علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

فوجئت بعد صدور العدد الثاني من مجلة «أمكنة» بمقال احتفائي شديد العذوبة في جريدة الأهرام، وأعني هذه الكلمة جيدا “العذوبة”، وحساسية الصياغة. كتبته الأستاذة ماجدة الجندي، عن هذا العدد في صفحة “غذاء العقول”، التي كانت تقوم بتحريرها، وهي من الصفحات القليلة التي كانت تهتم بعرض وتحليل الكتب.

ربما كان البحث في تحولات “الذاكرة الجمعية” الذي كان أحد أولويات المجلة، هو الرابطة بين المجلة وبين الأستاذة ماجدة. ولكنها تلك الرابطة الجمعية التي تأخذ مسافة من شمولية المفهوم السياسي، وتقترب أكثر من هموم الإنسان العادي، وبدون أي تعال.

**

بداية من هذا العدد الثاني، بدأت العلاقة الحيوية بين الأستاذة ماجدة والمجلة وبيننا كمحررين لها. فقد كنا نعتبرها أحد المشاركين فيها، سواء بالكتابة عنها، أو الحماس المستمر لها، مع دائرة واسعة من المتحمسين لها. ولأفكارها حول “المكان”، والحكايات التي تدور حوله، وسط ثقافة مسيسة كانت بعيدة كل البعد عن هذا التناول.

أتذكر أيضا، في هذا السياق، الدكتور محمد السيد سعيد، في بابه في ملحق أهرام الجمعة. أول من كتب عن المجلة في عددها الأول، والكاتب وائل عبدالفتاح، والروائي جمال الغيطاني، والروائي محمود الورداني، والباحث والمفكر السيد ياسين، والأستاذ سامي خشبة، وغيرهم الكثير والكثير.

كانت الأستاذة ماجدة تمتلك لغة هجينا بين القديم والحديث. بين فصاحة وعامية المعنى، كل هذا ذائب في أسلوب يخصها وحدها، تشعر فيه بتدفق الأفكار وتلاحقها، وبشحنة من المشاعر تتسرب خلف الأفكار. فيحتويك هذا الدفء، غير العائلي، الذي يخرج من بين السطور. هذا الشجن الذي يسم لغتها، وكتابتها بشكل عام، لم يتحول إلى نوع من التوجيه للقاريء. لأنه يتضمن دقة بلاغية في رصد الأفكار والتعبير عنها. بجانب سعة إطلاع، على الصحافة العالمية، كانت تميزها، بجانب أن هناك صدقا واضحا يشكل جوهر هذا الشجن.

ماجدة الجندي في عمر السادسة
ماجدة الجندي في عمر السادسة
**

ربما مصدر هذا الشجن الذي يختفي وراء كتاباتها، حضور الهم الوطني، أو الجمعي، بشكل ما، الذي يرتبط بجموع ليست بالضرورة تسمى وطنا، أو مجتمعا بالمعنى الشمولي. ولكن هي في النهاية هناك ذاكرة ورموز مشتركة بين جماعات، دائما ما تثير فينا شجنا غامضا. ربما هذا التوصيف يصف بشكل ما ممارسة الأستاذة ماجدة الجندي لنسخة شخصية من هذا الهم الجمعي، وهذا الشجن.

أحيانا كانت تطل من كتاباتها “نوستالجيا”، كجزء من أعراض هذا الشجن. ولكنها “نوستالجيا” تتجاوز عبادة الماضي، وأشياءه، كونها، أيضا، مكونا أصيلا من شخصيتها، ولكن في نسختها الحديثة. فالنوستالجيا يمكن أن تكون فعلا ذاتيا يقوم به الفرد، بدون أي انجذاب للماضي، بل يتحول الماضي إلى جماعات تعيش الحاضر باستمرار.

وربما أيضا تكون ” النوستالجيا” مرتبطة بـ”عاطفة أمومية”. كما يصفها أحد تلامذتها وهو الروائي إبراهيم فرغلي في رثائه عنها. هنا تصبح هذه النوستالجيا/ الشجنهي مكان التفرد الشخصي، للأستاذة ماجدة، كونها مزجت هذا الحنين/ الشجن بمهنتها. وأصبح له مكانا في الصحافة، بدون شخصنة لوظيفة ” الكاتب”. ولكنها نوستالجيا الصحفي المتفرد، الذي له حكاية وذاتية يخفيها، احتراما للمهنة، ولكنه يسربها عبر تحقيقاته، أو نصوصه.

كانت للأستاذة ماجدة خبرة التقاط الكتابة الطازجة، بوصفها قارئة طازجة، فدائما تشعرك بأنها تعيِّشك، كقاري، اندهاشها بما تقرأ، بعيدا تماما عن فكرة التقييم، لأن هناك في الصحافة، في نظرها، ما هو أبعد من فكرة التقييم المباشر. ولكن مفهوم العرض وأسلوبه، والأفكار التي تتفرع منه، تجعلك تحصل في النهاية على “نص جمالي” ربما يكون موازيا بشكل ما لنص الكتاب الذي تقوم بعرضه، وأيضا يحمل التقييم. فقد كان يميزها هذا القالب الأدبي/ الصحفي، وهو نتاج طموح لبناء نص معرفي مرن وذاتي في آن، تتبدى فيه شخصية وروح كاتبه.

اقرأ أيضا

ماجدة الجندي: سيدة السرد الصحفي الجميل

د.محمد أبوالغار يكتب: ذكريات مع ماجدة الجندي              

عماد أنور يكتب: وش الخير وصاحبة البشرى

محمد الغيطاني يكتب: وردة كل يوم

ماجدة الغيطاني تكتب: «أن تُحِبُكَ ماجدة»

ماجدة الجندي: من سيرة البدايات في «صباح الخير»

أحمد اللباد يكتب: في شرفة مكتب «الأستاذة»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر