دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

المحو مستمر: هدم قبر أحمد شوقي والإزالة تهدد الشيخ رفعت

يوم حزين مر على محبي تراث القاهرة وتاريخها العريق، بعدما أزال البلدوزر الحكومي ضريح أمير الشعراء أحمد شوقي، في جريمة جديدة تضاف لسلسلة الجرائم التي ترتكبها الحكومة بدم بارد وتصريحات مضللة ضد التراث المصري، مع تواصل الهدم الحكومي العشوائي لجبانات القاهرة والمستمر على مدار خمس سنوات، سقطت خلالها العديد من الأضرحة التراثية والتاريخية التي لا تقدر بثمن، فضلا عن انتهاك نسيجها العمراني والتاريخي، ليبدو أن بلدوزر الهدم قد اختار هدفه الجديد ممثلًا في مقبرة ضريح إمام المقرئين الشيخ محمد رفعت.

أثناء انشغال المصريين بمشاهدة مباراة منتخب مصر ضد زيمبابوي في كأس الأمم الأفريقية الاثنين 22 ديسمبر الجاري، انطلق البلدوزر الحكومي تحت جنح الليل وصخب المقاهي الساهرة حول شاشات التلفاز، لتنفيذ حكم الإعدام على مدفن كريمات المرحوم حسين باشا شاهين والذي بني العام 1336 هجريًا/ 1918 ميلاديًا، وهو المدفن الذي دفن فيه أمير الشعراء بعد وفاته العام 1932، إذ أن زوجته خديجة شاهين هي إحدى بنات صاحب المدفن.

قرار الإزالة النهائي جاء بعد خطوات من التضليل الحكومي في تصريحات متتالية أكدت أن لا مساس بقبر أهم شاعر مصري وعربي في العصر الحديث، ففي 29 أغسطس 2023، أصدرت محافظة القاهرة بيانًا رسميًا عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك جاء فيه: “تنفى محافظة القاهرة ما يتم تداوله عبر المواقع الإخبارية وصفحات السوشيال ميديا بشأن إزالة مقبرتي الإمام ورش صاحب إحدى القراءات السبع للقرآن الكريم، وأمير الشعراء أحمد شوقي ضمن أعمال التطوير التي تجرى بالمنطقة. وتؤكد محافظة القاهرة أن ما يتم تداوله بهذا الشأن عار تمامًا من الصحة. وتهيب محافظة القاهرة بجميع وسائل الإعلام ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تحري الدقة والموضوعية في نشر الأخبار، والتواصل مع الجهات المعنية للتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها”.

***

وغني عن الذكر أن هذا البيان لم يكن أكثر من محاولة لتهدئة الرأي العام وتضليله، إذ تم إزالة قبل الإمام ورش قبل عدة أسابيع، ثم اكتملت الجريمة التراثية بهدم قبر أحمد شوقي، والأخير تعرض لخطط استنزاف طويلة استغرقت نحو ثلاثة أعوام، ما يؤكد النية المبيتة والواضحة لهدمه، ففي البداية هاجم مجموعة من المجهولين مدفن كريمات حسين باشا شاهين، دمروا تركيبات مقابر الأسرة، بما فيها تركيبة قبر حسين بك شاهين، وذلك في أغسطس 2023، وهي الجريمة التي كشفها الموثق الشاب للجبانات محمد عبد الملك، والذي حفظ بعدسته أثر الهجوم البربري وقتذاك.

بعدها تم إزالة جميع المقابر في خط مقبرة شوقي الموازية لطريق صلاح سالم بداية من عند جامع السيدة عائشة حتى انعطاف الطريق جنوبًا بشرق، ثم يمينا بالتوازي مع سور مجرى العيون، وتم ترك مدفن كريمات حسين بك شاهين وحدة ينعي الوحدة والزمن الذي مزق صحبته كل ممزق، وتركه وحيدًا ينتظر المصير الأسود، والذي تأكد عندما تم نقل رفات أحمد شوقي إلى جهة غير معلومة في يونيو الماضي، الأمر الذي تحدثنا عنه في مقالة سابقة، لتحسم هذه الخطوة مصير المقبرة، ويصبح قرار الإزالة قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ.

وبالفعل وبعد ثلاث سنوات من المراوغة الحكومية، والتي شهدت تصريحًا شهيرًا لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي، في أكتوبر 2024، بشر فيه بالتوقف عن استهداف المقابر، تم تنفيذ الجزء الثالث والأخير من الجريمة بإزالة المدفن بشكل كامل، ولشعور المحافظة بالذنب سارعت للخروج بالقول إن رفات شوقي نقل إلى “مقابر تحيا مصر للخالدين” بمنطقة عين الصيرة، والتي أقامتها الدولة خصيصًا لنقل رفات الشخصيات التاريخية التي أثرت في حياة الوطن، بمكان يليق بما قدموه لبلدهم، لتتنكر المحافظة لتصريحها الرسمي السابق قبل سنتين بأنه لا مساس بقبر شوقي.

***

كان للحظ دوره في أن ألتقط بعض الصور للمدفن من الخارج قبل هدمه بأيام قليلة وتحديدًا يوم الجمعة 19 ديسمبر الجاري، كأنها الوداع الأخير له، في ظل إصرار حكومي على تبديد تراث مدينة ألفية مثل القاهرة، وهدم تاريخها وحذف أحد أهم مكونات نسيجها العمراني والتاريخي، بلا هدف تقريبا باستثناء إنشاء مجموعة من الطرق والكافيهات والمطاعم، والتي لا تقارن بما تم محوه من ذاكرة للمصريين المعاصرين وما تم هدمه من معمار نادر فريد، وطمس تجارب المصريين في الدفن خلال العصر الحديث، لنكون شهداء على أكبر جريمة تراثية في حق القاهرة التاريخية في العصر الحديث كله.

مقبرة شوقي فبل الهدم- تصوير حسن حافظ
مقبرة شوقي فبل الهدم- تصوير حسن حافظ

ويبدو أن بلدوزر الهدم قد انفلت من عقاله، وبات يتابع رموز مصر يهدم قبورهم ويمحو ذكراهم، فبعد محو أحمد شوقي وهدم قبره ونقل رفاته إلى مخازن الخالدين، جاء الدور على شيخ المقرئين محمد رفعت الذي توفي العام 1950م، ويقع قبره بترب السيدة نفيسة في مسار الهدم الذي أطاح بمئات المقابر خلال الأشهر القليلة، وناشدت أسرة رفعت مباشرة رئيس الجمهورية بالتدخل للإبقاء على قبر كروان القرآن الكريم دون مساس، إلا أن النية  الحكومة مبيتة لإزالته بل يمكن القول إنها أصبحت مؤكدة بعدما خرجت علينا محافظة القاهرة مرة أخرى وأكدت أن لا نية للمساس بمقبرة الشيخ محمد رفعت، وهو نفس مضمون التصريح الذي أطلقته المحافظة قبل أن تهدم قبري شوقي والإمام ورش، لذا يمكن القول إن قبر الشيخ محمد رفعت في طريقه للزوال هو الآخر بناء على تكنيك تصريحات المحافظة في النفي ثم الهدم.

نفي محافظة القاهرة في 2023 لهدم مقبرة أمير الشعراء- الصفحة الرسمية لمحافظة القاهرة
نفي محافظة القاهرة في 2023 لهدم مقبرة أمير الشعراء- الصفحة الرسمية لمحافظة القاهرة
***

ويبدو أن نفس الأسلوب الذي اتبع في استهداف قبر شوقي حتى هدمه هو نفسه المستخدم في استهداف قبر محمد رفعت، فقد أثيرت أنباء هدم قبر المقرئ الشهير في منتصف العام 2023 لأول مرة، الأمر الذي أثار موجة من ردود الفعل الغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أجبر محافظة القاهرة على التراجع خطوة، والتصريح بأن لا مساس بقبر رفعت، لكن يبدو أن هذا التصريح لم يكن إلا وسيلة لامتصاص الغضب العارم، وإن ظلت الخطة محل تنفيذ كما هي، فهل تنفذ محافظة القاهرة الخطوة التالية وتهدم قبر رفعت كما فعلت في سيناريو هدم قبر شوقي؟ نظن أن الإجابة ستكون بنعم، فالحكومة تبدو مصرة وعازمة على هدم جبانات القاهرة التاريخية التي يعود عمر بعض مكوناتها لـ 1400 عام، فلا تراث يعنيها ولا تاريخ يشغلها فقط بعض العوائد السريعة من أنشطة استهلاكية فارغة من أي مضمون إلا المال.

نحن نتحدث عن أهم شاعر مصر في آخر ألف سنة، وأهم مقرئ للقرآن الكريم في العالم الإسلامي، وكان لازمًا على الدولة أن تسارع ممثلة في وزارة الثقافة ووزارة الأوقاف إلى تسجيل المقبرتين كأثر لأهميتهما للتراث المصري وذاكرة البلاد الثقافية، لا أن يتم تدمير مقبرة شوقي، ونزع رفاته من سياقها العمراني والإلقاء بها في مقبرة لقيطة عشوائية الطراز، ويهدد قبر رفعت بالمصير ذاته، لتتضاعف خسارتنا في ظل مسلسل استنزاف الذاكرة الثقافية لمصر على وقع صوت البلدوزر الذي يطيح بمقابر عظماء الأمة ورموزها الأدبية والثقافية، فعلى ما يبدو لن يكون أحمد شوقي الأخير في مسلسل شديد القسوة والألم يهدد بمحو الذاكرة الإبداعية لدولة أسست حضورها في محيطها العربي على ميراث هؤلاء الرموز الثقافية، التي تسارع الحكومة بإزالة قبورهم الآن بلا ذرة خجل.

اقرا أيضا:

جبانات مصر التاريخية هي «مزار الخالدين»

وداعًا ترب السيدة نفيسة.. دهسها البلدوزر الحكومي

اختفاء الأثر.. «الإبادة التراثية» تتوسع في جبانات القاهرة

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.