رسائل الـ SMS الرمضانية بين الشعبية والفردية

من الظواهر الرمضانية رسائل الـ SMS حيث يأتي رمضان حاملا الرسائل، يجددها، يحشوها أحيانا بالبليغ من الكلمات، كما يتخمها في أحايين أخرى بالزخارف اللغوية الفضفاضة. فمن رسائل الدول لبعضها والقادة حين يباركون أقرانهم، والشعوب حين تلف حزنها في عبارات التهنئة انتظارا لكرم إلهي قد يأتي به الزمن. فمن الرسائل الشفوية التي تتواتر لتصير صكا محفورا في روح الجماعة الشعبية ووعيها: رمضان كريم.. الله أكرم.. ومن الدعوات بالخير والصحة والعافية والسعادة إلى العبارات الفكهة والساخرة، ومن الفصيح إلى العامي.

ومن العبارات التي تتسلح بالإيقاع إلى الجمل المنثورة يتشكل ميراث الرسائل في ثوبه الجديد. فتحتل رسائل sms الهواتف المحمولة ويزيد رصيدها فتتشكل وتتنوع في عدد هائل، بعضها مصدره ديني، وبعضها اجتماعي، وتكثر التصانيف فنجد منها على المستوى المضموني : العام، الفولكلوري، السياسي، الاجتماعي.. إلخ. وعلى المستوى اللغوي سنجد منها: الفصيح وهو الغالب، والعامي. وعلى مستوى التدوين سنجد تنويعات متعددة منها: الكتابة الاعتيادية بالأحرف العربية (الرائعون كالأحجار الكريمة لا نصنعهم ولكنا نبحث عنهم في المناسبات السعيدة رمضان كريم) – الكتابة بالأحرف الأجنبية (Happy Ramadan to  you and your  family)– الرسائل المصورة –  الرسائل الجاهزة والمصممة للمناسبة – الرسائل الأيقونية (أهنيكم كــ(على)ـل عـ(قدوم)ـام وأ(شهر )ـــــنتم  بخــــ(رمضان)ــــــير).

**

إن الوسائط الحديثة قد خلقت مجالا بكرا لإبداع أنماط جديدة من الرسائل، وبالتالي تحقيق طرائق من الاتصال بعضها لازال يحمل القيم الشفوية رغم تدوينها، وبعضها الآخر يعتمد الكتابية (نسبة للكتابة) بوصفها رسالة للعين لا صوتا موجها للأذن. وإذا كانت العبارات المتواترة لازالت قادرة على التأثير في المستمع الذي بتناقلها فتستقر بالتواتر حين تعلق بالأذن إحدى بوابات الوعي الشفاهي، فإن الكتابة بدأت تهيمن على مجالات الاتصال بين البشر، لكن الشفاهة في عالمنا العربي لازالت تمارس فاعليتها بقوة.

حيث يؤكد والتر أونج في كتابه (الشفاهية والكتابية) أن حاسة السمع أكثر الحواس كفاءة مقارنة بالحواس الأخرى من حيث مسئوليتها عن عملية الاتصال الجماعي، فحاسة السمع لها قدرة استقبالية لا تبلغ مداها أي حاسة أخرى، فهي تستقبل، دون عناء، الأصوات القريبة والبعيدة وكذا الأصوات السطحية وذات العمق، بل كل الأصوات مع اختلاف درجاتها، وحين تصب في الأذن صبا فإنها تجعل الإنسان على صلة بالعالم الذي يحيط به، فضلا عن إدراكه للغة الجسد حين تصاحب العبارة. من هنا نستطيع التأكيد على أن بعض العبارات رغم تدوينها وإرسالها في المناسبات الاجتماعية المختلفة ومنها رمضان لم تبرح شفويتها بعد. فالتدوين لم يحولها من موقعها الشفاهي لموقع الكتابة، لأننا حين نقرأها نستدعى معها الصوت والحركة والسياق الاجتماعي الذي كرسه واستقر عليه الوعي الجمعي.

**

إن موضوع رسائل المحمول التي يمكن تخزينها تمثل ذاكرة في طريقها للاستقرار، لكنها قابلة في الوقت ذاته للتعديل والحذف والإضافة دون الرجوع للجماعة لتقرها بالتواتر وتقيس مضمونها مع منظومة القيم والعادات والتقاليد التي ترصف طريقها. من هنا يمكن وصف عدد كبير منها بالفردية، ويثور السؤال عن الفروق بين فردية التعبير وجماعيته، بين الإبداع الخاص والإبداع الشعبي، وهو السؤال الذي تتلعثم أمامه مجموعة من الإجابات عند الحديث عن الأنواع الإبداعية المستقرة في الأدب الشعبي، فما بالنا بنوع جديد على الدرس الأدبي.

لذا فإن هذه الرسائل تفتح بابا جديدا للدرس السيسو لغوى وبالتالي للدرس الفولكلوري، ومنه لدراسة الصيغ المستقرة التي أصبحت متواترة طارحة السؤال حول فولكلوريتها. كما تطرح أسئلة حول الاستلهام والتوظيف لعناصر فولكلورية تتداخل مع العناصر الدينية الرسمية مستندة إلى تراث هائل من العبارات الشفوية ومعتمدة على عدد من المأثورات الدينية التي ارتدت حلة الشعبي تاركة بطون الكتب لتصير عبارة أو مثلا على ألسنة الناس. لذا فإن هذه الإطلالة تحاول أن تصنف بعض هذه الرسائل طارحة بعض الأسئلة حول التحول الذي جعل من رسائل المحمول أساسا للتهنئة مخليا مساحة ليست واسعة للعبارات الشفوية التي ظلت الجماعة الشعبية ترددها طويلا.

**

فما مدى فولكلورية هذه العبارات، وهل التواتر الكتابي سيحول بعض العبارات بالتناقل والإيمان بفحواها إلى نص شعبي، أم أنها ستظل عبارات مأثورة خرجت من الكتاب للهاتف المحمول وحسب. ولنتأمل بعض العبارات التي استطعت جمعها من خلال الرسائل المرسلة لي شخصيا أو من خلال هواتف بعض الأصدقاء:

  • الدعوات بالخير والصحة والسعادة.
  • اسأل الله أن يبارك لك في شعبان ويبلغك رمضان وكل عام وأنتم بخير.
  • كل عام وإحنا جميعا بألف خير.
  • كل عام وأنتم بأتم صحة وخير عافية.
  • رمضان كريم وكل عام وأنتم والأسرة الكريمة بخير وصحة وسعادة.

هكذا تتنوع صيغ الرسائل لكنها تركز على تمنى الخير للمرسل إليه، سواء كان خيرا مطلقا أو متمثلا في جدية العمل أو الدعوات بالصحة والسعادة التي تأتى صريحة في معظم الحالات أو الدعوة بأن يبعد الله الأحزان عن المرسل إليه. وغالبا ما تكون الرسالة قد وردت بنصها للراسل فأعاد إرسالها لأحبته وأصدقائه وزملائه في العمل، وإن اختلفت صيغ بعض الرسائل حين يرسلها رئيس لمرؤوسيه أو حين يرسلها مرؤوس لرئيسه أو حين يرسلها القرين لقرينه، وهو ما يتبدى في عدد من الرسائل.

**

وهذه الملاحظة بحاجة إلى جمع عدد أكبر من الرسائل مع التعرف إلى مصدرها وحركتها في سلم التراتب البشري. كما تتنوع الرسائل ـ تجمع بين الفصحى والعامية ـ بين تمنى الخير للجميع لتضم الراسل والمرسل إليه. بل تضم من لم ترسل إليه الرسالة أصلا “كل عام وإحنا جميعا بألف خير” وهي رسالة موجزة وبليغة في آن واحد، وتنتشر صيغ الجمع في الرسائل سواء على مستوى المفردات أو الضمائر، لكن ضمير المخاطب في بعضها فردى، وتتسع بعض الرسائل لتضم السعادة والنجاح والصحة إلى جانب الخير في رسالة واحدة. كما تتنوع الأساليب الصياغية بين الجمل المنثورة والجمل الموقعة، بين العبارات الإنشائية الإيصالية والعبارات المنمقة لفظيا.

 الرسائل المرسلة بالعامية

تهيمن اللغة الفصحى على رسائل رمضان ربما لتأخذ طابعا يقربها من الدين أو لتحيل على القداسة بما يناسب شهرا كريما تسيطر على مظاهره المأثورات الدينية. لكن الأمر لا يقتصر على الرسائل المكتوبة بالفصحى لذا سنجد تجاورا في صندوق الذاكرة الهاتفي بين الرسائل الفصيحة والعامية. ويبدو أن معركة الفصحى والعامية التي لازالت تطل برأسها في مواسم متعددة لم تصل بعد لذاكرة الهاتف المحمول، والمتأمل للرسائل المكتوبة بالعامية سيجد أنها تتوسل بالتقفية في محاولة للتقرب من الشعر، فضلا عما تحمله من خفة ظل مستدعاة من ميراثها الحياتي الطويل:

  • يا طيور المحبة زوريه… وبحلول الشهر باركيه… وقربي منه و سمعيه… إني بدعيله ربي يهنيه.
  • أحلى ما في رمضان تلات حاجات: كتر الخيرات، تبادل الزيارات واللي هيقرا رسالتي دي بالذات.
  • فانوسي منور، ماشى يدور على الناس الحلوين عشان يقولهم كل سنة وأنتو طيبين.
  • قبل الزحمة/ والرز واللحمة/ حبيت أقولك/ كلها أيام وليالي/ وتصوم عن الأكل يا غالي.. كل عام وأنت بألف خير.
  • في قلبي حطيتك…. وبالتهاني خصيتك…. وعلى الناس بديتك…. وبقرب دخول رمضان هنيتك.
  • يا طيور الحب زوريهم.. وعلى الخدود بوسيهم.. وعلى قلبي وصيهم.. وبقرب رمضان هنيهم..
  • بنسيم الرحمة / وقبل الزحمة / أقول كل عام وأنت بخير.
  • بريحة العطر والمسك والعود.. رمضان علينا وعليكم يعود.. شهر الخير والكرم.
  • اسأل ربى الودود رمضان عليك يعود معطر بريحان الجنة وورود وأجر ماله حدود.
  • كل عام وأنتم من الله أقرب وعن المعاصي أبعد.
  • فانوسي منور، ماشى يدور على الناس الحلوين عشان يقولهم كل سنة وأنتو طيبين.
  • رمضان يا عود كبريت يا حابس كل العفاريت.. كل عام وأنتم بخير.
**

ويعتمد بعض الرسائل على نص شعبي كالرسالة الأخيرة التي اعتمدت على الأغنية الرمضانية التي يردده الأطفال في جنوب مصر:

يا رمضان يا صحن نحاس
يا داير في بلاد الناس

بين الأدعية الموقعة والشعر المنظوم ـ “ولنا في نفوس الطيبين ودائع.. ود وذكرى.. وحسن طبائع.. غفر الله لكم ولوالديكم وجمعنا وإياكم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان وتقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال.. آمين” ـ والنصوص التي تتشبه بالشعر تشكل ذواكر الهواتف معلنة عن وسيط جديد لتداول اللغة والاتصال واكتشاف أحلام وآلام المصريين ومكبوتات أرواحهم ودعواتهم التي يتمنون أن تتحقق. وربما زيف بعضهم من خلال الرسائل الزاخمة بالنفاق الاجتماعي والسياسي حتى في شهر رمضان، بل تشكل الرسائل مساحة متسعة للطرائف والعبارات الفكهة المسرية عن كلالة النفس:

  • غدا أول أيام رمضان وتم الإعلان في الصعيد، حيث شوهد الهلال على سيارة إسعاف وكل عام وانتم بخير.
  • رمضــان كريم، عيد فطر مبارك، عيد أضحى سعيد، شم نسيم جميل، عيد حب رائع، كل عيد ميلاد وأنت طيب، كل كريسماس وأنت بخير، عقبال 1000 سنة، ميت مليون مبروك، كده مالكش عندي حاجة لمدة 12 شهر .
  • إن الرعيل الأول من الليبرالية أضفى سيكولوجية انفعالية للوقوف عند حد إلزامي لما يصبوه التحرر الدرامي من براثن التقيد المنبثق من حب الذات .. المهم أنا عايز أقول لك رمضان كريم وتقبل الله الصيام والقيام.
**

إن رسائل المحمول أصبحت تمثل ظاهرة في عالم الاتصال بين الأفراد والجماعات، بل تمثل ظاهرة في مجال التعبير اللغوي وكيفياته وأساليبه ومستوياته اللغوية. كما يمكن من خلال قراءتها التعرف على الثقافة السائدة والمشكلات اللغوية والتدوينية التي يقع فيه المصريون وهو ما قد يضع أيدينا على بعض أمراضنا اللغوية. كما تحمل هذه الرسائل عددا هائلا من الأحلام والمكبوتات والرغبات التي تسعى للتحقق. من هنا فإننا نقدم هذه الإطلالة يملأنا الطموح في دراسة ظاهرة الرسائل في نطاق أشمل. حيث نستطيع قراءة لغة الخطاب وتجلياته عند المصريين وكيف يتواصلون بها بعيدا عن لغة النخبة التي احتجبت في الأروقة بعد أن ظلت بعيدة عن أحلام ومكبوتات الناس في شارعنا المصري.

اقرأ أيضا

رمضان المصري من طفولة القمر حتى يوم الوداع

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر