«أسيوط».. الحضارة وامتدادها

في محافظة أسيوط يمكنك أن تغوص في عمق التاريخ المصري وصولا إلى أصله الذي نشأ منه. فهنا بدأت الحضارة المصرية في قرية تعرف اليوم باسم دير تاسا، كما عرفت حضارة البداري، الحضارة المتأصلة في جذور التاريخ والتي يعود تاريخها إلى قبل عصر الأسرات بأكثر من ألف عام. وأصالة تلك الحضارة تلمحها في القرى والنجوع فيها، علامة هنا وعادة حفظت هناك، كفيلة بأن تثبت لك هذا الأمر بعمق بالغ.

مقابر مير

على مقربة من مركز القوصية تقع قرية مير، وهي إحدى القرى الشهيرة في المحافظة التي تحتفظ بعدد من المقابر المنحوتة باحترافية بالغة، فهنا دفن حكام إقليم القوصية، الإقليم الرابع عشر من أقاليم مصر العليا في الدولتين القديمة والوسطى. من بين تلك المقابر مثلا مقبر ني عنخ ببي، ويي عنخ من الأسرة السادسة، ومقابر آخ حتب وسابني من الدولة الوسطى. تتميز تلك المقابر دون غيرها بنوع مبهر من الفن، منها مثلا ما كان بغرض التندر والسخرية، وكأنها رسومات كاريكاتيرية. لكنها أيضا تبرز بعض القيم الأخلاقية في التاريخ المصري، مثل هذا المنظر في مقبرة أوخ حتب ابن سنبي حيث رسم عازف الناي وهو يدير وجهه في الاتجاه المعاكس لزوجة صاحب المقبرة، لكي لا يراها وهي جالسة.

المدهش في الأمر أن تلك المقابر تعتبر نزهة لأهل محافظة أسيوط في شم النسيم، حيث تجد مئات الناس من أهالي أسيوط يحتفلون بهذا العيد في أحضان الجبل كأنه اتصال بين الماضي والحاضر. وهو ما يعكس طبيعة الانتماء إلى الماضي عند أهالي القرى أكثر من أهل المدينة الأم في أسيوط. فمثلا في ديروط الشريف عرفت صناعة الفخار، وهي إحدى الصناعات الوظيفية في الصعيد وليست سياحية كما عرف عنها في القاهرة، يستعمل الناس أواني الفخار في الأكل والطهي، كعادة ورثها الناس هنا من آلاف السنين بالمعنى الحرفي للكلمة.

بني عديات

في محافظة منفلوط تقع على الأطراف قرية أطلق عليها اسم بني عديات، الاسم المشتق من بني عدي إحدى القبائل العربية التي سكنت الصعيد. يطلق عليها بعض الأهالي هنا اسم منارة الصعيد، لكثرة ما تخرج منها من علماء الدين الأزاهرة، ولاهتمامهم بتعلم الدين وأصوله. لكن القرية التي تعيش بالقرب من الصحراء، تشهد ملامح متأصلة في التاريخ جعلت من تعلقها بالماضي أمرا مثيرا للاهتمام والاستكشاف. فالقرية التي ما زالت تحتفظ بعدد كبير من البيوت القديمة ذات الأبواب الخشبية الأنيقة والشوارع الضيقة حافظت فيما بينها على عادات بين السكان متأصلة وصناعات قديمة ورثتها الأجيال حتى باتت تعرف باسمهم.

أثناء مرورك داخل القرية، تلمح على مدخلها لوحة من الفسيفساء، صُنعت بأيدي عمال من القرية التاريخية، تمثل تلك اللوحة ملحمة القرية الخالدة ضد الحملة الفرنسية. ففي يوم 18 إبريل سنة 1799 ميلاديا، تصدى الأهالي في القرية بأسلحة بدائية للحملة الفرنسية التي كانت تستهدف أسيوط، راح ضحية هذا اليوم الملحمي مئات الشهداء في القرية. وهو ما ينعكس على كثرة ما دفن في مقبرة القرية.

قاد الشيخ حسن الخطيب الجموع في القرية والقبائل العربية الأخرى التي ساندته ضد الفرنسيين، القوات التي كان يقودها الجنرال دافو. استطاعت القرية في بادئ الأمر أن تصد الحملة الفرنسية عن الدخول إليها بجدارة شديدة وبأسلحة تبدو للوهلة الأولى وكأنها لا تجدي نفعا. لكن في نهاية الأمر أضرم الجنود الفرنسيين النيران في بيوت القرية بعنف شديد. وهو ما جعل مسألة السيطرة على القرية بعد ذلك بالأمر الهين والسهل. اتخذ يوم 18 إبريل بعد ذلك يوما وطنيا لمحافظة أسيوط كلها. ولا يمكن لأي شخص هنا أن يجهل مثل تلك القيمة التي رفعت وعززت من شأن القرية أكثر وأكثر. فبات أهلها يفتخرون بهذا الأمر في كل مناسبة.

الساري العدوي

هنا في القرية يرتدي النساء مثلا لباسا متطابقا ومثيرا للانتباه، وهو ما يطلق عليه اسم الساري العدوي أو الملس. وهو عبارة عن ثوب فضفاض خامته من القماش المصبوغ أو خامة الحرير يتم تطريزه بخيط من القطن أو الحرير. أصبحت العادة هنا في القرية منذ سنوات طويلة على أن يرتدي النساء هذا الساري منذ سن الخامسة عشر حتى الممات. يلبس هذا الساري بشكل إجباري داخل حدود القرية فلا تكاد تلمح سيدة تمر من هنا أو من هناك إلا وترتدي هذا الساري، لكنهن يكتفين بعباءة سوداء معروفة في الصعيد حين يخرجون من القرية.

لا يوجد تاريخ محدد لتلك العادة التي جبلت النساء عليها، والرجال كذلك، فهم أصحاب الشأن الأول والرئيسي في تحديد نمط المجتمع الذي يعيشون فيه. لكن تبدو الأمور وكأنها متوارثة منذ عشرات الأجيال. الساري هنا في القرية أصبح من علاماتها المتميزة التي يتحدث عنها أهلها بافتخار شديد بينهم وبين أصحاب القرى الأخرى في الصعيد، فيما تعرف القرية عند أي حديث بتلك العادة.

صناعة الكليم

يقولون “الشاطرة لما تهرش هرشة تطلع فرشة”، وهو مثل يعبر عن طبيعة العمل المنتشر فيها. فمعظم البيوت هنا تعمل نسائها في صناعة الكليم العدوي على المنوال الخاص في المنازل. حيث تضم معظم البيوت هنا في أحواشها الصغيرة والبسيطة منوالا خاصا بها تعمل عليه النساء من وقت إلى الآخر. إما لاستخدامهم الشخصي في المنزل أو لبيعه والاكتساب من وراءه سواء داخل القرية أو خارجها. يمكن ملاحظة هذا على الدكك والمصاطب التي تتصدر البيوت. ولكي تكتمل المنظومة بشكل كبير، يعمل الرجال في رعاية الأغنام، مصدر الصوف الرئيسي التي تصنع منه النساء الكليم. ثم يخصص له الرجال دكاكين خاصة ينظفون فيها الصوف ويصنعون منه خيوطاً تصلح لأن توضع على النول.

يمكنك أن ترى تلك العملية في القرية من بداية رعاية الأغنام داخل الحقول الزراعية. حتى النول الذي تقف عليه السيدات في المنازل، مرورا بدكاكين الصوف في الشوارع. صناعة الكليم في هذه القرية متوارث عبر الأجيال كذلك. وعرفت القرية بتلك العادة وتميزت بها في محافظة أسيوط بشكل كبير. حتى أن الكليم العدوي بات ماركة مميزة وعلامة على أصالته وإتقانه. فالنساء هنا جبلوا على صناعة الكليم صناعة متقنة إلى حد لا يوصف.

اقرأ أيضا:

«أسيوط».. أهل التجارة والموالد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر