حوار| الفنان التشكيلي محمد جوهر: المشي في الإسكندرية كأنها المرة الأولى

في عام 2013 بدأ المعماري والباحث محمد جوهر مشروعه “وصف الإسكندرية” لتوثيق الإسكندرية بمعزل عن الوقوع في فخ النوستالجيا. يركز جوهر في شوارع المدينة على التفاصيل المنسية التي بسبب اعتيادنا رؤيتها بشكل يومي بتنا لا نلاحظها. يعزل جوهر في كراسات رسمه المباني والشوارع عما حولها ويجعلنا نراها عن كثب وكأنها المرة الأولى.

في هذا الحوار يحكي لنا محمد جوهر عن علاقة التاريخ الاجتماعي والتاريخ الشفهي بالعمارة، وتجربته في رصد وتوثيق التراث السكندري.

كيف كانت بداية مشروع وصف الإسكندرية؟

أثناء دراستي للماجستير عام 2009 كان هناك مشروع بحث عن منطقة المكس في الإسكندرية وهو عبارة عن دراسة معمارية لطرح حلول بمنطقة ترعة الخندق. كان جزء من نتائجها رسومات البيوت الموجودة هناك. عندما أنهيت الدراسة عدت للناس وأعطيتهم نسخة من هذه الرسومات، واندهشت من تفاعلهم مع الرسومات وردود أفعالهم عليها. ومن هنا جاءت أول شعلة للبدء في المشي في شوارع المدينة والغرق في الملاحظة وتحليل للتأثيرات ثم الرسم.

بعد عام كان لدي مخزون هائل من الرسومات لكن بدون رابط سوى أنها عن الإسكندرية. فكرت وقتها أن أجمعهم في كتاب. وبالفعل عملت على جمع هذه الرسومات في إطار منظم وجذاب ومن هنا جاء وصف الإسكندرية.

هل تأثرت بمشروع الرحالة البلجيكي برتنشامب؟ لديه كتاب يحمل نفس عنوان “وصف الإسكندرية” في أربعينيات القرن الثامن عشر؟

هذا الكتاب أعادت نشره مكتبة الإسكندرية بعدما بدأت مشروعي بعدة سنوات واسم وصف الإسكندرية الذي على الكتاب ليس هو الاسم الأصلي. أيضا كتابه كان عبارة عن رسومات توثيقية فقط. فلم يكن هناك أي تأثير لأني لم أكن سمعت عنه. لكن مرجعيتي كانت من كتاب”beschreibung von arabien” الذي كان نتاج زيارة علماء ألمان لعدة بلاد عربية من ضمنهم مصر.

رسومات محمد جوهر
رسومات محمد جوهر
برأيك هل التوثيق كافي للتعرف على التراث؟

مع الوقت اكتشفت أن التوثيق غير كافي. ولاحظت أن هذه الرسومات التي أنتجها تصل لعدد معين من الجمهور المهتم بالفنون أو الدارسون للمعمار، خصوصا وأنني اكتب بالإنجليزية لأنني حينما اكتب الإنجليزية ابتعد عن أي مشاعر أو انطباعات شخصية. إنما اكتب عن حقائق وهذا ما أريده. لذلك حدث تحول في منهجيتي بدلا من التوثيق فقط يكون الرصد ودراسة الثقافة الاجتماعية وتأثيرها على التراث.

ما أهمية التأريخ الشفهي بالنسبة للفنان بشكل عام وبالنسبة لمشروعك التوثيقي بشكل خاص؟

التأريخ الأكاديمي للإسكندرية غير كافي وربما غير موجود. في رأيي لن نستفيد بتاريخ المبنى ومن بناه ومن سكن فيها فقط. أتساءل أين دراسة الموقع الخاصة بالحاضر؟ أبحث ولا أجد.

المعمار جزء من معادلة النسيج الحياتي اليومي إذا تكلمنا فقط على المعمار وأهملنا الجزء الإنساني سيحدث خللا. لذلك الاهتمام بالسرد الشفاهي مهم لمعرفة تغيرات المكان أو المبنى وأهمية أو عدم أهمية هذا المبنى في الوقت الحاضر لأنه مختلف عن من سكنه في الماضي. هل الشخص الذي يستهلك المدينة الآن يفرق معه من كان يعيش قبله؟ احتاج صوت من يستخدم المبنى الآن لدراسة التاريخ الاجتماعي الذي لا ينفصل عن العمارة. كل هذا غير موجود في الدراسات الأكاديمية.

كلما فرضت على المستهلك الحالي للمدينة النوستالجيا، وكلما همشته وعزلته ستصبح تصوراتي عنه مشوشة وضبابية، بالتالي هو لن يهتم بالتراث أو بالتغيرات طالما لا تسد احتياجاته. وهذا ما يعوق خلق مدينة فيها حركة ديناميكية تتفاعل مع احتياجات الشخص القديم ومع احتياجات الحاضر. لحظة خلق هذا التفاعل المتوازن، لن يكون للمستهلك الحالي أي مقاومة للماضي أو نفور من النوستالجيا بل سيساعد في الحفاظ على التراث.

برأيك، لماذا نقع في فخ النوستالجيا كلما تحدثنا عن الإسكندرية؟ وكيف نضع الحدود بين النوستالجيا والعمل التوثيقي؟

هذا سؤال ذكي، أنا معماري وباحث وهذا السياق يفرض علي النظر للأمور بشكل تحليلي ولا يضع مجال للمشاعر. يمكن أن يختلف الإنتاج سواء ورقة بحثية أو على موقعي لكني أتبع منهجية علمية. وهذا يضمن أنك على خط أساساته واضحة ولا تجعلك تنزلق لطريق الانطباعات الشخصية.

أما مشكلة الانطباعات الشخصية أنها مقولبة وتجعلنا نعيد إنتاج ما فرض علينا من قبل. وهذا شيء لا يصلح للمدينة التي نستهلكها يوميا، خصوصا وإن كانت هذه الانطباعات غير حقيقية ومبتورة من سياق أكبر. فأنا لا اكتب عن الشيء سوى بشكل تحليلي وبحقائق بعيدة عن الانطباعات الشخصية يمكن أن تقبليه أو لا تقبليه لكنه صوتي.

بوستر معرض "مداخل منسية" للمعماري محمد جوهر
بوستر معرض “مداخل منسية” للمعماري محمد جوهر
«ربما أكون على صواب أو خطأ لكن هذا صوتي» جملة تكررها كثيرا. برأيك متى يفقد الفنان صوته؟ 

عندما يقرر الانعزال عن المجتمع. وقع كثير من الفنانين في طور الانعزال والإنتاج من الاستديو الخاص بهم. حينما يحدث ذلك تعرف أن ما تنتجه ليس له علاقة بالمجتمع. في الانعزال ستبدأ المشاعر بالظهور على السطح والتحكم في الإنتاج ولأنه لا يوجد مدخلات جديدة ستبدأ مرحلة الحنين والنوستالجيا. ثم مرحلة الاكتئاب مثل أي فنان، بعدها ستأتي مرحلة محاولة العودة للمجتمع لكن لحظتها سيكون هناك فجوة.

كلما كان الإنسان منخرطا في المجتمع تأكدي أن صوته سيكون كاشف للحقيقة، سواء حقيقته أو حقيقة ما يحدث في المجتمع.

إنتاجك التوثيقي للمدينة جزء كبير منه يصور الإسكندرية الكوزموبوليتانية؟ هل الإسكندرية فقط هي هذا الجزء؟ ولماذا يتم التركيز عليه في معظم المشاريع الفنية؟

لأن مصادري محدودة سواء المادية أو في الوقت، أنا فرد ولست مؤسسة. أعمل بجانب المحيط الذي أعيش فيه من قلعة قايتباي لمكتبة الإسكندرية، وكباحث فردي أنتج ما استطيع إنتاجه لأن هذه هي طاقتي.

أيضا عندما أصمم منتج أصممه على حسب احتياجات وذوق النسبة الأكبر من الجمهور. لو ركزت عن شرق المدينة مثلا سأخاطب فئة معينة فقط. لكن في المقابل وسط البلد مثلا مكان يتواجد فيه جميع الأطياف لأن بداخله استخدامات متعددة. ذلك يضمن أن ما أقوله يمثل نسبة كبيرة من فئات المجتمع وأن المنتج سيتلامس مع العديد.

تشاركت مع بنوا جيوم في معرضك السابق “وجهات” والآن تشارك ليو دوبوا معرضك الجديد مداخل منسية. من تجربتك، هل من السهل مشاركة فنان آخر في إنتاج مشروع فني؟

يكون سهلا وممتعا إذا نحينا جانبا الجزء العاطفي، وعملنا بمنهجية علمية بمعادلة: ملاحظة تحليل ثم نتائج. كلما اعتمدنا على المنهجية العلمية في خلق أرضية مشتركة، كلما كان أفضل لأنها تجعلنا متفقين وبلا منافسات أو مشاحنات.

أيضا، هذه التجربة تثري المشروع وتثيرني شخصيا لأن الشريك يكون عين ثالثة لي ذلك أنه لكل شخص زاويته في النظر حتى وإن مشينا في نفس الشارع. عندما يكون شريكك أجنبي قادم من خلفية ثقافية مختلفة يجعلك تشاهدي الأشياء  بعين جديدة، لأنه يجعلنا نلاحظ ما اعتدناه.

  • يفتتح غدا بالمركز الثقافى الفرنسي بالإسكندرية معرض «مداخل منسية» الفنان محمد جوهر..يستمر المعرض لمدة شهر.
شاهد من هنا بعض اللوحات التى ستعرض في المعرض:

صورة وكلمة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر