طه حسين والجامعة.. ذكرى قيمة العميد

شكلت الجامعة واحدة من أهم الساحات التي مارس فيها طه حسين أدواره التنويرية. إذ نظر إلى الجامعة على الدوام باعتبارها واحة للفكر الذي ينطلق منها لتغيير المجتمع وبث قيم الحضارة فيه. في إطار إيمانه المطلق بالتعليم وقدرته على تغيير حظوظ الشعوب. لكن رائد التنوير المصري والعربي، والذي ترك خلفه ميراثا لاستقلال الجامعات ورؤية للتركيز على طابعها العلمي المشتبك مع الواقع العملي. قد يحزنه حال الجامعات المصرية الآن في ذكراه الخمسين. وقد انحدرت إلى ما نراه ونشعر به جميعا من تحولها إلى أماكن لمنح الشهادات. تغيب عنها الفاعلية العلمية والمشاركة السياسية، وسط تجريف للكفاءات وحضور أصحاب الثقة والولاء.

***

تجربة طه حسين داخل الجامعة يمكن تقسيمها إلى شقين؛ الأول شخصي يتعلق بتجربة الفتى الأزهري الذي انتقل إلى التعلم في الجامعة الأهلية. ومنها إلى فرنسا حيث حصل على درجة الدكتوراه. ثم عاد أستاذا في كلية الآداب فعميدا لها. والشق الثاني هو الجانب التنظيري الذي قدمه طه حسين للارتقاء بالجامعات. ووضع تصوره الشامل لدورها في المجتمع. ومن المؤسف أن الجامعات انحرفت عن مسيرة العميد في الشقين معا.

في المرة الأولى قدم طه حسين النموذج لابن الفلاحين الذي تحدى ظروف المجتمع وظروفه الشخصية. لكي يصنع معجزة الوصول إلى أعلى المناصب التعليمية في الجامعة. كان ذلك في بداية القرن العشرين، لكننا الآن في القرن الواحد والعشرين. نمنع الفرص عن أمثال طه حسين، وحوادث انتحار شباب منعوا من حقهم العلمي في التعيين بالجامعات. بسبب ظروفهم الاجتماعية معروفة للجميع.

عندما أصبح طه حسين أستاذا في الجامعة، خاض معارك لاستقلال الجامعات. وقدم النموذج الحقيقي لمن أراد السير على درب استقلال معاهد العلم. فقد تمت إقالته من منصبه عميدا لكلية الآداب في مارس 1932. بسبب رفضه وتصديه لمحاولات تدخل الملك والحكومة في العمل الجامعي. وقد حاولت الحكومة برئاسة إسماعيل صدقي، أن تضع سابقة بالتدخل الحكومي في العمل الجامعي. بحسب تفسير الدكتور رؤوف عباس حامد، واستقال بعدها رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، غضبا للتعدي على استقلال الجامعة.

وهكذا كان استقلال الجامعة خط أحمر عند طه حسين، والذي تقدم باستقالته في 1939. في مواجهة تدخلات الملك والحكومة والإخوان، ومحاولة جر الجامعة لحلبة الصراع السياسي كتابعة للملك وحزبه. لذا لا غرابة أن يصبح تاريخ اندفاع الطلبة للدفاع عن طه حسين ورفض إقالته في 9 مارس 1932. يوما لاستقلال الجامعات.

***

لكن ما حارب من أجله العميد، ضيعه الكثير ممن تولوا مناصب قيادية في الجامعات بعد يوليو 1952. إذ أصبحت فكرة استقلالية الجامعات غير مطروحة. بعدما وضعت السلطة التنفيذية يدها على الجامعات التي فقدت على يد أبنائها أي معنى للاستقلال. إن ما جرى كان خيانة لما حارب من أجله عميد الأدب العربي كأستاذ جامعي حارب محاولات القضاء على استقلال الجامعات.

لم يكتف طه حسين بالممارسة بل قدم رؤيته لما يجب أن تكون عليه أوضاع الجامعات في كتابه المهم (مستقبل الثقافة في مصر). إذ يقول: “آن لنا أن نعتقد بل أن نستيقن أن معاهد العلم ليست مدارس فحسب. ولكنها قبل كل شيء وبعد كل شيء بيئات للثقافة بأوسع معانيها، وللحضارة بأوسع معانيها أيضًا”.

ويتابع: “من هنا قلت إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده. وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة. ولا يكفيه أن يكون متحضرًا بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة. فإذا قصرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة. وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها!”.

ويضع تصوره الكامل لكي تقوم الجامعة بدورها كما يتصوره. إذ يقول: “لكن الجامعة لا تستطيع أن تنهض بهذا العبء ولا أن تنهض بعبء التعليم نفسه إلا إذا ظفرت بشيئين. أحدهما: أن تبلغه الآن وقد كان يجب أن تبلغه منذ أنشئت وهو الاستقلال الصحيح. والثاني: تستطيع أن تبلغه شيئًا فشيئًا وتصل إليه قليلًا قليلًا وهو الثروة وسعة ذات اليد”.

هنا يضع طه حسين يده على الداء الذي أصاب الجامعة في مقتل. فاستقلالية الجامعات باتت أثرا بعد عين، ولم يتحقق لأي جامعة قدر من الموارد المستقلة في ظل الهيمنة الحكومية التي حرمت الجامعات من استقلاليتها. فصارت تتدخل في كل كبيرة وصغيرة فيها، وسط هيمنة وتغليب الأمني على العلمي. ومن ناحية ثانية منعت الجامعات من الاستقلالية المادية ووضعت يديها على ميزانية الجامعات، فضمنت بذلك تبعية.

***

ذلك هو ميراث طه حسين داخل أسوار الجامعة، التي لم يرد لها أن تنعزل عن الحياة العامة دون أن تفقد استقلاليتها. ومن أسف أننا نحتفل بذكرى رحيل العميد الخمسين، وأوضاع الجامعة ليست في أحسن حال. بل نستطيع القول إنها على العكس مما مارسه طه حسين ونادى به. لكن المفيد هنا أننا ونحن نستعيد ذكرى العميد أن نستعيد معها ما يمثله من قيمة للجامعة إذا أردنا أن نستعيد دورها. وهو أمر ليس قاصرا على أساتذة الجامعات، بل هو شأن كل مثقف ومهتم بالشأن العام المصري.

ولا يوجد أفضل من قيمة طه حسين كرأس حربة في استعادة استقلالية الجامعات. وإعادة بنائها على الديمقراطية والتفكير الحر، عبر اختيار أعضاء هيئة التدريس من يمثلهم، وحقهم في محاسبته. ومن ناحية أخرى حرية الباحث في ممارسة التفكير بلا أي حواجز أو قيود مجتمعية أو سياسية أو دينية. وأن نستبعد عقاب الباحث التنكيل لا التكريم في مجتمعات تعادي حرية الفكر، عندما ننجح في ذلك كله سنكون بذلك قد انتصرنا لقيمة عميد الأدب العربي. وكرمنا ذكرى جهاده للحفاظ على استقلال الجامعة.

اقرأ أيضا:

ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور

«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟

رسالة إلى العميد في ذكراه

«من رسائل العميد» إلى‭ ‬هيكل باشا: في نقد «ثورة الأدب»

محمد حسنين هيكل في زيارة إلى العميد: صومعة عقل

أحمد بهاء الدين: زيارة لمكتبة طه حسين

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر