«النزلة».. من هنا جاء فخار العالم القديم

في واد منخفض بمحافظة الفيوم تقع قرية النزلة التابعة لمركز يوسف الصديق، وهي القرية التي طالما جذبت اهتمام السينما من البداية. إذ تم تصوير مشاهد أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية داخلها وهو فيلم “دعاء الكروان”.

تنحدر أصول أغلب عائلات الفيوم العاملة في الفخار من قرية النزلة. إذ عرف عنها أنها تضم أمهر صانعي المهنة منذ قرون. وأثبتت الدراسات الأثرية أن فخار قرية النزلة وطريقه صنعه تحديدا يمتد جذوره لآلاف السنين وتحديدا عصر الأسرات المصرية القديمة، وهي الطريقة التي مازال يستخدمها الحرفيون حتى الوقت الحالي.. «باب مصر» يتعرف على هذه الصناعة.

رواج الصنعة

يتحدث حسني أحمد ربيع عن عمله في الفخار داخل قرية النزلة ويقول: “أعمل في هذه الحرفة منذ ما يقرب الثلاثين عاما عندما كنت في العاشرة من عمري، أخذتها وتعلمتها أبا عن جد”.

ويشير إلى أن الحرفة داخل القرية تديرها عائلة واحدة وقد كانت في الماضي مكونة من 600 فرد، لكن حاليا يعمل فيها بشكل منتظم حوالي 50 فردا. أما غير المنتظمين فعددهم 150. إذ أن الصناعة تلقى رواجا كبيرا خاصة في فصل الشتاء، نظرا لوجود طلب كبير على المنتجات خلال موسم الشتاء لأن هناك الكثير من المنتجات التي تلقى رواجا في ذلك الشهر مثل “الكانون” الذي يستخدمه الفلاح عادة في فصل الشتاء ويكون مطلوبة بشدة، وكذلك “المنقل” والذي يستخدم في عملية التدفئة، وكذلك “البلاص” و”البكلة” اللذان يستخدمان في خزين “المش”. وأيضا “الزير” الذي يستخدم في الشتاء بصورة كبيرة، نظرا لفصل الناس للتيار الكهربائي عن الثلاجات في موسم الشتاء؛ لذلك فالصنعة تلقى رواجا كبيرا، وبالتالي تجتذب الكثير من الحرفيين في هذا الفصل تحديدا.

حسني أحمد ربيع
حسني أحمد ربيع
إعادة إحياء

يضيف ربيع: أما بالنسبة للمنتجات التي نستخدمها فجميعها منتجات طبيعية ونحن كنا نصدر في الماضي حوالي 20% من منتجاتنا. إذ كنا نصدر للدول العربية والأوروبية، لكن حاليا لا يتجاوز التصدير نسبة الـ5%، لكننا بشكل عام مدينون لوسائل الإعلام لأننا قبل عام 2014 لم يكن أحد يعرفنا، لكن في الوقت الحالي أصبحت الحكومة تدعمنا وكذلك المؤسسات. فأول مشروع تبنته المؤسسات كان من خلال مؤسسة “أخبار اليوم”، والتي استطاعت إعادة إحياء تلك الصنعة من خلال صيانة 10 أفران حديثة لحرق الفخار ومخزنين لحفظ الإنتاج، مع دعم الصناعة داخل القرية. وقد خصصوا لنا مبلغ مالي لتمهيد الطريق داخل القرية، وبعد ذلك جاءنا دعم من إيطاليا استطعنا من خلاله إنشاء مبنى من الفخار وحصد جوائز دولية. كما حولنا الطين واستخدمناه في البناء، فنحن يمكننا حاليا أن نصنع غرف بيئية من الطبيعة، وهذه الأشياء فعلناها لتطوير الحرفة، وللتغلب ولمجاراة متطلبات العصر.

تكنيك الصنعة

يذكر ربيع أن أهم ما يميز قرية النزلة أنهم حتى الوقت الحالي لا يزالوا يعملون بطمي النيل. ويقول: “نضيف عليه الرماد الناتج عن حرق الأفران أو تبن القمح الذي يستخدمه الفلاح، فنحن عندنا طينة بلدي. وهذه الطينة تختلف عن الطينة المستخدمة في قرية تونس؛ لذلك حرفتنا يمكن نعتها أنها تراثية”.

وتابع: هناك أشياء نستخدمها يرجع تاريخها لعمر الأهرامات مثل الحفرة “البورة” والتي اكتشفت في أسوان بجوار معبد التماسيح هناك. وقد وجد علماء الآثار أنها متطابقة تماما مع الحفرة المستخدمة في قرية النزلة. وهذا يدل على توارث الحرفة منذ قديم الأزل، وأيضا يدل على أن التكنيك والطريقة التي نعمل بها داخل قرية النزلة هي الطريقة الوحيدة التي تتم بهذه الوسيلة على مستوى مصر والعالم. فنحن نعمل بأسلوب “القالب والحفرة” والذي يمتد منذ الأسرة الخامسة، لذلك فالطينة طبيعية، ونحن نصنع من خلالها حاليا أكثر من 30 منتج.

فخار قرية النزلة
فخار قرية النزلة
حراك مجتمعي 

وحول الاهتمام بالقرية خلال الفترة الحالية أوضح أنه نتيجة الاهتمام من المحافظة والمؤسسات الدولية بتراث قرية النزلة بالفيوم، عاد بعض الحرفيين لمزاولة المهنة مرة أخرى، بعد أن تركوها لفترة تجاوزت العشر سنوات. إذ أنه بعد أن تم تمهيد الطريق المؤدي إلى القرية تشجع الكثيرون لممارسة الحرفة مرة أخرى. فهذا الحراك المجتمعي أدى في النهاية لاستقطاب عدد كبير من العاملين مرة أخرى. وحتى أن المجتمع المحلي الموجود داخل القرية بات ينظر إلى الحرفي الموجود داخل قرية النزلة بصورة إيجابية بعكس الماضي، وهذه النظرة تغيرت عندما اهتمت الحكومة بالحرفي وبمتطلباته.

تلوث بيئي

أما عن تسويق المنتجات يقول ربيع: “نسوق منتجاتنا بطريقتين؛ فهناك بعض الورش تسوق المنتج وتبيعه لتجار، وهناك ورش أخرى تبيع المنتجات بنفسها، فنحن مرتبطين في النهاية بسعر السوق، لكننا نعاني في الوقت الحالي من التلوث البيئي وتلوث المجتمع المحلي نتيجة الدخان المنبعث، والذي يؤثر علينا بصورة كبيرة، وعلى المجتمع. وهذا هو الشيء السلبي الوحيد الذي نعاني منه داخل القرية. لكن خلال الوقت الحالي المشكلة هذه في طور الحل إذ يشرف معهد الشارقة للتراث بالتعاون مع جامعة الفيوم على مشروع لتقليل نسبة الحرق داخل القرية من خلال استخدام مواد صديقة للبيئة. وعن طريق إنشاء أفران حديثة للمنطقة، وكذلك استخدام أفران حديثة محافظة على البيئة، من خلال الاعتماد على الغاز الطبيعي في الأفران، وهذا الأمر سيساعدنا في الكثير من الأمور، وسيزيد من الإنتاجية، وسيقلل العمالة، وكذلك سيوفر الكثير من الجهد.

قرية النزلة
قرية النزلة
النزلة والسينما

يشير ربيع – خلال حديثه- إلى أن قرية النزلة كان لها تاريخ طويل مع السينما. إذ انتبهت السينما إليها مبكرا، وكذلك تنبهت لتفرد موقعها الجغرافي. فقد تم تصوير الكثير من الأفلام السينمائية داخلها، ومنها فيلم “البوسطجي” والذي عرض خلال ستينيات القرن الماضي، وكذلك فيلم “دعاء الكروان”، ومسلسل “الكابتن جودة” وكذلك مسلسل “ضربة معلم”، وغيرها من الأعمال الفنية الأخرى. فالسينما المصرية اكتشفت المكان هذا منذ ستين عاما، وحاليا تم اكتشافه مرة أخرى، فقد تم تصوير فيديو كليب لأغنية “بنت أكابر” للفنانة أصالة داخل قرية النزلة.

وينهي حديثه ويقول إنه حاليا يجهز أولاده كي يمارسوا الحرفة. لكن الأهم بالنسبة إليه هو تعليمهم، أما قرار اختيار الاستمرار في الحرفة من عدمه فهو متروك لهم في نهاية الأمر “لكن الأهم كما ذكرت لك هو التعليم لأني أطمح أن يتفوقوا في حياتهم العملية”.

استكمال المسيرة

يقول الحاج حسني يونس المعروف باسم “حسني الكبير”: “سعيت طوال حياتي أن أحيي هذه الحرفة داخل القرية. إذ كنت أحضر الاجتماعات بشكل مستمر التي تعقدها المحافظة والجهات المعنية، وحاربت كثيرا كي نمهد طريق للقرية. أردت أن أوفر الراحة للأجيال القادمة، كي لا يعانوا مثلما عانينا طوال حياتنا. فهذه المهنة أنا امتهنها منذ أكثر من 50 عاما، وقد تعلمتها وأخذتها من جدودي، وأحببتها لأنها وفرت لي نوع من الحرية، نظرا لأني لا أعمل عند أحد، فإذا أنتجت كثيرا فهو لي وإذا أنتجت قليلا فهو لي أيضا، وهذا الأمر جعلني أتمسك بالمهنة طوال تلك المدة”.

وتابع: رفضت أن أعمل عند أحد وقررت أن تكون هذه المهنة لي، وعلمت أولادي أيضا، وسعيت من خلال التنسيق مع مؤسسة علي أمين ومصطفى أمين التابعة لمؤسسة أخبار اليوم، أن ننفذ طريق للقرية، بدلا من معاناتنا المستمرة حتى تصل بضاعتنا للطريق في نهاية الأمر، فقد صرف لنا 180 ألف جنيه؛ شيدنا من خلالهم الطريق، ورفضت أن يأخذ أحد جنيها واحدا من تلك المنحة، لأني أردت أن أخدم الأجيال القادمة، وهذه الأمور ساعدتنا كثيرا في الوقت الحالي.

ونوه يونس بمشكلة أخرى كنا نعاني منها داخل قرية النزلة لكننا تغلبنا عليها؛ فنتيجة لوقوع القرية في المنخفض فقد كنا نعاني من صرف المياه داخل القرية. وقد بدأت علاج المشكلة من خلال المجهود الفردي، فاستخدمت الحفار حتى صرفت المياه على الوادي، ونجحنا في النهاية أن نتغلب على المشاكل؛ لذلك أنا وضعت القرية على بداية الطريق وأنتظر من الأجيال القادمة استكمال المسيرة.

اقرأ أيضا

صناعة السبح.. حكايات من تاريخ الـ«لولي والمرجان»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر