مؤرخون عن كتاب «كنوز مقابر مصر»: شاهد على جرائم هدم مدافن القاهرة التاريخية

خلال حفل إطلاق كتاب «كنوز مقابر مصر» للدكتور مصطفى الصادق، دار نقاش لمدة ساعة ونصف في مكتبة «ديوان» بالزمالك، حول أهمية مقابر مصر التاريخية التي تشهد عمليات هدم منذ أكثر من عامين، فضلا عن الجهد الذي بذله الصادق برفقة مجموعة من الشباب في توثيق التراث الهام الذي يندثر.

أدار النقاش د.عماد أبوغازي، وزير الثقافة الأسبق، ود.خالد عزب، المؤرخ والكاتب. إذ تطرقا إلى الكتاب المكون من 41 عنوان رئيسي بالصور الملونة، فضلا عن أهمية المقابر في دراسة تطور الخط العربي في مصر، وأيضا توثيق سير أصحاب هذه الشواهد.

توثيق مقابر القاهرة

في البداية أشاد المؤرخ د.خالد عزب بدور مؤلف الكتاب ومجموعة الشباب لدورهم في الجولات الميدانية وتوثيق مقابر القاهرة التاريخية والتراثية. يقول: “هذا ليس دورهم الأساسي بل دور وزارة الآثار وكلية الآثار بجامعة القاهرة وكليات الآثار وأقسامها في مصر”.

وتابع: للأسف، علم الآثار في مصر خلال السنوات الأخيرة علم متجمد والعلامة الواضحة هي أن العلم الأساسي المرتبط بمصر هو علم المصريات وأي تقدم لهذا العلم في مصر خلال السنوات الأخيرة يرجع إلى الألمان والأمريكان ومؤخرا الصين. وهذه علامة على فشل التخصصات العلمية في علم الآثار في مصر، وإشكالية ضخمة متعلقة بالوعي الأثري في مصر.

يضيف، هدم المقابر نتاج هذا التخلف في التخصصات العلمية في مصر. والأصل أن يُعاد النظر في قطاع الآثار في مصر، ومواكبة التغييرات العالمية في هذا المجال  -وعلى حد وصفه- فإن مصر طبقات متراكمة عبر العصور، وعند إزالة أي جزء منها يعني فقدان جزء كبير من التاريخ والتراث الوطني. وفي حالة المقابر يقول: “هذا الأمر كارثة وطنية تستحق المراجعة”.

ويواصل عزب حديثه: “ما قام به د.مصطفى والشباب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه نتيجة إزالة عشوائية يستحق التوثيق في كتاب. وما أنجزه في هذا الكتاب هو جزء من أرشيف أكبر بكثير من الكتاب ولا يمثل 2% من حجم المادة التوثيقية التي جمعها، وأطالب بحفظ هذا الأرشيف بصورة رقمية للأجيال القادمة”.

لماذا عدم الإدراك؟

يفسر عزب حالة عدم الإدراك بأهمية مقابر القاهرة التاريخية التي يتم هدمها لبناء طريق جديد، بأنها ناتجة عن عدم وجود دور أو قيمة للعلم في هذا الموقف. ويضيف: “هذه حقيقة يجب إقرارها لمعرفة موقعنا. وما حدث في بداية السبعينات من طفرة كبيرة في علم الآثار عبر تزاوج علم الآثار مع الأنثروبولوجي، على يد مؤسس أنثروبولوجيا الآثار د.أحمد أبوزيد التي تمحورت أبحاثه عن علم الآثار للحفاظ على ما تبقى من العصور القديمة، حول فهم كيف كان يعيش الناس قديما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. وهذا التحول الجذري في علم الآثار أدى إلى إعادة فهم مصر القديمة”.

ويقول: “شهد تاريخنا العديد من التحديات الكبيرة، ويُمكن اعتبار إزالة قطعة من تاريخ مصر علامة استفهام ضخمة. كما يُمكننا القول إن هرم سقارة ومقابر مصر الممتدة من الفسطاط أو مصر القديمة حتى ميدان العباسية تُعدُّ نهايةً حقيقيةً لهذه المقابر”.

مرشد الزوار

ويواصل حديثه: “شهد هذا التمديد الضخم للمقابر، التي بدأت في القرن السابع الميلادي، تغيرات وتطورات متعاقبة عبر العصور أتاحت للمصريين زيارة القبور كأنها نوعٌ من الرحلات الترفيهية. وقاموا بتوثيق تطور هذه المقابر في كتب مرشد الزوار”.

وبالفعل، لدينا مرشد الزوار للمقابر المصرية، الذي يغطي الفترة من القرن الثالث الهجري حتى القرن الـ19. ويعمل كدليل لزيارة المواقع القبلية وتسجيل كل موقع ومعرفة مواقع دفن الشخصيات التاريخية البارزة. مثل عقبة ابن نافع ومحمد ابن القاسم، مؤسس المدرسة المالكية والذي دفن في مصر. ولو كنا قد حافظنا على قبره، لكان ذلك سببًا لجذب الزوار من المغرب وتونس لزيارة ضريحه.

يؤكد عزب أن وجود هذه المقاربة للرموز والشخصيات الهامة في العالم العربي يفتح الباب أمام نوع جديد من السياحة الودية وغير المتعلقة بدوافع سياسية. هذا النوع من السياحة غير ملحوظ في مصر. والأمر المثير للاهتمام هو تحويل المصريين للمقابر في العصر المملوكي إلى حدائق ومنتزهات. حيث اعتبروا أن الخروج للاستمتاع بالطبيعة والمشي في المقابر جزءًا من الترفيه. وقد قام السلطان قايتباي ببناء مقعد ومنزل بجوار الحدائق.

وفي بريطانيا، تُعتبر المقابر أماكن زيارة سياحية ومتنزهات. والقيمة الحقيقية هنا تكمن في تنمية مجالات علمية جديدة، بما في ذلك اقتصاديات التراث. ومن المؤسف أنه لا يوجد دراسة مكرسة لهذا المجال في كليات الآثار أو السياحة والفنادق.

المدرسة المصرية للخط العربي

وتطرق عزب إلى نقطة أخرى، وهي التواصل مع البلاد التي ينتمي إليها شخصيات شهيرة دُفنت في مصر، لتعزيز السياحة. ويقول: “العائلات التي لها جذور تركية وكردية وجورجية وأصول مختلفة، يمكننا التواصل مع البلاد، خاصة بعد الاكتشافات والتوثيقات”.

أمر هام وثقه كتاب “كنوز مقابر مصر” هو تصحيح معلومات تاريخية عن المدرسة المصرية للخط العربي. يقول د.خالد: “عرفنا من خلال الشواهد التي وثقوها قدوم عبدالله زهدي، خطاط المسجد النبوي، وعبدالعزيز الرفاعي، الذين جاءا إلى مصر من إسطنبول، لتأسيس مدرسة الخط العربي”.

ويتابع: “تحتاج هذه المسألة إلى إعادة دراسة حيث كان الأول متفوقًا على إسطنبول وقرر الرحيل عنه، بينما ارتفع مستوى مصر. ولم يكن لدينا وجهة نظر واضحة نظرًا لأن الكتابة المستخدمة حول الأزهر ومكتبة الحلبي كانت تعتبر بشكل رئيسي للنسخ وليست خطًا فنيًا. حيث تم نسخ المخطوطات بدون تصنيفها كخط”.

بينما في القرن التاسع عشر كان هناك اهتمام بالفن في شواهد القبور للشخصيات البارزة والمشاهير. ومن خلال هذا الاهتمام، تم اكتشاف تواجد سلسلة من الخطاطين الذين جمعوا بين المدرسة الإيرانية والخط العربي. وقد جاء محمد علي من إسطنبول وأحضر معه خطاطين، وشارك في كتابة مسجد محمد علي خمسة خطاطين. مما أدى إلى تزاوج بين المدرسة المصرية والمدارس التركية والإيرانية. وهذا أدى إلى تكوين مدرسة جديدة في مصر.

اختتم د.خالد عزب حديثه، أن إهدار هذه المادة من التراث الوطني سنندم عليه كمصريين لاحقا، لعدم وجود حل جذري لهذه الأزمة رغم وجود حلول عديدة مثل مقترح إنشاء متحف الموت. إذ تتطلب هذه المرحلة التفكير بطريقة غير تقليدية لجلب سياح من بلاد أخرى.

توثيق تراث يندثر!

من جانبه بدأ د.عماد أبوغازي وزير الثقافة الأسبق، حديثه بالإشادة بفكرة الكتاب وتنفيذها. ويقول: “تابعت عمل الدكتور مصطفى وجهوده لتوثيق التراث المهدد بالاندثار. حيث تم فقدان بعض القطع لكن قام هو ومجموعة من الشباب بجهود حثيثة، لتوثيق جزء هام من هذا التراث وتمكنوا من إنقاذ بعض الشواهد الأثرية”.

ويضيف: تعتبر المقابر جزءًا من فترات زمنية تمتد من العصور القديمة، وعند النظر إلى التراث المصري القديم، ندرك أهمية المقابر وأنها جزء لا يتجزأ من تراث ووجدان مصر. يُعَدُّ انتهاك حرمة المقابر من أكثر الأفعال المُجرمة تاريخيا. يذكر أبوغازي أن هذا الكتاب يعد عملاً علميا هاما، على الرغم من أنه يأتي من خارج إطار الأكاديمية المعنية بالآثار والتراث. إذ نواجه أزمة حقيقية في المجال الأكاديمي ومجال الآثار، وهو ما يجب أن ننتبه إليه.

يسلط الكتاب الضوء على الأزمة التي نواجهها، ويستعرضها د.عماد في أربع نقاط رئيسية. وتابع: قمت بقراءة الكتاب قبل مناقشته. وقسمت المناقشة لـ4 نقاط أولها تتعلق بأهمية التوثيق، وبناءً على تخصصي ومجالي، أدرك تمامًا أهمية التوثيق، خاصةً للتراث المهدد بالاندثار والضياع. يُظهر التعدي على المقابر أنه ليس ظاهرة حديثة. بل كان له تكرار في الحضارة المصرية القديمة نتيجة سرقة المقابر وأعمال أخرى.

جرائم دولة

على الرغم من ذلك، في القرنين الأخيرين، هناك جزء من المقابر لم يتم توثيقه. وأحد الأمثلة البارزة هو قرافة باب النصر التي دفن بها المقريزي وابن خلدون، وهما يحملان أهمية ليست محصورة في التاريخ المصري فحسب، ولكن في التاريخ البشري بشكل عام. ورغم ذلك ضاعوا من التوثيق.

ويردف: “يعد الجهد الذي بذله الدكتور مصطفى والشباب مهمًا على الأقل للحفاظ على جزء من تاريخ الأمة في الذاكرة الوطنية، الذي ضاع ليس فقط بسبب فقدان المقابر. ولكن أيضًا بسبب الحرائق وهدم المباني التاريخية، مثل قصر هدى شعراوي الذي تم هدمه لبناء فندق، وقهوة متاتيا ملتقى المفكرين والمبدعين في القرن التاسع عشر التي تم هدمها لبناء مبنى إداري وجراج، وقصر البستان الذي كان مقرًا للجامعة المصرية ومتحفًا للعلوم وتم هدمه لبناء جراج أيضا”.

وفيما يتعلق بالجرائم، أكد أبوغازي، أنها ليست جرائم أفراد، وإنما هي جرائم دولة. ويعد التوثيق بالصور الملونة والواضحة وإصدار الكتاب بهذا الشكل جهدًا هامًا يجب أن يقدر لدار النشر “ديوان”. لدخولها هذا المجال الذي يعتبر صعبًا لأي ناشر آخر.

كتب الزيارة

ويضيف: “تعتبر كتب الزيارة إضافة لأنها تمثل استمرارًا للأعمال الموجودة في العصور الوسطى التي توقفت. وتعيد إحياء التراث مرة أخرى وتنقل القارئ إلى هذه المنطقة التي تحتضن مقابر المصريين وتعكس ذكرياتهم، مع تخيل خريطة هذا المكان. ويمثل هذا امتداد لمدرسة أو مجال في الكتابة التاريخية الذي انقطع لسنوات طويلة ويعاد إحياؤه”.

أما النقطة الثالثة، فتتعلق بأهمية الشواهد كمصدر للتوثيق التاريخي. فشواهد القبور التي تم اكتشافها في أسوان تكشف عن ملامح فترات تاريخية لم تُسجَّل في الكتب. وتحمل اسم الشخص ووظيفته وتواريخ ميلاده ووفاته. وتعتبر هذه الشواهد المصدر الأهم لأي باحث في مجال التاريخ لفهم التاريخ الاجتماعي والسياسي. وفي القرن العشرين ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، انقطعت كتب التراجم عن الناس في هذه الفترة، وتساعد الشواهد في تصحيح معلومات في مصادر تاريخية. ستظل الأجيال القادمة بحاجة إلى هذه الشواهد خاصة بعد ضياعها، حيث يمكن من خلالها توثيق الأحداث التاريخية.

من الطب لحفظ التراث

فيما روى د.مصطفى الصادق سبب اهتمامه بتوثيق شواهد القبور. ويقول: “كان هدفي من الكتاب هو مشاركة شيء جميل ولم أتوقع أن يكون هناك اهتمام به. لقد تعلمت الكثير عن التاريخ من خلال شواهد القبور التي كنت غير مدرك لوجودها من قبل”.

ويضيف: “اهتمامي بدأ بمقابر حوش الباشا، والتي تحتضن جزءًا من عائلة محمد علي، ولكنها أغلقت الآن. كنت لا أدرك كيف يمكنني استدراج التاريخ من خلال الشواهد، ولكن بالنسبة لي، فإن معرفتي بتاريخي شيء ضروري. وأحاول أن أجد ما يمكن أن يساعدني في ذلك. اكتشفت أن الشواهد هي مادة جيدة للتوثيق، وبدأت في تسجيلها قبل فكرة هدمها. واستمتعت بمشاهدة هذا الجانب الرسمي والمكان البسيط”.

سرد الصادق العديد من المواقف التي عاصرها خلال زياراته المتكررة إذ يقول: “زار شاب سوري قاضي القضاء العز بن عبدالسلام وأخبره شخص بأنه في أفضل مكان في العالم. وكانت هناك مقبرة أم كلثوم التي أغلقت أيضًا. وكان الناس يكتبون تدوينات في كتاب. واكتشفت أن مطربًا عراقيًا قام بزيارتها وترك اسمه هناك”.

اقرأ أيضا:

خبراء ترميم عن فك مآذن قاهرة المعز: ما يحدث جريمة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر