئة- حينها أنى استوعب ما حدث منذ ساعات قليلة. ولكن يبدو أن جميع أجهزتي أنا أيضا قد توقفت.

أنا عاجزة

 عاجزة عن إدراك نفسي أو ما حولي. أعي فقط ضربات قلبي شديدة التسارع والتي كانت على نفس هذا الحال خلال عشر أيام مضت: لا تعطيني فرصة لالتقاط أنفاسي. نعم. ربما هذا هو الشعور الوحيد الذي أدركه، أنا عاجزة حتى عن التنفس؛ وكأن هناك من يمسك برأسي ويدفع بها دفعا تحت سطح بحرٍ مظلم. أو، ربما أشعر أنني ولمدة عشرة أيام كنت أجري بأنفاسٍ منقطعة، نجري بكِ ومعك، محمد أخي وأنا، نلهث لهثا، محاولين “العبور” مرة أخرى إلى ضفة الحياة معا. فقط لنكتشف أننا كنا أنا وهو نجري في مكاننا فأصبحتِ أنتِ الآن على الضفةِ الأخرى.

أغلقت هاتفي، فلم يعد له حاجة الآن. لن انتظر مكالمة “أمل” من طبيب ما مرة أخرى. ولن أسعى للاتصال بآخر سعيا وراء باب جديد، سواء حقيقي أم واهم، نطرقه محمد وأنا راجيين أن يجعله الله سببا في دوام نعمته الكبرى علينا في هذه الحياة: أنتِ.. أُغلقت تلك الأبواب، للأبد.

وقفت في منتصف الغرفة لا أدرى كيف أتصرف مع “نفسي” كأنني أشاهدُ مشهد أنا لستُ طرفا فيه وأنتِ ليست جزءا منه. كأنما تخشب جسدي وتوقف عقلي بعد أن خرجت روحي خارج جسدي، معكِ.. غدا يومٌ طويل لا أعلم كيف سيمر، كيف علي أن أفكر في “تلك اللحظة”؟

أنا لست هُنا. أنا معكِ

يخترق الصمت أذني لدرجة الألم البدني، قدمي ثقيلة كأنها محملة بأطنان من الرمال. اتخذت وضع الجنين جلوسا على الأرض، نفس الوضع الذي كنت اتخذه عند “التكور “بين يديكي وفي حضنك الواسع “المفتوح 24 ساعة” كما كان طوال سنوات حياتك الغالية يا عصفورة جنتي…

يأتي محمد أخي ويجلس جانبي محاولا احتضناني، هامسا: “متخافيش يا حبيبتي، أنا هنا.. أوعي تخافي..” محمد وأنا، دائما معا. تفصلنا محيطات ولكننا امتداد لما رأيناه وكبرنا عليه في هذا البيت، لا تفترق أيدينا أبدا. يطمئنني محمد وهو في نفس مركبي. أشفق عليه من هذا الحمل. فهو الآن ليس الأخ الكبير، هو الابن الذي فقد للتو “روح قلبه” ومصدر أمانه.

قبل ساعات، اتخذنا أنا وهو درجات السلم المؤدي إلى مدخل الصرح الطبي الكبير مجلسا. كان حالنا لا يختلف كثيرا عن طفلين دون الخامسة. وقد أخذت النيران تلتهم “بيتهما” بشراهة أمام أعينهما. ماذا بيد طفلين أن يفعلا إزاء ألهبة شرسة تقضي على “مأواهم”، على “متكآهم”؟

**

أجلس أنا وهو وقد عدنا أطفالا. كلنا نظل أطفالا في حضرة أمهاتنا فكيف الحال في حضرة غيابهن الأبدي. هو الآن “ميدو” وأنا “ماجي الصغيرة.” نجلس عرايا الظهر في ذعر كامن، نسعى لنجد الدفء في أحضان أحدنا الآخر… جلست أنا وهو “متشعلقين في هدوم بعض”. بينما أخذت رياح شتاء ديسمبر القارصة تخترق أجسادنا كأسياخ حادة لتنال أكثر من أرواحنا المشروخة.

سيمسك محمد بيدي في اليوم التالي لنبدأ معا تلك الإجراءات. “سنحتضنك” لآخر لحظة تتيحها لنا مثل تلك الظروف وحتى نطمئن على وصولك الكريم الذي يليق بك أيتها النبيلة العالية الرقيقة إلى مكانك الأخير. سنستقبل محبين ومعزيين سيرتمون في أحضاننا حزنًا وبكاءًا، وسنحتضنهم ونهون عليهم تلك الفجيعة الكبرى.. وسنبدو أقوياء، أقوياء للغاية.

منذ هذه “اللحظة” ولشهور وشهور تليها، لن نذرف دمعة واحدة، هذا ليس إدعاء التماسك، بل هو تمكن الألم من الروح والجسد لدرجة إخراسها. لدرجة العجز عن التعبير عما وصله هذا الألم من درجة تفتك بصاحبه فتكا. سنتعلم أن القدرة على الشكوى و”قولة آه” نعمة لا ينالها من تمكن من وصل إلى ذروة الوجع.

**

الآن فقط فهمت لماذا لم تبكٍ أمي أبي. كنت أتعجب من تماسكها وأنا أدرك ما بداخلها، على مدار الست سنوات التي تلت وفاته، لم تبكيه أمي مرة واحدة. “أنا لسه مازعلتش على جمال”. كانت تقول لي هذه الجملة كل مرة يأتي اسم أبي على لسان أحد منا. لم يسعفني وقتها إدراكي الضيق أن أفهم كيف لا يعبر إنسان عن فقده الكبير بهذا الشكل. الآن فقط فهمت.

هل يمكن للحظة الفقد أن تطغى على كل ما عشناه في معيتك؟ في حضنك الواسع وسع السماء؟ تداعيات الفقد ماكرة وغادرة. الوقت والوقت فقط هو من سيعلمني أنا أيضا فن مراوغتها وسيمكنني من حماية حياتنا وأيامنا الجميلة من أن تطغى عليها تلك التداعيات المُرة.

لشهور طويلة سأستسلم “نصف” استسلام، سأعيش “بروحين”، روح تقاتل من أجل حماية صغيرها وأخيها وكيانها من تداعيات فقدها الكبير. وروح “ماجي الصغيرة” التي أصبحت بدون “ماجدة”، وما أدراك معنى أن “تفقد ماجدة ماجدة”.

الوقت هو المحارب الأكبر لتداعيات الفَقد. سيعلمني فن المراوغة، ستأتي أياما انتصر فيها ولن تتمكن مني مرارة ما حدث. ستكون فرصة لي أن أدون لحظاتنا الحلوة، وهي بعدد الثواني التي أنعم الله علي بها في رفقتك.. سأسترد ذاكرة حياتنا معا في تلك اللحظات قبل أن أهُزم مرة أخرى وتضعف ذاكرتي جراء فقدي الأكبر.

مع الوقت، صارت أيام قتالي أكثر، يشتد عودي رويدا رويدا وببطء وحذر ضد ما قد تفعله مرارة الفقد بي مرة أخرى. رفقتك أنتِ يا فراشتي هي الآن حصني الأكبر ولن تكون “تلك الليلة” هي آخر ما تتركه لي الأيام من “طَعم” يصبغ لحظاتنا معا.

(2) sent.. from my iPad

تبدو الجملة خارج سياق هذا النص وسيبدو الأمر للبعض غريباً إن قلت أن هذا السطر كان يكفي – إن قرأته يوما بنهاية منشوراتك على صفحة التواصل الاجتماعي- أن “يشرح” قلبي وأيامي؛ أن يجعلني انظر إلى السماءِ شاكرة ممتنة محبة للرحمن الرحيم أنني اقرأ هذا السطر مكتوب “بالذات” منك إنتِ.

لم تقصدي أبدا أن تنهي به مقالتك وأنت تنشريها على صفحتك الخاصة في مواقع التواصل. بل كنت في كل مرة تنسخيها “بالخطأ” من بريدك الإلكتروني بعد إرسال مقالتك إلى جهة النشر.

كانت هذه الجملة العابرة لها دلالة عظيمة- وأنتِ سيدة الدلالات وخير من “يقرأها”. كانت دلالة وجودك هنا معنا، استمرار عقلك الوقاد ولغتك “المُضفرة” ومواقفك الأمينة التي لا تخشي الإفصاح والدفاع عنها أيا كان الثمن.

**

كانت جملة تذكرني برحلتنا معا منذ أن أصابك السرطان عام 2009. كانت رحلتنا نحن الأربعة وليست رحلتك. لن أبالغ إذا قلت إنك كنتِ أقلنا قلقا، تلقفتي خبر المرض وخضتي رحلة العلاج بنفس طبيعتك: هادئة، أعصاب من “حديد”، راسخة، شديدة البشاشة والإيمان “كله هيبقى تمام”.

أما ثلاثتنا، فكنا نتسابق من منا ينال “شرف” و”متعة” صحبتك في رحلة العلاج بكل الطرق. في بيتنا المكنون البسيط، لم يكن مسموح لأحد أن يتألم وحده تحت أي ظرف من الظروف. ألم فرد واحد سيتشارك فيه الأربعة وهذه قاعدة لم تكسر أبدا- فما بالك بألم “صلب” هذا البيت ومن تحرص دائما على أن تكون حائط الصد عن حبيبها وأولادها. تلعب دور “الفلتر” ساعية جاهدة بكل ما فيها إلى حمايتهم من أي ألم.

في حياتي لن أنسي ليلة إجراء جراحة غاية في الدقة، وجدتك في المطبخ. “بتعملي إيه يا ماما!!!” سألتك في ذعر وذهول؛ جاوبتيني بوجهك البشوش المعتاد وصوتك الذي يشبه “زقزقة العصافير”: “بعمل لينا العشا! عملت لچيمي طاجن لحمة بالبصل الأورمة أتحدى بيه أجمدها مطعم وعملت للأستاذ الإيطالي (مشيرة ساخرة إلى محمد أخي الذي كان في هذا الوقت ملتزم فقط بأكل المشويات وربما بعض أنواع المكرونة). عملتله لحمة مشوية ومكرونة! لازم نأكل علشان بكرة اليوم طويل!”. نظرت إليك فاتحة فمي في تعجب وإعجاب ولم أملك إلا الابتسام ومشاركتك تحضير المائدة.

**

 هذا هو أنتِ

في حركة مثيلة، في عام 2016، بينما كانت أمي معي في نيويورك، وبعد وفاة أبي بعدة أشهر. اضطرت أمي أن تستخدم كرسي متحرك لفترة من الوقت بعد إجرائها عدة عمليات في جانبها الأيمن إثر وقوع عنيف أدى إلى عدة كسور في هذه المنطقة.

لم يسمح لها الطبيب بالوقوف على قدميها إلا لعدة دقائق كل يوم وبشكل محدد جدا لحين الانتهاء من جلسات العلاج الطبيعي. في يوم ما، أراد ابني ابتياع بعض الألوان من مكتبة تقع بالقرب من المنزل. عادة، ننزل ثلاثتنا – أنا وأنتِ ومالك- معا، دائما (كان محمد قد اضطر للعودة للقاهرة من أجل عمله) لكنك أثرت الجلوس في المنزل بهذا اليوم.

ذهبت أنا ومالك سريعا لنعود لنجدك قد بدأتي في توضيب المنزل واستخدام المكنسة الكهربائية لتنظيف الأرض بينما تتحركي على الكرسي المتحرك. “يا ماما معقولة كدة؟ ده إحنا نزلنا ربع ساعة، علشان كدة قولتي مش جاية؟!!!”. وكان ردك كالعادة “محفزا لإقامة الحياة”: “لا بصي، مش أنا اللي أقعد ومعملش حاجة. أنا كويسة جدا ولو سمحتي تسيبيني أخلص توضيب، تيجي توضب معايا يا مالك؟”. صاح مالك ابني مرحبا ضاحكا ومشجعا: “يلا بينا يا آنا!!”.

كنا معا وصارت رحلات علاجك وقتا بنينا فيه ذكريات تشبهنا. ذكريات دافئة، “مكنونة” في أغلب الأحيان مبهجة. اعتبرنا وقت شفائك في 2011 “فرصة” تساوي الحياة بأكملها. كان كل يوم من بعد هذه اللحظة هو هدية من الله أسعى لاقتناصها بسعادة ولا أسمح بأن أضيعها. كان إشراق كل يوم جديد منذ هذه اللحظة هي فرصة جديدة لنرى الشمس معا. لنأكل أكلة حلوة معا، لأنظر لوجهك البشوش، لأشم رائحتك، لأشاهد معك فيلما وأسمع معك أغنية، لنعايش سويا تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة بحق.

 (3) “مش تونَّا تويسين؟“.

اعترف أن مرحلة المرض قد أضافت بعدا خاصا جدا لعلاقتنا، بعد الأمومة المتبادلة وصداقة العقول وليست فقط القلوب. في هذه المرحلة، لم تتخلٍ قط عن أمومتك الفياضة فيض المحيطات. ولكن سمحتي لي أن أشبع رغبتي في حبك وأعطيتني هدية عمري كله بأن منحتيني شعور “الأم الصغيرة.” ولأنك كريمة نبيلة عالية، أغدقت علي هذا الشعور ومنحتني شرف اللقب فأصبحت متوجة بتاج أنني “بنت ماجدة اللي سماني أبويا على اسمها حبا فيها”. وأيضا “ماجدة الأم الصغيرة لماجدة الكبيرة”.

كانت علاقتنا “مركبة” في أنواع الحب “اللي رايح جاي فيها”، نمارس أدوار الصداقة والضمير البنوة والأمومة بمنتهى السلاسة، لا تعارض أبدا بينهما بل انصهار وتناغم تام. ولكن هناك المرحلة الأغلب من عمري وهي حياتنا معا قبل المرض. منذ أن وعيت على هذه الدنيا وأمي أصبحت صديقتي التي لم ولن يكون لي مثلها صديقة، ليس لأنها أمي، بل لأنها “ماجدة”.

كبرت على حب أمي و أبي وأصبح هذا الحب هو ما يمنعني أنا ومحمد أن نخون ثقتهم بأي شكل. كانت أمي بعيدة كل البعد عن بعض الصور النمطية عن بعض الأمهات والتي كنت أسمع عنها في تعجب. لم يحدث مرة واحدة أن عاقبتني أمي بأي صورة مهينة نفسية، لفظية أو جسدية بالطبع.

**

كان أبي وأمي يعاملاني أنا ومحمد منذ أعوامنا الأولى بـ”احترام” حقيقي لأرواحنا وأنفسنا وأجسادنا. كسبت أمي ثقتي بالحب. في حياتها لم تغضب أبدا نتيجة أي خطأ ارتكبته أو فعلا أخطأت في تقديره. ستسمعني، وستقومني بألفاظ شديدة الانتقاء لا يمكن أن تجرحني أو تشعرني بالإهانة. ستتسامح في أي خطأ، مع ماجدة الكبيرة هناك دائما “فرصة تانية” بشرط واحد فقط: الصدق.

كان الكذب هو الخطيئة الكبرى التي لا تتسامح أمي فيها أبدا:”أي حاجة ممكن نتكلم فيها سوا وأي حاجة نحلها سوا لكن أوعي تكدبي عليا”. وكبرت وأنا في حضنها، آمنة، أحكي لها كل ما في حياتي طواعية مني وحبا فيها ولها.

سأعود للوراء سنوات وسنوات، نحن الآن في منتصف الثمانينات، في مساءِ يوم جمعة. نجلس أربعتنا وقد أصبحت لنا عادة “تسجيل أمسيات الغيطانية”. كانت أمي ببساطة تسجل على شرائط الكاسيت جلساتنا وأحاديثنا معا.

أحيانا تلعب هي أو چيمي- وهو الاسم الذي ننادي به جميعا أبي- دور المذيع وتقوم باستضافتي أنا وأخي وتسألنا أسئلة عن حياتنا اليومية معا. مثل: “طيب يا أستاذ محمد، يا ترى إيه أكتر حاجة عجبتك في الغدا النهاردة؟”. أسئلة بسيطة لكن من الواضح من إجاباتي أنا ومحمد أننا كنا مستمتعين جدا بأداء دور الضيف.

**

في عدد من هذه الشرائط، تأتي لحظات أثناء التسجيل يبدو فيها أني فعلت بعض الأشياء التي تجعل أمي تقول “كدة يا ماجي؟ أنا زعلت أوى!”. فيكون ردي دائما كل مرة بصوت يستجدي قلبها الضعيف “يا ماما، مش تونّا تويسين؟”. والترجمة هي “مش كنا كويسين؟ إيه اللي حصل؟”. لتسمع هي هذه الجملة وتتدارك “زعلها”. وتقول: “أيوة صحيح عندك حق، إحنا دائما كويسين”.

في حياتها لم تنزع عنا أمي مظلة “الأمان” و”الثقة”، لم تضع أبدا حضنها وحبها لنا في كفة وحسن أو سوء أفعالنا في كفة. “أنا حضني دائما مفتوح 24 ساعة مفتوح، مهما حصل. “كان هذا دائما ردها علينا إذا طلبنا “حضن” في وقت فيه “شوية زعل”.

صارت الصداقة بين الأم وأولادها “صحبة” بالاختيار. حافظت أمي برشاقة “الفراشة” على الاحترام الشديد لخصوصيتنا وترك المساحة لاتخاذنا القرارات في حيواتنا. وبين ممارسة دورها وحقها كأم في الحماية والتقويم عندما يستلزم الأمر. كان حبها وثقتها في أنا ومحمد هما الرادع الأكبر لنا لكي نحافظ على أنفسنا. لن نضيع تعبها ولن نخون حبها. كانت بلاغة الصدق وبلاغة الحب هي مفتاح هذه العلاقة وأساسها.

(4) “جمال”

“30 أغسطس 1974، اكتَمَلتّ”.

هكذا كتبت أمي على قصاصة ورقية صغيرة بعد رحيل چيمي بعامين أو ثلاثة. هذه هي عادتها، تكتب أفكار، خواطر و”أرقام وحسابات” لا يستطيع فك شفرتها أحدا غيرها على قصاصات ورقية صغيرة هنا وهناك- عكس چيمي الذي كان شديد النظام فيما يتعلق بأفكاره وكان يدونها جميعا في مفكرات صغيرة.

ذهبت إليها بهذه القصاصة التي وجدتها صدفة وحاولت أن “أقلب الموضوع ضحك” عن “الحب المولع في القلوب” لكن يبدو أنها لم تتقبل. سكتت ثم قالت: “لم أعرف نفسي إلا مع جمال، الآن صار كفَّ يدي أصم وأعمى يا ماجي بعد أن تركه كف جمال. كفي هذا الذي استنطقه تغلغل أصابعه واحتواء يده. أنا اكتملت بحضوره ولم أتعرف على نفسي إلا معه و به. عمري بدأ مع جمال وتوقف عنده”.

لم أشعر في حياتي بـ”تهديد” يحوم بأمي باستثناء هذه اللحظة، حتى مرضها الكبير، لم يجعلني أخاف مثلما أخافتني ما تفوهتِ بهِ عن شعورها “بانتهاء العمر” بعد رحيل چيمي.

**

كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي نطقت بهذه العبارة ولم تكررها أبدا ولم أكن أنا بحاجة لسماعها منها مرة أخرى لأُدرِك حجم الهوة السحيقة التي تركها رحيله في قلبها وحياتها. عايشنا أنا ومحمد جيمي وأمي. كانت علاقتهما أبعد ما تكون عن أي علاقة نمطية فيما يتعلق بمعاني الشراكة والرومانسية.

فلم يكن التعبير عن الحب بينهما أبدا يأتي في الصور المعتادة كالهدايا أو كلام الحب المرسل المباشر. بل كانت العلاقة تدور حول مفهوم “الرفقة”، الرفقة الحلوة. كانوا أصدقاء، يضربوا “كفا بكف معا، يأنسون لحضرة بعضهم البعض حتى وإن لاذ الصمت “المريح” بينهما.

كانت تفخر أن تتحدث عن دورها في هذه العلاقة بأنها تلعب دور “المساعد” في حياة رجل هو “بحجم الكون”. وبالنسبة لها “هو مندوب الرجال في عالمها.” هذه كلماتها وليست كلماتي. كانت كثيرا ما تداعبه قائلة: “أضعف ما في علاقتهما هو رابط الزواج” لأن ما يربطهما في الحقيقة هو “الحب المخلوط بالرفقة الممتعة”.

بإرادتها هي لقبت أمي نفسها بـ”المساعد”. وإن كانت في الحقيقة هي محور وأصل حياة جيمي كما هي أصل حياتنا. كانت “رشيقة” في التعامل مع كيان وشخصية كشخصية چيمي، الرجل الصعيدي الطباع ذو الطقوس الخاصة والصارمة. ولكن بقلب طفل كبير.

**

أشعر بصعوبة في وصف كيفية هذا التعامل إلا أنني أستطيع القول أن حضورها في حياته كان حضورا “فياضاً” وليس “طاغياً”. كان حضورا “كاملاً” ذو تأثير قوي ونافذ ولكن كان ذكيا، دائما من خلف ستار.

لم تكن أبدا تحب الشعور بأنها “راسها برأسه” ولكنها كانت في نفس الوقت موقنة ومتأكدة من احترامه العميق لعقلها وتقديراتها. كانت هي وهي فقط من كانت على إطلاع بدواخله “الجوانية”. يأتمنها على نفسه أكثر مما يأتمن نفسه على نفسه، كانت “مستشاره الأمين” الذي يثق في آرائه ثقة مطلقة. يسمح لها بقراءة مخطوطاته، تراجعها أحيانا، وتبدي ملاحظات أحيانا “كقارئة”.

كان چيمي دائما يستخدم وصف “الامتلاء” عند الحديث عنها. لعبت سنوات الزواج بينهما دورا مغايرا ومعاكسا لكل ما يتردد عن الارتباط والزواج، زادتهم السنين “التئاما” و”صحبةً”. وكأنما كانوا يعيدون اكتشاف بعض من جديد بنفس متعة البدايات كل بضعة أعوام.

**

سمعت أمي معه موسيقى لم تستسيغها لكن كانت صحبته لها وصحبتها له أهم. وإلى جانب القراءة والموسيقى عموما، كان بينهما رابط آخر وهو رابط “المذاقات والروائح”. فكان “طاجن الفول بالطماطم والثوم” تفوح رائحته “أخر الشارع” كل جمعة على ميعاد الغذاء.

كانت هذه عادة مقدسة لهما، تطهي لنا أمي طعام غذاء آخر بينما تشاركه هو طبق الفول بالطماطم والثوم مع العيش البلدي. وكان حماسهما لنفس الطبق يتجدد كل أسبوع بنفس القوة كأنها المرة الأولى التي يتذوقان فيها هذه الوجبة معا.  وكان غذاء يوم الخميس سمك مقلي بالثوم والليمون مع أرز السمك والسلطة، نأكلها لندخل جميعا في حالة إغماء ما بعد “سمك ماما” تستمر لساعتين فأكثر.

كان هناك مزيج من الروائح الأخرى المرتبطة بهما وبنا، ببيتنا، كرائحة البرتقال في الشتاء، ورائحة “كولونيا 3خمسات” والتي ظل أبي متمسكا بوضعها بعد استحمامه لآخر حياته، ورائحة “المسك العماني” والذي كان عطر أبي المفضل وكان يميز رائحة مكتبته نظرا لقوته. كانت رائحة الخبز الطازج والبلح والجوافة مع “أعواد البخور” تضفي على كل شتاءات البيت دفئا خاصة وامتنانا كبيرا.

**

تحب أمي الطهي وتعتبره “وصال وحب”، لم تسمح أبدا ولم تدع أي فرصة لأحد أن يساعدها في تحضير ما نأكله. أكلنا من يديها منذ أن وعينا على هذه الدنيا وحتى آخر لحظة لها معنا. كان الأستاذ الكبير “رؤوف توفيق” كثيرا ما يداعبها قائلاً: “ماجدة تكتب بيد وتحضر الملوخية باليد الأخرى” وكان محقا وكان هذا من أكبر دواعي فخرها.

كانت أمي دائما ما تفخر بإحساسها الذي لا يخالجه ذرة شك بالامتلاء والزهو أنها “حرم جمال الغيطاني”. كانت تحب هذا اللقب أكثر من لقبها، وكان هو يرفض أن تُعرف نفسها بأنها “حرم فلان الفلاني” في المجال العام.

كان جيمي “يحرضها” على العمل، ويتهمها بالكسل والتهاون في موهبتها، كان يعرض عليها كثيرا أن يقوم هو بالمساعدة “في حاجات الأولاد” مقابل أن تعطي هي وقتا أكثر لعملها. كانت عينيها تلمع بلا مبالغة حينما يطل جيمي عبر شاشة تلفاز أو في إحدى المحافل وتلمع أصابع يده الشمال وبها دبلة زواجها؛ في كل مرة تلمح خاتمها في إصبعه كانت تشير إليه مداعبة: “اسمي أنا مكتوب على الدبلة دي”.

 (5) “كدة برضوا يا بحر؟”

جاء وحيدي “مالك” إلى الدنيا في منتصف عام 2011. كان ذلك مباشرة بعد انتهاء أمي من المرحلة الأهم والأكبر من علاجها. اعتبرنا مجيئه إلى العالم هدية من الرحمن الرحيم بعد شهور طويلة من الخوف والقلق. كبر مالك وأبي ثم أمي معه وحوله.

لجيمي الفضل الحقيقي في زرع حب الرسم في مالك، ولأمي التأثير الأكبر في تكوين جانب محترم من “مذاقاته”، فيحب مالك رائحة البخور ولا يميل أبدا لروائح الشمع المعطر، وبفضل “آنا ماجدة” عشق مالك الأكل المصري ويكن معزة خاصة للفول أو سندوتشات الجبنة السايحة في العيش البلدي المقمر (كانت هذه وجبات ما بعد منتصف الليل خلال زيارتنا لمصر، حيث كان مالك يستفيد برفع كل القيود عنه سواء قيود مواعيد النوم أو غيره- ففي بيت مصر له هو الحرية والانبساط بعينه).

وصنعت جدته بينه وبين البامية والملوخية وشوربة الأرز بالفراخ مع الليمون علاقة ود خاصة- افتخر أنه في هذه النقطة قد ورث مني بعض الچينات حيث إن ميولنا في الأكل مشتركة. كانت تصنع له- كما كانت تصنع لي دوما حتى أخر الأيام- الليمونادة المثلجة الطازجة والتي كانت تصر أن تعصر ليمونها بيدها وليس في الخلاط. كان تأثير “ليموناده آنا ماجدة ساحرا على نفسي أنا وابني، وكأنما كانت تضع فيها حبها فيصل إلى أرواحنا. كان كوب واحد من ليموناده ماما كافيا أن يزيل آلام صداعي ويسترجع صفو مزاجي ويزيد من تركيزي على العمل وأنا هنا لا أبالغ.

**

أحب مالك البحر مع جدته. وكانا دائما يلعبان معا في البحر كصديقين، ألعاب لطيفة أحيانا وألعاب فيها مناورات وبعض التكتيكات الهجومية أحيانا أخرى. في آخر إجازة “بحر” لنا معاً، كان ذلك في سبتمبر 2021، كان مالك يلعب مع جدته كالعادة وكنت أنا أقف “حَكَم”.

كانت اللعبة أن مالك يلعب دور “البحر” بأمواجه العالية وكانت جدته تلعب دور “السباح الماهر” الذي سيهزم موج البحر العاتي. في لحظة من اللحظات وبدون قصد، هاجم “موج البحر” “السباح الماهر” وخبطه خبطة خفيفة في ظهره، ليصيح هذا السباح (أمي) صيحة “آه” حقيقية لم تكن أبدا جزءا من اللعبة.

توقف اللعب وأخذ مالك “يتأسف” لجدته عن أي ألم تسبب هو فيه دون قصد بينما أخذت هي في “تجميع” نفسها، ثم صاحت ضاحكة: “أنت صدقت؟ كدة برضوا تحاول تغلبني يا بحر طيب أنا كنت بضحك عليك وحغلبك دلوقتي!” ليعودا للعبهما معا بحماس ومرح.

ولكن بدا لي الأمر غريبا، كانت صيحتها صيحة ألم وليس تمثيل- بالطبع أنكرت هذا عندما سألتها فيما بعد واتهمتني بـ”الوسوسة” والدليل، على حد قولها، أنها استمرت في اللعب مع مالك بعد ذلك لوقت طويل. مضى أقل من ثلاثة أشهر لاكتشف سذاجتي، لأتيقن من أن صيحة “آه” كانت حقيقية وشديدة العمق، فأثناء هذا الوقت، وقت لعبة “البحر” كان المرض قد داهمها مرة أخرى لكن في بعض فقرات الرقبة؛ لم تصرح لنا أبدا بهذه العودة لهذا المرض مرة أخرى في حياتنا وهذه قصة منفصلة.

ما استوقفني عند علمي بتعبها أثناء لعبتها مع مالك هو قوة تحملها للألم فقط من أجل أن يسعد ابني لدقائق معها في مياه البحر. كان يمكن أن تطلب منه أن يلعبا لعبة أخرى أكثر”أمانا” لها. كان يمكن ألا تستكمل اللعب بعد أن أصابها ابني بألم دون أن يقصد، ولكنه الحب.

أن تحبك ماجدة يعني أن تأخذ حبا صافيا عطاء الفياض بكل الأشكال والحدود… هذا الحب الذي جعل جسدها يتحمل هذا الألم المرعب فقط من أجل سعادة “الأستاذ بحر” ولو لدقائق.

(6) “أقِم الحياة”

كانت أمنيتي الكبرى أن تتاح لي أكبر فرصة ممكنة لأحبك أنت وچيمي. كنت دائما ما أحلم أن تبلغا أنتما الاثنان التسعين، وأتظلل بحبكما وأظللكما بكل ما أوتيت به من حب وقدرة على العطاء، أن أصير أمكما الصغيرة بحق.

دائما ما أشعر أن هناك الكثير من الكلام لم أقوله بعد لكما، بيننا الكثير من الأحاديث غير المكتملة. لن أنال أمنيتي، ولكن سأسعى محمد وأنا في الحياة سعيا، سنصب كل ما نحمله لكما من حب خيرا ومحبة في الأرض ولمن حولنا، سنعمر، ونغفر ونمد أيدينا بالخير دائما، كل ذرة حب لكما بداخلنا سنعكسها محبة وصدق في هذا العالم. سننفذ ما أوصتنا به أمي دائما: “سنُقيم الحياة”.

سنقيم الحياة وسنبني على ما بنيتيه أنت وجمال بداخلنا، فـ”ماجدة ومحمد handmade” كما كنتِ تصف كيف ربيتمانا دائما.

فيا حبيبتي، يا صاحبة الفضل، يا فراشتي وعصفورة جنتي، يا شريكة أيامي وأحلامي، يا ضميري ويا تاج رأسي: أنا ممتنة يا أمي، ممتنة أنه اصطفاني الله أنا وأخي أن نحظى بأمومتك، بحبك، بفيضك، ببلاغة صدقك وإخلاصك الذي يرقى لإخلاص القديسين في تقديم هذا الحب..

يا ماجدة، الماجدة، أيتها الباسقة، رحل جسدك ووجهك الحلو هنا ولكنك “هنا”، معنا، وجودك ليس مقترنا بحضور جسدك، أراكِ في الشمس والزرع والبحر ودرات النسيم “الحنينة”، حِسِك معنا وسيظل يا أمي، ولاد ماجدة وجمال “مكملين” السعي بالأمل، ليقيموا الحياة.

أدعو الله أن تكوني راضية، مطمئنة، “أن يرضى الله عنك ويراضيكي” بجنات من نعيم؛ وأن يجمعك بـ”چيمي” حتى “تكتملي” مرة ثانية ودائمة.

أما عن محمد وأنا، فأدعو الله لنا مستخدمة دَعوَتِك أنت والتي كنتِ تدعي بها لأحبابك إذا أصابهم خطب جلل: سأدعو الله أن “يمنحنا القوة وأن يرطب قلوبنا بالصبرِ الجميل”، أُحِبُكِ يا أمي.

اقرأ أيضا

ماجدة الجندي: سيدة السرد الصحفي الجميل

علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

د.محمد أبوالغار يكتب: ذكريات مع ماجدة الجندي              

أحمد اللباد يكتب: في شرفة مكتب «الأستاذة»

عماد أنور يكتب: وش الخير وصاحبة البشرى

محمد الغيطاني يكتب: وردة كل يوم

ماجدة الجندي: من سيرة البدايات في «صباح الخير»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر