صناعة السبح.. حكايات من تاريخ الـ«لولي والمرجان»

يقف الحاج حمدي شعبان أمام دكانه في «خان الخليلي»، ممسكا بسبحته ذات المائة حبة والمصنوعة من “الكوك” تاليا ورده من التسبيح. طالما افتتن بالأحجار الكريمة، خاصة الواردة في القرآن الكريم. صناعة السبح حرفة ورثها شعبان من جدوده فقد عملوا بها لقرون عدة.

وحاليا يستعد شعبان ولده كي يرثها منه ولكن تغيرت هذه الحرفة كثيرا عن السابق.. «باب مصر» يتعرف على هذه الحرفة وكيف بدأت.

تطور الحرفة

يحكي شعبان عن مراحل تطور الحرفة، فيقول: “كنا في القديم نعمل على الخامات الخشب لأن هذه المواد كانت المتوفرة. فكنا نصنع السبح من خشب “الصندل”، وخشب العود، والأبانوس والزيتون، وبعد ذلك تعرفنا على “الكهرمان” الذي جاء إلينا من أوكرانيا، وروسيا وألمانيا. فحين جاء إلينا كان جدودي يأتون به ويشكلونه “حبيبات” كبيرة، ويدفع كمهر للفتيات عند الزواج خاصة في الفلاحين، فازدهرت حينها فكرة “العقد الكهرمان”، وكذلك الخلخال والكردان”.

وتابع: عندما انقرض العقد الكهرمان بدأ الناس في الذهاب للأرياف كي يشتروا الكهرمان من سيدات الريف. فحينها لم يكن الكهرمان مطلوبا كمهر للعروس، فأصبح يصنع منه “سبح” لذلك أعدنا صناعته وشكلناه مرة أخرى وبعناه.

الحاج حمدي شعبان
الحاج حمدي شعبان
مفردة هامة

ويوضح أن صناعة السبح موجودة منذ آلاف السنين. فأول من اخترعوها كانوا الفينيقيون، وبعد ذلك توارثوا المهنة، وأغلى سبحة تناولها شخص كانت مع الملك فهد في السعودية، وكانت مصنوعة من الألماس الحر، فهذه كانت أغلى سبحة في العالم.

يضيف: السبحة تمثل مفردة هامة للكثير من المجتمعات الإسلامية، وهي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون “بدعة” كما روج البعض خلال الفترة الأخيرة، لأنها تذكرنا بالله دائما. حتى الشخص غير المتدين عندما يمسك السبحة وطالما وجدها بين يديه فسيسبح الله.

ندرة السبح

الأهم في هذه الصناعة عامل الندرة. إذ يتعطش السوق للأحجار النادرة دائما فكلما ندر الشيء كلما ارتفع سعره أكثر. ويقول شعبان: “هناك أحجار نادرة أصبحت غير موجودة في الوقت الحالي، لذلك حاولنا أن نقلدها. فثمرة الكوك يقال إنها صنعت منها ألواح سيدنا النوح عندما صنع سفينته، فهذه الشجرة قديمة جدا، وعندما اختفت الثمرة لفترة زاد سعر السبحة المصنوعة من الكوك.

لكن بعد أن عادت وتوفرت مرة أخرى، أصبحت السبحة الكوك في متناول الجميع. فهي محببة بالنسبة للكثيرين، لكن ما أود أن أقوله أنه بشكل عام الندرة هي ما تحرك تلك الصناعة، وهي ما تميز سبحة عن غيرها. فأي شيء نادر ويدوي يرتفع ثمنه، خاصة وأننا حاليا لا نستخدم الصناعات اليدوية إلا قليلا. فالماكينات أمات الصناعات اليدوية، لكن في نفس الوقت هذه الصناعات تزداد قيمة نظرا لندرتها أمام هذا المد التكنولوجي.

مأساة الصناعة

يستطرد شعبان: كانت اليد العاملة متوفرة في السابق ولم يكن هناك بطالة. أما حاليا فأصبحت الآلات تغنينا عن الكثير من الأفراد والعاملين في هذه الصناعة وهذه مأساة بالفعل. فورشة صناعة السبح كان يعمل داخلها حوالي 10 أفراد. وعندما دخلت الماكينات لم يتمكن هؤلاء من الاستمرار في الصناعة. وهذا هو الحال. فنحن نستخدم حاليا الطريقة اليدوية لكن بطريقة بسيطة جدا. كان يأتي إلينا بعض الأفراد، ومعه قطعة حجر نادرة، ويريد أن يصنع منها سبحة يدوية. ففي هذه الحالة نصنعها له بالطبع، وذلك لأن اليدوي يمتاز عن المصنوع بالآلات في العديد من الأمور.

فاليدوي له “روح” الصنايعي الذي بذل فيه جهده وهي تخرج بملمس أجمل وبشكل أفضل. وبالرغم من أن المكن يقبل عليه الناس، لكنه لا يمثل “قيمة”. ولو أتاني شخص وعرض عليّ شراء سبحة مصنوعة بالآلات، فأرد عليه حينها أنها لا تسوي شيئا، لكن عندما يأتي إليّ بسبحة قديمة، ففي هذه الحالة اشتريها منه.

خامات نادرة

ويتحدث شعبان عن ندرة السبح. فيقول: “هناك سبحة كنا نستقدم خامتها من مصنع ألماني، وقد اختفى المصنع لظروف الحرب هناك ولم يعد يعمل، فالذي اخترع تلك الخامات لم يطلع أحد على أسرار صناعتها. وبالتالي عندما بدأ الناس يستخدمونها في صناعة السبح ومع اختفاء المصنع وتوقفه، لم تعد هذه الخامات موجودة، وارتفع سعرها في العالم فأصبحت “نادرة”. لكني أعتقد بشكل عام أنه لم يعد هناك شيء نادر في مصر من الممكن أن نشتريه. فقد كان “السريحة” منذ زمن يذهبون للأرياف ويعرضون شراء الأشياء القديمة التي يمتلكها أهل الريف، فباعوا كل ما يملكونه لهؤلاء، وخرجوا من مصر، فاشترته الصين ودول الخليج، وجميع بلاد العالم، ولم يتبق شيء لدينا.

شيوخ الصنعة

يشير الحاج حمدي إلى غياب التنسيق خلال الوقت الراهن. ويوضح أنه منذ زمن كان هناك جمعية تابعة لمحافظة القاهرة كانت مسؤولة عن “صُنَع” خان الخليلي.

ويقول: “كان لكل صنعة “كبير” فمثلا كان والدي -رحمة الله عليه- هو شيخ خراطي السبح. وكان هناك شيخ للصدف. وشيخ للنحاسين وهكذا. لكن بعد ذلك تفككت هذه الجمعية بعد أن كان لها دورا كبيرا. فقد كانت تستورد الخامات من الخارج.

أما حاليًا فنحن نعتمد على “المحلي” ولم يعد هناك جهة معنية بمخاطبة الجهات الأجنبية لاستيراد هذه الأمور. فعندما أردنا استيراد خامة السبح الألمانية لم نستطع نظرا لغياب التنسيق. فأنا لو أردت استقدام أي شيء من الخارج فألجأ إلى ناس عاديين قادمين من الخارج، ويجلبوا لي ما أريده من أحجار. وهذا كان دور الجمعية التي كانت تقوم به إذ كانت تستجلب صدفًا من اليابان، وخامات السبح من ألمانيا، وكانت تجارة “السن” مسموح بها فكانت تستورد “سن الفيل” من إفريفيا.

عقد كهرمان
عقد كهرمان
وضع راهن

ويقول شعبان: “دخلت الآلات الحديثة في تلك الصنعة. إذ كانت في الماضي تتم بشكل يدوي، حاليا نستخدم المكن الذي بالطبع “سهل” الصنعة بالنسبة لنا. فهناك خامات بعينها كان يصعب صناعتها على الآلات القديمة، مثل حجر “العقيق” الذي كنا نستورده من اليمن، فكان من الصعب تصنيعه لكن خلال الوقت الحالي أصبحت عملية تصنيعه أسهل نظرا لاستخدام وسائل تكنولوجية حديثة”.

وتابع: أضف إلى ذلك كافة الأحجار الكريمة التي نستوردها مثل العقيق والمرجان، وكذلك الأحجار الجديدة كأحجار الطاقة والأكوا مارين. فصناعة السبح وتشكيلاتها أصبحت متنوعة، بفضل الآلات الحديثة. إذ تأتي إلينا حاليا الشعاب المرجانية من البحر ونصنعها، وتدخل ضمن هذه الصناعة. ونصنع منها سبح نسميها “اليسر” التي كانت تصنع قديما في مكة المكرمة، وتسمى سبح “يسر مكاوي”.

لكن خلال الوقت الحالي اختفى هذا النوع، وبدأنا صناعته مرة أخرى بواسطة الشعاب المرجانية التي نأخذها من الأماكن “المسموح بها”؛ ونصنعه باستخدام الآلات الحديثة. والتي مكنتنا أيضا من صنع سبح من “كوارع” الذبيحة. فنأخذ عظام الأرجل المتواجدة في الذبيحة ونقطعها بطريقة عرضية وطولية، ونصنع منها السبح. وهي طريقة بديلة عن استخدام “سن” الفيل الذي كنا في الماضي نستخدمه في هذه الصناعة. لكن أصبحت التجارة فيه محرمة دوليا، ونتيجة القوانين الدولية التي وضعتها المنظمات الدولية، أصبح “العضم” هو البديل المتوفر.

سبحة من الكهرمان
سبحة من الكهرمان

يضيف: هناك سبح مصنوعة من الصدف. وفي الوقت الحالي هناك مادة اسمها “البوليستر” فهذه المادة تحديدا عندما يتم صبها في قوالب زجاج شبيهة بـ”اللمبة النيلون”. وبعد أن تصب المادة يتم تكسير الزجاج ويصنع منه سبح في النهاية. فهذه العملية تتم بشكل يدوي. وخلال الوقت الحالي دخل مجال “التطعيم” في السبح. فاليسر نطعمه وكذلك الخشب، بواسطة الفضة والنحاس وغيرها من المعادن. وهناك من يكتب أسماء الله الحسنى على سبحته وكلها أشياء تتم بشكل يدوي بواسطة الحرفيين المتخصصين. وحاليا يتم استخدام العطارة داخل هذه الصناعة. إذ يتم استخدام أنواع من “العطارة” مثل القرفة، ويتم كبسها بطريقة معينة، إلى أن تصبح “خامة” ويتم في النهاية تقديم سبحة برائحة “القرفة”، وكذلك النعناع والجنزبيل، فهذه هي الاختراعات الحديثة التي دخلت في الصناعة.

حالة كساد

ينهي الحاج حمدي شعبان حديثه عن إغراق السوق بالسبح المستوردة من الصين والمصنوعة من البلاستيك بخامات رديئة. ويقول: “هذه المنتجات لا تزعجنا أبدًا ولا تؤثر على هذه الصناعة أبدا. لأن كل شيء له زبون معين، فهناك من هم ورثوا سبحهم من جدودهم. وقد توارثوها. فهؤلاء لهم تذوق معين في السبح، ولا يشتروا أي سبحة. إذ يتطلعون دائما لشراء السبح القيمة، لكني أود أن أشير إلى أن هذا الزبون لم يعد موجودا كما كان من قبل، فأغلب الناس في الوقت الحالي يمسكون بسبح “رخيصة”.

وبشكل عام لن يتخلى الناس أبدا عن السبح ليس في مصر فقط بل في كل أنحاء العالم. فالشخص اليوناني يمسك السبحة، والشخص الأسيوي كذلك. وهناك حالة “حب” من جانب الناس بالنسبة لهذا الشيء الذي يمثل لهم الكثير. ونتيجة للطلب الكثير على هذه الصناعة فنحن نبتكر أساليب جديدة وخامات جديدة لصناعتها.

وتابع: بشكل عام ونتيجة ظروف كورونا فنحن نعاني من حالة كساد. ليس في مصر فقط بل في كل أنحاء العالم، فالرزق على الله ونحن نعمل، ونجاري متطلبات العصر كي تستمر صناعتنا التي توارثناها عن جدودنا. لكننا نحتاج إلى السياحة بشكل كبير فقد تأثرنا بفترة كورونا كثيرا. ففترة الثورة نفسها لم تؤثر علينا مثلما حدث خلال تلك الفترة، فقد فعلت بنا كورونا ما لم تفعله الحروب العالمية نفسها.

اقرأ أيضا

أمين حداد في ندوة “البشر والحجر”: هكذا أثرت القاهرة على أشعار فؤاد حداد

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر