دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«أسرار الهودج».. رحلة العرس البدوي بين التقاليد والهوية

في طقس زفاف يبدو الأقرب إلى «المراسم الملكية» في عرف البادية، لا يعلو فوق صوت الريح سوى «زغاريد» النساء وهدير الإبل. إنه «الهودج»، تلك القلعة الخشبية المزركشة التي تشق صمت الصحراء بخطواتها، حاملة في جوفها «الملكة» في رحلتها من بيت الأب إلى «خِدر» الزوج. رحلة شاقة ومبهجة في آن واحد، تعيد إلى الأذهان مواكب ملكات مصر القديمة. فالصحراء ليست مجرد رمال، بل «خزينة» للتاريخ الحي، والعرس السيناوي ليس مجرد فرح، بل وثيقة إثبات لهوية ثقافية عاشت في أروحنا علي مر التاريخ.

تبدأ الرحلة من اختيار «الراحلة»، وتنتهي بنحر الذبائح. رحلة نستعين فيها بثلاثة من حراس التراث، لنكشف كيف يتحول «الجمل» إلى «سفينة». وكيف يُدار هذا العالم بصرامة تفصل بين عالمي الرجال والنساء.

“الشينيل”.. هندسة القوة التي تحمل الأثقال

بدأت الرحلة من الجنوب الغربي، وتحديدا من محافظة الوادي الجديد. حيث التقينا الخبير الأول في هندسة الركائب، «عبد الحميد الشراري»، من قبيلة الشراري العريقة، الرجل الذي ورث مهنة “تجهيز الإبل” أبا عن جد. استقبلنا في “مربوعة” صحراوية جميلة، بينما كانت رائحة القهوة العربية بالهيل تملأ المكان، قائلا بنبرة من يعرف أسرار الدواب: «لا يصلح أي جمل لحمل الهودج. فالهودج ليس لعبة، بل حمل ثقيل ومسؤولية جسيمة».

يوضح الشراري: “نحن لا نختار أي جمل، بل نبحث عن مواصفات دقيقة لنوع محدد نسميه (الشينيل). وهو جمل يتميز بضخامة هيكله العظمي، واتساع الصدر، وقوة قوائمه، والأهم سنمه المرتفع والمكتنز بالشحم الصلب”.

 نصف طن فوق الظهر

اصطحبنا «الشراري» للاقتراب من جمله الخاص، موضحا تفاصيل لا يعرفها سوى جمالٍ يرث هذه المهنة جيلا بعد جيل. أشار إلى جمل ضخم يتجاوز ارتفاعه المترين، قائلا: “هذا هو الشينيل الذي يحمل الهودج بعد اكتمال بنائه، وإضافة الأخشاب، والأقمشة، والوسائد، ومتاع العروس (جهازها)، ثم تصعد العروس ووصيفتها. قد يصل الوزن الإجمالي إلى اكثر من 500 كيلو جرام. وقد تبلغ الحمولة في بعض الأحيان طنا كاملا”.

ويضيف أن هذا الحمل يسير فوق ظهر الجمل لمسافات قد تمتد من 20 إلى 30 كيلو مترا وسط رمال تغوص فيها الأقدام وتحت شمس حارقة. وهو ما لا يتحمله أي جمل آخر. إذ قد “يبرك” – أي يسقط- من شدة الثقل، وتعد تلك فضيحة لا تغتفر في عرف العرب. سواء في الواحات أو في سيناء.

هندسة دقيقة لا تحتمل الخطأ

أوضح عبد الحميد الشراري من قبيلة الشراري أن تركيب الهودج يمر بعملية هندسية معقدة، تبدأ بـ”الشداد”. وهي قاعدة خشبية تُصنع بعناية لتعانق سنم الجمل دون أن تجرحه. ثم تُبنى فوقها الأقواس الخشبية التي تشكل هيكل الغرفة.

ويقول وهو يشد أحد الحبال بقوة: “نستخدم أخشاب السنط القوية، ونربطها بجلود الإبل المبللة. التي تصبح بعد جفافها كالحديد، لا مجال للخطأ هنا، فأي اهتزاز قد يُرعب العروس”.

عمارة “الستر”.. حين يصبح الهودج قصرا

من عادات وتقاليد الواحات الاتجاه شمالا إلى سيناء، أرض الفيروز وحاضنة التقاليد البدوية الصارمة. حيث لا يعد الهودج مجرد وسيلة نقل، بل “قيمة اجتماعية”.

التقينا بالحاج “محمد سالمان”، أحد كبار السن الذين عاصروا أفراح “زمان”، ويعد مرجعا في العادات والتقاليد. وبعينين تلمعان بذكريات الشباب. قال: “كسوة الهودج يا ابنتي هي الستر. العروس عندنا جوهرة، ولا يجوز أن يراها أحد في يوم زينتها إلا زوجها”.

لذا يُغطى الهيكل الخشبي بأفخر أنواع الأقمشة. وكان يستخدم قديما “الكليم” البدوي المنسوج يدويا من صوف الغنم المصبوغ بالألوان الطبيعية، الأحمر للفرح، والأخضر للخصوبة، ولكل لون دلالته الخاصة.

زينة تحكي حكاية 

يُزين الهودج بالشراريب الملونة، والودع، والخرز الأزرق، درءا للحسد. ومن الداخل يفرش بأجود أنواع السجاد، وتوضع الوسائد المحشوة بريش النعام أو القطن الخالص، لتشعر العروس وكأنها في قصرها.

كما تُعلق الأجراس الفضية في زواياه، فتصدر رنينا موسيقيا مع خطوات الجمل. يسمعه أهل القبيلة من بعيد، فيعلمون بقدوم الموكب. ويؤكد الحاج محمد أن تجهيز الهودج مهمة النساء الخبيرات في القبيلة. وقد يستغرق العمل عليه أسابيع، تتخللها الأهازيج والأغنيات الخاصة بتجهيز “بيت العروس المتنقل”.

“محمد سليم” يروي بروتوكول الزفاف

هنا يأتي دور الخبير في التراث السيناوي محمد سليم، من أبناء شمال سيناء، ليشرح “البروتوكول” الصارم للفصل بين الجنسين، قائلا في حديثه لـ«باب مصر»: “الزفاف البدوي السيناوي عالمين متوازيين لا يلتقيان إلا في المشاعر. عالم الرجال وعالم النساء”.

فالرجال يجتمعون في “الديوان” أو “المقعد”. حيث تدار القهوة العربية، وتنحر الذبائح، ويمارس الرجال طقوس “الدحية” والسامر. مع إطلاق الأعيرة النارية تعبيرا عن القوة والفرح والحماية.

أما النساء، فلهن عالمهن الخاص حول العروس. حيث لا يقترب الرجال من الهودج أثناء المسير، باستثناء قائد الجمل، وغالبا ما يكون أخا العروس أو خالها، يسير ممسكا بالخطام دون أن يلتفت للخلف احتراما. وخلف الهودج تسير النساء، يغنين “المهاهاة” ويطلقن الزغاريد، مودعات رفيقتهن إلى حياة جديدة.

“الفدية”.. خاتمة الرحلة

يوضح خبير التراث: “هذا ليس تزمتا، بل نظام اجتماعي دقيق يحفظ للمرأة خصوصيتها ويصون عفتها، ويمنح الرجال هيبتهم. طالما أن العروس داخل الهودج لا يراها أحد حتى تصل إلى خيمة زوجها”. وهناك لا يُنخ الجمل (أي لا يبرك) إلا بعد أن يقدم والد العريس أو العريس نفسه ذبيحة تُنحر تحت قدم الجمل ترحيبا وفداء. وتعرف هذه العادة باسم “الفِدية” أو “العقيرة”.

الزفة السيناوي.. تصوير: هدير محمود
الزفة السيناوي.. تصوير: هدير محمود
الهودج.. وثيقة تاريخية عند عرب الواحات وسيناء

يشير خبير التراث السيناوي إلى أن الهودج يعد امتدادا حضاريا لمواكب مصر القديمة. لافتا إلى أن مشهد الهودج فوق جمل “الشينيل”، بزينته وألوانه، والموكب الذي يحيط به، لا يختلف كثيرا عن الجداريات الفرعونية التي تصور مواكب الملكات والمحفات المقدسة التي كان يحملها الكهنة أو تجرها الثيران المزينة. فالفكرة الجوهرية واحدة: “التقديس والاحتفاء عبر الرفع فوق الأعناق”.

ففي العصور القديمة، كان المصري يرفع مقدساته وملوكه ليكونوا أعلى من العامة. واليوم يرفع البدوي عروسه فوق سنام الجمل لتكون “سيدة الموقف”. خيط رفيع لكنه متين، يربط بين “نفرتيتي” في موكبها، و”بنت البادية” في هودجها.

الجمل سفينة الصحراء.. شهادة من كبار القبائل

يقول الحاج حسن الشراري، كبير قبائل الشراري في الوادي الجديد: “نحن ورثنا هذا عن أجدادنا، وأجدادنا ورثوه عمن قبلهم. الجمل هو سفينة الصحراء، وأصولنا وتاريخنا، والهودج هو شراعها. قد يتدخل التطور، لكن يظل الهودج هو الأصل والعرق. ومن لا تزف في هودج، في عرفنا القديم، فكأن عرسها ناقص”.

هل يختفي الهودج من أفراح العرب؟

عن مستقبل الهودج، أعرب الشراري عن قلقه إزاء هذا السؤال: هل سيختفي الهودج؟

تنهد الرجل بأسى شفيف، قائلا: “الدنيا تتغير، والسيارات الفارهة بدأت تأخذ مكان الجمال، والقاعات المغلقة حلت محل الخيام المفتوحة. الجيل الجديد يبحث عن السرعة والراحة. لكن ما زالت هناك عائلات وقبائل تتمسك بالهودج كجزء من هويتها وتراثها، حتى لو كان المسافة قصيرة، إحياءً لهذا التراث”.

واختتم حديثه مؤكدا أن الهودج “قد يغيب عن الأعين، لكنه لن يغيب عن الذاكرة، لأنه محفور في قصائدنا وحكاياتنا وتراثنا وأصولنا العريقة”.

اقرأ أيضا:

على مدار 4 أيام.. «الخارجة» تحتضن مهرجان الرياضات التراثية والفنون الدولية

بين الظل والرمال.. القصة الكاملة لـ«معبد بيريس» المفقود في الوادي الجديد

السينما في «الواحات».. حين تتحول الصحراء إلى استديوهات مفتوحة

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.