«الهركـّاك» ورمزية الإبل في الجنوب الشرقي لمصر

يحتل الحيوان مكانة مهمة في البناء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي عند القبائل الرعوية على وجه الخصوص، فأمره لا يقتصر على الوجود الفيزيقي فحسب، لكننا سنجده عنصرا متجذرا في عناصر ثقافته على تنوعها، لذا لا يمكن دراسة هذه القبائل والتعرف على ثقافتها دون معاينة رؤاها وتصوراتها عن الحيوان في عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وثقافتها المادية، فضلا عن تجذره في نصوصها الشفاهية شعرية كانت أو حكائية..

على أن الأمر لا يقف عند حد هذه التصورات – على أهميتها- بل يتجاوزه إلى منطقة أكثر اتساعا تتصل باستمرار ارتباط بعض الجماعات بطبيعة العلاقات الاجتماعية التي يقيمها أو يؤسسها نمط اقتصادي يعتمد على الحيوان، كالنمط الرعوي وما ينشأ عن ذلك من مركبات ثقافية، كذلك المركب المعروف في الكتابات الأنثروبولوجية باسم مركب الماشية Cattle Complex الذي يتمثل في اعتماد مجموعة من القبائل التي تسكن شرق إفريقيا، وضمنها قبيلة البجا محل الدراسة؛ فالقراءة الفاحصة لبعض مجتمعات الحدود ستضع أيدينا على أن السمة الغالبة لهذه المجتمعات أنها تخضع في حياتها للعنصر الإيكولوجي الذي يتضح تأثيره البالغ في ثقافتها.

رمزية الإبل

فعلى سبيل المثال؛ فإن هذه المجتمعات تشتغل بتربية الماشية والإبل، وإذا نظرنا إلى السكان الأصليين في شمال وجنوب سيناء حتى حدودنا مع فلسطين المحتلة أو في الشمال الغربي لمصر حتى حدودنا مع ليبيا أو في معظم مناطق شرق مصر أو في جنوبها الشرقي في حلايب أبورماد الشلاتين سنجدها تشتغل بتربية الماشية؛ حيث تعتمد هذه المجتمعات على الرعي والزراعة المطرية، لذا فهي مجتمعات يتحكم في ثقافتها “مركب الماشية”؛ حيث سنجد هيمنة لهذا العنصر الذي يمارس تأثيره بقوة على الثقافة السائدة، خاصة مع تزايد الماشية التي تمثل عصب الحياة؛ فهي التي تقدر وتدفع بها المهور، وتكون رمزا في الاحتفالات، وتعلى من مكانة الرجال والقبائل، وتكون سببا في الحروب والنزاعات بسبب الإغارة عليها، كما أنها تسهم في زيادة الهيبة وترسخ للسلطة كما يقول BEECH, MERVYN W. H.

فالماشية هي المصدر الرئيسي لطعامهم؛ حيث يتغذون على لحومها وألبانها ودمائها، كما أنها الوسيلة التي تتراكم بها الثروة وتحدد مكانة الفرد في قبيلته، كما تستخدم في الضبط الاجتماعي حال دفع الدية، كما يقدر بها مهر العروس، كما تستخدم في طقوس هذه المجتمعات في الميلاد/ السماية والأفراح والمآتم، كما تقدم كأضاح في المناسبات الدينية، وفي بعض المجتمعات الإفريقية تقوم غارات القبائل على الماشية بوصفها مصدر الثروة والقوة، وعند بعضهم يعد اختطاف الماشية نوعا من البطولة التي تؤهل الشباب للتكريس في طبقة المحاربين، ويعد ذلك من قبيل طقوس العبور من مرحلة عمرية لأخرى، ومن جلود الماشية تبنى البيوت، كما نرى في بيت الشعر أو بيت البرش أو الخيام، كما تقوم عليها مجموعة من الفنون كالتزيين أو صلاة الجمال.

كما سنرى في مجتمعات البشارية والعبابدة، وتوضع عليها ومن خلالها علامات الوسم التي تميز قبيلة عن أخرى، كما تنتشر حولها مجموعة من العادات والتقاليد والأغاني، وهو ما يتأكد لنا في معظم المجتمعات التي يهمن عليها مركب الماشية، وسنلحظ ذلك في أغاني وأشعار وحكايات العبابدة والبشارية لجمالهم ونوقهم، ومثالها الواضح: أغاني الهركاك، كما أن الماشية تفرض على هذه المجتمعات حركتها وراء الكلأ؛ بل تحدد طريق الرحلة، ومواطن الاستقرار المؤقتة حسب حالة الجفاف أو المرعى.

“إن المصدر الأساسي لتصورات الجماعة الشعبية حول الحيوان يظل هو المصدر المادي، أي وجود الحيوان في الطبيعة، مشاركا – أو شبه مشارك- بيئيا للإنسان، بحيث نطمئن إلى أن رافدا آخر لهذه التصورات لا يكاد يعدل هذا المصدر في قيمته وفعاليته في تشكيل هذه التصورات… وخلاصة ما نقصد إليه هنا هو أن التصورات الشعبية المتصلة بالمفردة الحيوانية تكتسب قدرتها على الاستمرار والتوالد، والتكاثر والتشجر والتجلي المتكرر المتنوع في الممارسة الاعتقادية والعملية الفنية من خلال واقعية هذه المفردة، وتعينها الفيزيقي، أو بمعنى أدق استمرار وقوع المفردة في الحيز البيئي المنظور أو الملموس أو المدرك للجماعة الشعبية”.

في هذا المعنى يمكن مراجعة عدد من الكتابات المهمة/المؤسسة، منها: أحمد أبوزيد، البناء الاجتماعي، المفهومات – محمد أحمد غنيم، العرب الرحل في مصر، دراسة أنثروبولوجية لبعض جماعات البدو بمحافظتي الدقهلية ودمياط، – صلاح الراوي، الحيوان في الشعر البدوي، فحياة قبائل البجا ترتبط بمجموعة من الحيوانات التي تتجلى في أشعارها بشكل متكرر، بحيث تتحول هذه الحيوانات إلى علامات ورموز دالة، ولعل أكثر الحيوانات انتشارا داخل النصوص هي الإبل، على اختلاف أنواعها وحالاتها، وأسمائها.

وقد استطعنا رصد بعضها من خلال النصوص المجموعة ميدانيا ومنها: “أبوروج”، اسم من أسماء الجمل الأصيل- “الإلاى”، نوع من الإبل يتميز بلونه أصفر- “البكيره، البكرة”،.. يقولون “يا بكيرة البشارى”، يقصدون ناقته البكرة البكر، والبشارى أحد أفراد قبيلة البشارية، والمجاز هنا يشير إلى القبيلة بأكملها، بما تمتلك من نوق قوية، والشاعر هنا يرمز إلى الأنثى البكر، (لاحظ أن الشاعر من قبيلة العبابدة) – “البناقير؛ البناجير”- تنطق القاف جيما- الجمال السريعة القوية التي تجاوزت مرحلة الصغر ووصلت إلى عنفوان شبابها- “الشعيلى”، ناقة حمراء اللون، ولعلها مشتقة من: أشعل – يشعل – شعلة لارتباط لونها بلون الشعلة في احمرارها- “الهركاك” اسم لنوع من الجمال القوية النادرة، غالية الثمن، ويطلقون عليه أيضا اسم: الجمل الضاوى، وتدور حول هذا النوع مجموعة من الأغاني الغنية بالعناصر الأسطورية.

أغاني الهركاك

وأغاني الهركاك كثيرة في المنطقة لدرجة أن هناك نوعا من الغناء يسمى “هركاك”، كما تكتسب الأمل أسماء لها حسب حالاتها؛ فيقولون: الهاجعة للإبل الباركة، والهمل للإبل التي ليس لها راع، وهى تعنى الإبل التي أهملها صاحبها، وقد بلغت دقة الوصف عند البشارية للدرجة التي يطلقون عليه اسما مع كل مرحلة عمرية، فعند الولادة يقال له: هيواب، وفي السنة الأولى: شوباؤر- السنة الثانية: البلابون – الثالثة: هيئيب – الرابعة: همشكوريب- الخامسة: ملاكوديب- السادسة: فدجيغاتيب– السابعة: الساقرناتيب- الثامنة: شقيل- التاسعة: قلواب- العاشرة: كام، وهي السنة التي تكتمل فيها أسنانه، ويصبح جملا كاملا في كل شيء. ولمزيد يمكن مطالعة كتاب الحرف الشعبية في مثلث حلايب.

اقرأ أيضا

قصائد قبائل «البجاوية».. أشعار البطولة تنحت أسماء الجدود على صخور الجبال

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر