لوسي ريزوفا في «عصر الأفندية»: التّعرّف على الأفنديّ(1)

ترجمة: محمد الدخاخني

أدرك الشّابّ حُلمه الّذي طال انتظاره بدخول عالم الطّربوش، فقط عندما كان مريضًا لدرجة الموت من العمامة وكلّ ما انطوت عليه.

(طه حسين، الأيّام، 225)

كان ترْكي للجلابية والعمامة من أجل البدلة الإفرانجيّة نتيجة إرادتي إظهار… أنّني أيضًا أستطيع أن أكون فتوّة إذا لزم الأمر، بقدر ما أستطيع أن أكون أفنديًّا!

(زكريا أحمد، الكواكب، 135، 2. 3. 1954)

لقد فكّرت مليًّا في مشكلة الأفنديّة… يبدو أنّهم يتطوّرون بسرعةٍ إلى طبقةٍ وسطى مهنيّةٍ مقدّر لها أن… تلعب دورًا متزايد الأهميّة في تشكيل المصائر السّياسيّة للشّرق الأوسط.

(نشرة بيفين، 15. 1. 1947)

قد بلغنا سنّ الرّشد طلّابًا لدينا شعور بأنّ واجبنا الأوّل هو حبّ أمّتنا وخدمة بلدنا. يتكوّن هذا الحبّ من شيئين. أوّلًا، التّمسّك بحقوقه والنّضال من أجل تحقيقها، وثانيًا السّعي وراء المعرفة لاستحقاق الاستقلال، [لأنّ] المعرفة هي الّتي تؤدّي إلى نيل الاستقلال الحقيقيّ.

(إسماعيل صدقي، مذكّراتي،7)

***

بالنّسبة إلى طه حسين، انقسم العالم إلى فسطاطين: رجال العمامة؛ وأولئك الّذين يرتدون الطّربوش. كان الأوّلون هم الشّيوخ، زملاؤه من الطّلّاب والمعلّمين في الأزهر. وعلى الجانب الآخر، كان ثمّة رجال يرتدون علامات الحداثة، الطّربوش والبدلة الحديثة: هؤلاء هم الأفنديّة، وعالمهم هو ما رامَ دخوله. بالنّسبة إلى طه حسين. دلّ الاختلاف في الّلباس على صراعٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ أوسع.

ومن وجهة نظره، تمّ اختبار هذا الصّراع في شكل مقاربتين متعارضتين تمامًا لاكتساب وإنتاج المعرفة. لمّا كان طالبًا في الأزهر. تم منعه من طرح أسئلة ذات طابع نقدي وتم توبيخه في كل مرة حاول فيها محاججة معلميه. وهكذا، كان عالم العمامة بالنسبة إليه عالمًا قمعيًّا يقوم على الخضوع الأعمى لسلطةٍ عليا. سواء سلطة معلميه أو نصوصهم. لقد فضل العالم الآخر – عالم الطّربوش – مقاربة نقدية للمعرفة. بدا هذا العالم الجديد أكثر حرية وإثارة للاهتمام مما رآه على أنه عالم التعليم الأزهريّ المتحجّر. وقد تمّت صياغة سيرته الذّاتيّة الشّهيرة، الّتي أُخِذَ منها هذا الاقتباس، بعباراتٍ وجوديّة – كنضالٍ للهروب من العالم القمعيّ الأوّل والدّخول إلى العالم الثّاني، عالم الحرّيّة والإمكانيّات الّلانهائيّة.

اقتباسي الثّاني من الموسيقار الشّهير زكريا أحمد. وقد ظهر في مجلّة الكواكب الشّعبيّة في مقالةٍ قصيرةٍ حيث كان يُطلَب من الفنّانين والمؤدّين أن يشاركوا القرّاء بعضًا من ذكريات شبابهم. اختار زكريا أحمد أن يسرد قصّة تخلّيه عن الزّيّ التّقليديّ الّذي كان يرتديه (الجلابية) من أجل البدلة الإفرنجيّة. وهكذا، حيث كافح طه حسين لأعوامٍ بُغية نيل ما اعتبره ‘معرفة’، يبدو أنّ زكريا أحمد قد اكتسى فقط هويّةً مختلفة. أصبح أفنديًّا. ويبدو أنّ اقتباس زكريا أحمد يُمثّل موقفًا مختلفًا تجاه الحداثة، باعتبارها شيئًا جذّابًا ومليحًا.

***

لقد اجْتُرِحَ طريق الرّجلين في أن يصيرا أفنديّةً بعباراتٍ مختلفة للغاية، وإن لم يكونا مختلفين كما قد يبدو للوهلة الأولى. فكلا المثالين يصوّر طُرقًا غير تقليديّة للصيرورة الأفنديّة. ويزعزعا الحكمة التّقليديّة في كتابة تاريخ مصر الحديثة. حيث يتمّ تعريف الأفنديّ عادةً على أنّه نِتاج التّعليم الحديث. تُعتبر البدلة الغربيّة والطّربوش علامتين تُشيران إلى رأسمال الأفنديّ التّعليميّ، وتمثّلان الجوهر الحقيقيّ لما يجعل المرء أفنديًّا. بيد أنّ طه حسين كان أزهريًّا تخرّج في نهاية المطاف من الجامعة المصريّة المنشأة حديثًا في مرحلةٍ لاحقةٍ من شبابه وذلك بفضل عاملين: تصميمه الشّخصيّ وبنية التّدريس المرنة للجامعة في البداية، والّتي أتاحت لطالبٍ أزهريٍّ الانضمام إليها.

وبالمثل، كان زكريا أحمد شيخًا. وهو لقب (هنا) يشير إمّا إلى تعليمه الدّينيّ التّقليديّ أو كونه موسيقيًّا في فرقةٍ تؤدّي موسيقى تبتّليّة. كان يُطلق على كلّ من ذهب إلى مدرسةٍ حديثةٍ أفنديًّا، لكن فئة الأفنديّ لا يمكن اختزالها في التّعليم وحده. ومن الواضح أنّ ما جعل كلا الرّجلين يتحوّل إلى أفنديّ لم يكن التّعليم المدرسيّ وحده. بالأحرى، ما جعلهم أفنديّةً هو زعمهم للحداثة، وهو ما فعله كلّ واحدٍ منهما بطرقٍ مختلفة.

الشيخ زكريا أحمد بالعمامة والزى الأزهري في أقصى يسار الصورة
الشيخ زكريا أحمد بالعمامة والزى الأزهري في أقصى يسار الصورة
***

تعد السيرة الذاتية لطه حسين نصا أفنديا في الصميم. إنّها لا تتحدّث عن أوجه القصور في التّعليم الأزهريّ ولكن تتحدّث كثيرًا عمّا أسميته الذّاتيّة الأفنديّة. إنّ ما رآه طه حسين على أنّه تعليمًا أزهريًّا متحجّرًا انطوى على فهمٍ مبنيٍّ بشكلٍ مختلفٍ للسّلطة النّصّيّة وبالتّالي مختلَف الهيراركيّات الاجتماعيّة. فالوصول إلى المعرفة (وكلّها مرتبطة بالدّين) يجب أن يتمّ توسّطه إمّا من خلال نصٍّ آخر – تعليق – أو معلّم، وغالبًا كلاهما.

كان الحضور المرتبط بالمؤلف حاسما في ضمان الفهم الصحيح للنص، وتم تكراره من خلال قراءة النص بصوت عال بُغية الحماية من الفساد النصي، والتي كانت القراءة الفردية (وحتى الصامتة) عرضة له. في مثل هذه الممارسة النّصّيّة، كان تأليف نصٍّ جديدٍ محجوزًا للرّجال من ذوي السّلطة الدّينيّة العليا، وغالبًا ما مثّل ذلك المرحلة النّهائيّة الّتي تتوِّج مسارًا من التّعليم امتدّ الحياة بطولها. بالنّسبة إلى طه حسين والعديد من معاصريه، تناقضت هذه الآراء بشكلٍ حادٍّ مع رغبتهم في مقاربة المعرفة بشكلٍ نقديٍّ وفي أن يصبحوا هم أنفسهم مؤلِّفين مبدعين.

***

وفيما يطرح طه حسين التّناقض بين الطّربوش والعمامة بمصطلحاتٍ أيديولوجيّة، على أنّه ‘تحرير’ لنفسه من الأشكال القديمة للسّلطة، فإنّ إيمَاءَة زكريا أحمد المتمثّلة في مجرّد التّزيّي بملابس الأفنديّ تبدو وكأنها شيء عامّيّ. يقدّم زكريا أحمد مسلكه في أن يصبح أفنديًّا على أنّه مسألة شجاعة رجوليّة: ‘يمكنني أن أكون كليهما… الفتوّة والأفنديّ’ (التّوكيد من عندي). لكن حتّى بالنّسبة إلى زكريا أحمد، فإنّ كونه أفنديًّا كان في الحقيقة جزءًا لا يتجزّأ من التزامه بالحداثة الموسيقيّة. ومن المغلوط التفكير في الأفندي، و، بالتالي، الحداثة بهذه الطريقة، إما كشيءٍ أيديولوجي (وبالتّالي خاضع للممارسة الصحيحة) أو عامي (شيء محاكى).

هل يمكن للنّاس أن يصيروا أفنديّةً بمجرّد التّزيّي؟ في الواقع، يمكنهم ذلك، وقد فعل الكثيرون ذلك. ظهر موسيقيّون مصريّون، من بينهم زكريا أحمد، بشكلٍ روتينيٍّ في الصّحافة الشّعبيّة في أواخر العشرينيّات من القرن العشرين وهم يرتدون هنا كـ’أفنديّة’ وهناك كـ ‘شيوخ’. في الواقع، لا يتعلّق اقتباس زكريا أحمد فعليًّا ‘بالتّبديل إلى الأفنديّ’، بل يتعلّق باختياره ‘أن يكون كلاهما’. والممارسة نفسها، القدرة على ‘أن يكون كلاهما’ موضحة بشكل فعال في صورة ممنتجة معروفة لسيد درويش (1892-1922) انحدر سيد درويش، أيضًا، من خلفية موسيقية تقليدية، وشأن زكريا أحمد، كانت ذخيرته الفنّيّة أوسع بكثيرٍ من فئة الموسيقى الدّينيّة. ومن شأن هذه القدرة الأدائيّة المتمثّلة في ‘أن يكون كلاهما’ أن تكون مناسبةً لجمهورٍ مختلفٍ وسياقاتٍ مختلفة. ففي بعض المواقف، قد يكون إظهار علامات الحداثة معبّرًا عن الالتزام بالحداثة الموسيقيّة التي ارتبط بها كلّ من زكريا أحمد وسيّد درويش؛ وفي مواقف أخرى، زادت هذه العلامات من الخيارات المهنيّة للموسيقيّ.

***

كان السّياق كلّ شيء. ففي حين أنّ مزاعم كونك أفنديًّا قد تبدو في البداية مربكة، فإنّها لم تكن بالتّأكيد اعتباطيّة أو فوضويّة أو متزامنة؛ لقد تمّ اجتراحها ضمن مواضَعات واضحة للسّياق والسّلوك الاجتماعيّ. لقد زعم زكريا أحمد أفنديته في مقالة مسلية في مجلة شعبية؛ وزعم طه حسين السجية الوجودية للأفندياتية في سيرته الذاتية، وهو نص أكثر جدية ادعى أنه يُضفي على حياته معنى. سأحاجج في هذا الفصل بأن كون المرء أفنديا أو شيخًا، أو كونه حديثًا أو أصيلًا، يمثّل مواقف اجتماعيّة تمّ اختيارها وفقًا للسّياق لمضاعفة التّمكين الاجتماعيّ للذّات.

يصبح السّؤال عن ‘ما هو’ الأفنديّ أكثر تعقيدًا في الاقتباسين الأخيرين من اقتباساتي الافتتاحيّة. فما ينقلانه هو إحساس بأنّ الأفنديّة هم مجموعة اجتماعيّة واعيّة بذاتها وهو إحساس غير واضح في المقطعين الأولين. لقد كتب إرنست بيفين، وزير الخارجيّة البريطانيّ، النّشرة ردًّا على سلسلةٍ من التّقارير الواردة من السّفارات في كافّة أنحاء الشّرق الأوسط والّتي تتناول ما أسمته ‘المشكلة الأفنديّة’. في مصر، رأى البريطانيّون أنّ الأفنديّة يمثّلون طبقةً وسطى مهنيّة ناشئة، طبقة لها دور تلعبه في مصير بلادها. لكنّهم كانوا يخشونها، أيضًا، باعتبارها تمثّل الجيل الصّاعد من الشّباب الفصيح والحديث والزّاعم للطّبقوسطويّة، والّذي سيتحدّى وجوده بالضّرورة التّبريرات السّائدة للحكم الاستعماريّ على أسسٍ أخلاقيّةٍ وحضاريّة.

***

في الواقع، لم يكن هذا هو الجيل الأوّل من مثل هؤلاء الرّجال الّذين بلغوا سنّ الرّشد في مصر. وينقل الاقتباس الأخير، الّذي كتبه أفنديّ، إحساسًا بمهمّةٍ جيليّةٍ مرتبطةٍ بالوطنيّة المصريّة. إنّه يلخّص مجموعة المشاعر – ‘نحن’ الّتي تعبّر عن هوية المجموعة، والطّلاب الّذين بلغوا سنّ الرّشد، و’الواجب’، و’حبّ الأمّة’، و’خدمة بلدنا’ – الّتي تمثّل بالضّبط ما كان يخشاه بيفين.

سيد درويش في الزى الأزهري
سيد درويش في الزى الأزهري

تصوّر الاقتباسات الأربعة الواردة في بداية هذا الفصل الأفنديّ من زوايا مختلفة جدًّا: نضال طه حسين الوجوديّ من أجل المعرفة الّتي اعتقد أنّه لا يمكنه العثور عليها إلّا بين الأفنديّة. إيماءَة زكريا أحمد الارتجاليّة على ما يبدو وإنْ الرّجوليّة لتغيير زيّيه (ولكن مع بقائه في الحقيقة فتوّةً وأفنديًّا). خوف إرنست بيفين من طبقةٍ وسطى ناشئة؛ وحماس إسماعيل صدقي الشّابّ لمهمّة وطنيّة -. كلّها انعكاسات دقيقة بشكلٍ معقولٍ لبعض العناصر أو غيرها ممّا كان يعنيه ‘الأفنديّ’ في النّصف الأوّل من القرن العشرين. ومع ذلك. فإنّ الزّوج الثّاني من الاقتباسات – من إرنست بيفين وإسماعيل صدقي – يبدو أكثر انسجامًا مع تفسيرات المؤرّخين التّقليديّة للأفنديّة من حيث هم مجموعة اجتماعيّة صاعدة مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بالوطنيّة.

***

توضّح هذه الاقتباسات الأربعة أنّ الأفنديّ في مصر الحديثة كان فئةً ثقافيّةً وجماعةً اجتماعيّة. هي الأفنديّة، في آن. لقد دلّت كلمة الأفنديّة على الأفراد الّذين أظهروا علامات تشكيلٍ محدّدةٍ من الزّيّ أو السّلوك. وباعتبار الكلمة فئةً ثقافيّة، فقد كانت شيئًا تحدّده الفعاليّة الشّخصيّة، وبالتّالي كانت فئةً أدائيّةً بشكلٍ بالغ – يمكن للأفراد أن يختاروا أن يصبحوا أو لا يصبحوا أفنديّةً في لحظاتٍ مختلفةٍ من حياتهم أو، في الواقع، التّبديل جيئةً وذهابًا في يومٍ واحد. من هذا المنظور، كان كون المرء أفنديًّا أمرًا مرنًا بلا حدود، فعند النّظر إليهم كمجموعةٍ اجتماعيّةٍ تمّ تعريف الأفنديّة من خلال المعايير الموضوعيّة للتّعليم والتّوظيف وبالتّالي مثّلت الكلمة شيئًا ثابتًا. لكن هذا التّناقض الظّاهريّ يعكس ببساطةٍ المزاعم المختلفة الّتي قدّمها الفاعلون الاجتماعيّون حول هذا الشّيء الّذي نسمّيه الحداثة.

***

كانت الحداثة مجالًا متنازعًا عليه إلى حدٍّ كبير، وكذلك كان الأمر بالنّسبة إلى الأفنديّ. من حيث هو الفاعل الاجتماعيّ الّذي يتمّ تعريفه بملكيّة الحداثة. اعتبر بعض الفاعلين أنّ الحداثة مسألة مظهر أو زيّ أو نمط حياة. ورأى آخرون أنّها مسألة ولاءٍ ثقافيّ، مسألة موقف تجاه السّلطة المتجسّدة في النّصوص؛ بالنّسبة إلى آخرين. مثّلت الحداثة وجهة نظر عالميّة معيّنة، تصوّرًا للنّظام الاجتماعيّ والتّاريخ تمحور حول ضرورة الإصلاح. وقد سعت الجهات الحكوميّة الرّسميّة، الّتي غالبًا ما تكون جزءًا لا يتجزّأ من الثّقافة العامّة. إلى الحفاظ على السّيطرة على تعريف الحداثة الّلائقة. ومن هنا جاء التّصوّر التّقليديّ للأفنديّ، والّذي تمّ تحديده من خلال التّعليم (الحديث) والتّوظيف (في القطاع الحديث).

غدا حلقة ثانية من الكتاب.

مقطع من الفصل الثاني من كتاب «عصر الأفندية: ممرات الحداثة في مصر خلال فترة الهيمنة الاستعمارية وبناء الأمة الحديثة» للمؤرخة التشيكية لوسي ريزوفا، وترجمة محمد الدخاخني. الترجمة العربية للكتاب تصدر خلال أيام في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن دار الكتب خان.

اقرأ أيضا:

ليلة أن مات سيد درويش

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر