عماد أنور يكتب: وش الخير وصاحبة البشرى

رن هاتفي، كان الرقم من خارج مصر، قمت بالرد، جاءني صوتها مليئا بالفرحة.. سألتني: “قل لي أنت فين دلوقتي؟” هو السؤال الذي كانت تداهمني به عندما تحتاجني ضروري في العمل، أو عندما كانت تنوي توبيخي “لما أكون عامل عمله” على حد قولها. أجبتها، إنني في طريقي إلى “الجورنال”، عاودت السؤال: “بسألك، مكانك فين وأنا بكلمك”، قلت: “أنا على محطة الأتوبيس”، سألتني مجددا: “جاهز تسمع الخبر”. رددت بلهفة وقلق: “خير يا أستاذة؟”، قالت: “مبروك أنت أتعينت، روح فرح ماما دلوقتي وبعدين أرجع، أنا في فرنسا وأول ما عرفت الخبر كلمتك أول واحد”.

كانت ماجدة الجندي صاحبة البشرى.. وصاحبة الفضل، زفت إلىّ خبر تعييني في جريدة الأهرام. هي المهمة التي كانت لا تدخر جهدا من أجل تحقيقها، لتأمين مستقبل شاب آمنت بإمكانياته وحقه في التواجد في هذه المؤسسة العريقة دون واسطة ولا محسوبية.

**

قبل ذلك بحوالي عام ونصف العام، جاءت ماجدة الجندي رئيسا لتحرير مجلة علاء الدين. كنت أحد الشباب الذين يعملون في المجلة بنظام المكافأة الشهرية، أصابني القلق أنا وبعض الزملاء ممن يعملون مثلي بنظام المكافأة، خوفا من أن تتخذ رئيس التحرير الجديد قرارا بالاستغناء عن خدماتنا. في أول اجتماع معها سألت عن عدد العاملين بنظام المكافأة، ازداد قلقي فأنا “على باب الله” بلا واسطة.

“باب الله” وهل هناك أجمل من ذلك؟ باب الله أرسل لي ماجدة الجندي، المعلمة والأم والسند، جاءت في الوقت المناسب لتهبني ما كنت بحاجة إليه في بداياتي، مهنيا وإنسانيا.

بعد حوالي أسبوع من أول اجتماع، استدعتني في مكتبها. سيطرت على الظنون وتوقعت أنها النهاية، رئيس التحرير يمكن أن ينهي علاقتي بالمكان في لحظة. في دقائق معدودة فكرت كيف أبحث عن عمل بديل يساعد في نفقاتي. أعمل في جريدة خاصة صغيرة بجانب الأهرام، لا يكفي الراتب الذي أتقاضاه منها “الأكل والمواصلات”.

دخلت إلى مكتبها، دعتني للجلوس، تركت مكانها خلف المكتب وجلست أمامي. دار الحوار الذي منحني الطمأنينة، وبعده لم أفكر في التعيين بقدر شوقي للعمل مع هذه الإنسانة. لم تكن تربطني بها أي علاقة سابقة، وكنت حينها أجهل قيمتها المهنية الكبيرة، هي كاتبة صحفية لها صولات وجولات وخبطات ومغامرات في بلاط صاحبة الجلالة.

سألتني عن طبيعة عملي في المجلة، وعن أهلي وسكني وكل تفاصيل حياتي. قالت: “أنا مبسوطة من اجتهادك ودأبك، بص يا أبني أنت أبن حلال وأنا حبيتك”. قرأت ما يدور في ذهني من تساؤلات، وقفت من جلستها، فوقفت أيضا، ربطت على كتفي، ابتسمت وقالت لي أغلى نصيحة: “طول ما عندك أدواتك وواثق فيها مفيش حاجة هتوقفك، أدواتك وشغلك هم كرامتك، أنت هتقعد هنا بمجهودك”.

ماجدة الجندي في سوهاج
ماجدة الجندي في سوهاج
**

تلك النصيحة لم تغادرني منذ وقتها، سرت في خطوات حياتي. كانت ماجدة الجندي شاهدة على كل خطوة، لم تكن شاهدة فقط، بل كانت داعمة وسند. كانت تقول لي “أنت زي ولادي”، هي خليط من الطيبة والحنان والحزم معا، عرفت معها المعني الحقيقي لكلمة “الإنسانية”. وتعلمت منها أن كرامتي أغلى ما أملكه، كان دستورها في الحياة، “أنه لا يصح إلا الصحيح”، كنت ألومها أحيانا على هذا الدستور الذي يحتاج كثيرا من الصبر وطول البال والانتظار.. انتظار أن يأتي الصحيح وقت أن يتصدر الغلط المشهد.

أحب هذه الإنسانة وكل ما له علاقة بها، اسمها، سيرتها، حتى ابنيها “محمد وماجدة”، اعتبرهما أخواتي برغم أني التقيتهما مرات لا تعد على أصابع اليد الواحدة. أتفاخر بأنني أحد تلاميذها والمقربين لها، احترمها بالقدر الذي يجعلني أخجل إذا عرفت إنني قمت بتصرف خاطئ، كانت زوجتي تستغل ذلك وتلجأ لها عند أي مشكلة تحدث بيننا. كانت تهددني بـ”مدام ماجدة”، وكانت ماجدة تهددني أيضا “مراتك طيبة وبنت حلال وبتحبك، عارف لو زعلتها هأعمل فيك إيه”.

بين ماجدة ودنيا كنت أتحاشى أي خطأ، وكانا هما “وش الخير علي”.. زوجتي “دنيا” هي ابنة زميلها وصديقها رسام الكاريكاتير الراحل، محسن جابر، عشرة عمرها في مجلة صباح الخير. كانت تلك العشرة كفيلة بأن يكون لي “حماتين”، عندما قررت أن أتقدم لخطبة دنيا، قالت ماجدة “مش هتلاقي أحسن منها”. جاءت تأشيرة الزواج عبر “الأستاذة” قبل “المأذون”.

**

هي الأستاذة والأم، الحامي لي وقت الأزمة، والحازمة بشدة عند الخطأ..

الأستاذة، لم تبخل في تعليمي أصول “الشغلانة”، التي تعد واحدة من “أسطواتها”، هي من علمتني ضرورة تطوير أدواتي المهنية، وأعمل ما يرضي ضميري فقط، هل أيضا من علمتني “كرامة المهنة”، وأنها زميلة وما يفرقها عنا جميعا كونها رئيس تحرير هو إدارة المجلة فقط، إذا لا داعي للخنوع والخوف والقلق، ما بيننا هو العمل فقط، ومنصبها لا يمنحها الحق في التنكيل بأي أحد، ولن تفعل ذلك أبدا، أتذكر يوما أن طلب منها أحد الزملاء طلبا استثنائيا، كان ردها: “ما أقدرش أتحمل مسئولية قدام ربنا أني أديك حق مش بتاعك”.

الأم التي دعمتني خلال متاعب الحياة التي عانيتها في مشواري، والحامية لي وقت أن لمحتني أنزلق مع بعض الأشخاص في علاقة لا ترضيها وتصرفات لا يليق لي أن أفعلها. لمحتنا ذات يوم، وقفت أمامي وجعلتني خلفها، قالت “عماد ده أبني.. ابتسمت.. سيبوه في حاله عاوزين منه أيه”. وصلت الرسالة لي قبل أن تصل لهم، قررت أن ابتعدت تماما عن “السكة دي”.

ماجدة الحازمة بشدة، كفاك الله شر غضبها إذا وقعت في تصرف خاطيء، تصرخ في وجهك قائلة: “أنا مبحبش الدلع واللوع”، ليس معنى أن تحبك ماجدة، أن تسمح لنفسك بالخطأ أو الإهمال أو الخروج عن النص. ذات يوم حدث خطأ في قصة لأحد كبار كتاب الأطفال، كنت أنا المتسبب في الخطأ، لم التفت كثيرا إلى هذا، كنت كما يقولون: “حاطط في بطني بطيخة صيفي”، لن تعاقبني لأنني الابن المدلل.

**

أتذكر يومها أنني كنت في زيارة إلى صديق مريض في أحد المستشفيات، أقف في حجرة يسيطر عليها الهدوء التام. بينما يستلقي صديقي أمامي على سرير المرض، رن هاتفي، ظهر رقم هاتفها على الشاشة، فتحت الخط قلت: “ألو”، كانت هي الكلمة الوحيدة التي قلتها، أعتقد أن صوتها وهي تعنفني وصل إلى كل من بالمستشفى، ربما في الحي بأكمله الذي يقع فيه هذا المستشفى، “أنت اللي عملت الغلطة دي، ده إهمال مش مسموح بيه أبدا، أنت متحول للتحقيق يا أستاذ”. أغلقت الهاتف دون سلام، لم أعاقب بتحويلي للتحقيق، لكن تعلمت الدرس جيدا، تعلمته وعلم فيّ بعد أن امتنعت هي عن التحدث معي لأكثر من أسبوع.

مع الروائي الفرنسي الشهير آلان روب جرييه وبدر الدين عرودكي مارس 1988
مع الروائي الفرنسي الشهير آلان روب جرييه وبدر الدين عرودكي مارس 1988

أما بمناسبة دستورها “لا يصح إلا الصحيح”، فقد عانيت في فترة ما بسبب أنني كنت أحد المقربين من ماجدة الجندي. كانت أحلى معاناة وأجمل تجربة في حياتي، كيف أفشل في عبور الموقف. بعد أن أعطتني التطعيم المحصن “الكرامة والثبات”. عندما داهمها المرض انتقلت للعلاج خارج مصر، خلت الساحة للباحثين عن منصب. حاولوا إبعادي عن المشهد كوني “محسوب على ماجدة”………… عفوا. غير مسموح لي أن أكمل كتابة هذا الموقف لأني تعلمت منها ألا أشكو أو “أندب حظي” مهما حدث.

حقيقة شعرت باليتم بعد سفرها، كنت أبحث عن ماجدة كل يوم، أحاول الاتصال بها. كانت ظروف العلاج تمنعها من الرد على الهاتف في أوقات كثيرة، كنت أتحدث إلى ابنتها ماجدة للاطمئنان عليها، هي في الخارج للعلاج، وأنا في عملي ازداد صلابة يوما بعد يوم.

**

عند عودتها أخبرها زميل لي بكل الأحداث، استدعتني إلى مكتبها، قالت لي أن هناك مسؤول يمكن أن تتصل به لحل مشكلتي. قالت إنها على خلاف كبير معه، ولم تتحدث إليه منذ سنوات، ولا تحب أن تعرفه من الأساس، لكنها ستفعل ذلك من أجل غلاوتي عندها. غلبتها العاطفة ولم تدرك أن الواقف أمامها هو الابن والتلميذ الذي لن يقبل ذلك عليها، كنت الأكثر حزما وغضب في هذه اللحظة. قلت لها: “لو أخر يوم لي مش هتكلميه ولو كلمتيه هأكون زعلان، ماجدة الجندي مينفعش تتصل بحد” .

كانت تتابعني دائما إما بالاتصال، أو عبر صفحتي على “فيسبوك”. أتذكر تعليقها لي على صورة نشرتها أثناء تكريمي للحصول على أحد الجوائز الصحفية. كتبت: “أنا أكتر واحدة فرحانة بالفرحة والثقة اللي في عنيك.. مش قلت لك حيحصل”، أقول لها الآن “أنا أكتر واحد فخور أني تلميذك.. أكتر واحد فرحان أني بكتب عن حضرتك”.

اقرأ أيضا

ماجدة الجندي: سيدة السرد الصحفي الجميل

علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

د.محمد أبوالغار يكتب: ذكريات مع ماجدة الجندي              

أحمد اللباد يكتب: في شرفة مكتب «الأستاذة»

محمد الغيطاني يكتب: وردة كل يوم

ماجدة الغيطاني تكتب: «أن تُحِبُكَ ماجدة»

ماجدة الجندي: من سيرة البدايات في «صباح الخير»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر