أتى لها الطاعون في العصر المملوكي.. حكايات قرية بقنا تحتفل بشفائها من الوباء

“كانت شوطة ذي شوطة الطير، ناس تقول كريرة وناس تقول طاعون، كنا عيال صغيرين، عمتي كانت مبترضاش تطلعنا من البيت، تقول لو طلعتوا الشوطة هتاخدكم ذي ما بتاخد الناس في القمانة وبهجورة”.

هكذا تذكرت السيدة الخمسينية، حكايات عمتها من إحدى النجوع التابعة لقرية الغربي بهجورة، الوباء الذي ضرب قريتها الذي يشبه فيروس كورونا (كوفيد 19) ويشغل العالم حاليا.

وباء

لم يكن الوباء الأول الذي تعرفه القرية الصعيدية، فهي لم تكن بمعزل عن الإصابة، وفقدت آلاف الأرواح، ومازالت ذاكرتها الشعبية تحتفظ بأثر الأوبئة وتنقلها من جيل لآخر، رغم قلة المعلومات التي يعرفونها.

وقرية بهجورة التابعة لمركز نجع حمادي، من أقدم القرى ولها تاريخ كبير مع الأوبئة، إذ عاصرت وباء الطاعون الذي سرده المؤرخون في مؤلفاتهم في العصر المملوكي الذي جعل البحث عن 4 شهود من القرية في منتهى الصعوبة ووصفوه بالوباء الأكبر.

تقع بهجورة في محافظة قنا، بين مدينتي فرشوط شمالًا ونجع حمادي جنوبا، اسمها الفرعوني يعني (بلد الشعب)، من القرى القديمة وفق ما ذكره المؤرخ أميلينو، كما وردت في معجم البلدان أنها في غرب النيل وبعيده عن شاطئه.

يكثر في القرية زراعة قصب السكر، وعرفها بعض المؤرخين باسم البهجورات وآخرين بالبهجورة ووردت في دفاتر الروزنامة القديمة، وفي تاريخ سنة 231 عرفت باسمها الحالي بهجورة.

يؤكد محمود مدني، مدير عام الآثار الإسلامية والقبطية ومدير متحف الأمير يوسف كمال بنجع حمادي- في تصريحات لباب مصر- أن بهجورة شهدت العديد من الأوبئة المختلفة عبر العصور حتى أنها ذكرت باسم مهجورة في كتاب تاج العروس، وشب بها حريق عظيم في القرن العاشر الميلادي فهجرها الناس زمنًا فسميت بذلك الاسم .

وحكا مدني أن الأمر تكرر في عام 806 هجريًا، حيث تسبب قصور النيل في تفشي مرض الطاعون وقضى على أكثر من 10آلاف شخص.

وهاجمت الإنفلونزا الإسبانية نجع حمادي بقراها من بينهم بهجورة عام 1918-1920، وقضت على أكثر من ألف شخص منهم 70 شخص من موجب أبو عموري، والقمانة، والبطحة، والدومة نجع عمران، وتم التنبيه على العمد ومشايخ البلدان بأهمية تنفيذ المنشور السابق، وفق مذكرات مفتش الصحة الذي ساهم في القضاء على المرض، وبحسب تعداد النفوس بالوحدات المجتمعية.

كما انتشرت الكوليرا في أرجاء القرية في أعوام 1906، و1947، و1975.

وعن مرض الكوليرا، يقول الدكتور يوسف رشدي، 64 عاما، طبيب أمراض صدرية ابن قرية أبوتيج بأسيوط ومقيم بقنا من سنوات، إن الأوبئة لها نصيب لا بأس به من ذاكرة طفولته وليس فقط دراسته.

وروى أنه في طفولته أصيبت والدته وجدته أثناء زيارتها للقاهرة تحديدًا في منطقة المطرية بنزلة معوية، واشتبه الطبيب في الكوليرا خاصة الأعراض من السخونة والقئ والجفاف وإسهال وتقلصات مؤلمة في الأطراف، ليتم عزلهما بأحد المدارس التي كانت خصصت بالمنطقة كعزل للمصابين وحجر المنطقة بأكملها دون الدخول أو الخروج، وبعد فترة شفيتا لمناعتهما القوية في عام 1975-1980.

ويوضح الطبيب، أن ميكروب بكتيري الكوليرا وتعرف بالهيضة، الكريرة، الإسهال الصيفي، ومسبب المرض هو باسيل الكوليرا، وهو نوع من البكتيريا العصوية يفرز سمًا داخل جسم المريضة يعمل على زيادة إفراز خلايا الأمعاء للأملاح والماء، مما يؤدي إلى حدوث جفاف يعقبه هبوط في الدورة الدموية.

وهو أحد الأمراض التي قررت منظمة الصحة العالمية ضرورة أن تخضع لمراقبة الحجر الصحي في الموانئ والمطارات.

ما زال كبار السن في الصعيد يذكرون وباء الكوليرا الشهير 1947، والذي انتقل من الهند المتوطن فيه عن طريق جنود الاحتلال الانجليزي، ثم انتشر كالريح في جميع أنحاء مصر وأدى إلى وفاة 20ألف.

وعن الطاعون سرد رشدي أنه سمي بالموت الأسود، وهو من الأمراض الخطيرة التي تحدث نسبة عالية من الوفيات، ويسبب المرض نوع من البكتريا العصوية يسمى علميا “يرسينيا بستيس” وهو يصيب الفئران أولا، ثم ينتقل منها إلى الإنسان عن طريق حشرة البرغوث بالفأر من النوع “زينوبسلا كيوبس”.

وقدرت ضحايا المرض بالآلاف، وأسفر عن مقتل ما بين 75مليون إلى 200مليون شخص، وبلغ ذروته في أوروبا 1346-1353، وظهر الطاعون في آسيا وشرقها 1320-1330، وانتقل لأوروبا تدريجيا عن طريق السفن القادمة من موانئ آسيا المحملة بالبضائع والفئران المحملة بالبراغيث الحاملة للمرض.

وبحلول  عام 1347وصل الطاعون لعاصمة الدولة البيزنطية القسطنطينية، حيث كان يقتل في اليوم نحو 5 آلاف شخص، ثم باقي البلدان ويقال إن الطاعون قتل بين 30٪ و60٪ من سكان أوروبا.

ربما يكون الوباء أدى إلى خفض عدد سكان العالم من 475مليون نسمة آنذاك إلى 350مليون في القرن 14واستغرق الأمر نحو 20عاما، حتى عاد عدد سكان أوروبا إلى مستوياته قبل الوباء.

ولقارة إفريقيا  نصيب من الطاعون بلغ 60٪ من حالات الإصابة، وكان الوباء الذي هاجم بلدة سورات الهندية في 1994 أخر الأوبئة التي ظهرت، وبلغ عدد حالات الإصابة 5150حالة وأسفر عن 56 وفاة.

وظل الطاعون متوطنا ويكتسح العالم لفترات زمنية حتى العصر الحديث، ومن أعراضه ارتفاع درجة الحرارة، الرعشة، القئ، ظهور الدمل، هذيان، هبوط ضغط الدم، وله أنواع منها الطاعون الدملي، التسممي، الرئوي، المعوي، الحلقي، الأصفر.

كما ذكر الطبيب أن الإنفلونزا هي مرض حاد بالجهاز التنفسي شديد العدوى، ومسبب المرض هو فيروس الإنفلونزا اكتشف في 1933 بواسطة سميث وآخرين.

حكايات الأهالي

ارتبطت حكايات الأوبئة بالأجداد بقرى بهجورة، حتى أنها كونت عادات بعينها لدى بعض القرى، على سبيل المثال نجع النزلة التابعة لقرية الشرقي بهجورة الآن، وهي إحدى توابع بهجورة الأم قديمًا، مازال أهلها يحتفلون بزوال الأوبئة من القرية.

وفي أخر جمعة من كل شهر نوفمبر، وبالتزامن مع قرب موسم حصاد القمح، الكل يعرف مهامه المكلف بها ضمنيًا، باتفاق متجدد تلقائيًا منذ أكثر من 90 عام تتوارثه الأجيال بالقرية، حيث رحيل مرض الكوليرا والطاعون والإنفلونزا وبقاء عادة النذور ليصبح ” يوم الصدقة أو النذور” بقرية النزلة حتى الآن.

حاولنا التقصي لتوثيق أي مرض تحديدا الذي يقصده الأهالي والذي بدأ بسببه عادة الاحتفال، ولكن فشلت المحاولة بسبب وفاة أغلب الأجيال المعاصرة لتلك الأحداث، وعدم وجود دراسات أو كتابات متخصصة عن تفاصيل وحكايات كل منطقة أثناء كل وباء.

وكان مصدرنا الوحيد هو روايات الناس التي حفظوها عن ظهر قلب من أسلافهم، الذين كانوا بحكم العصر لا يفرقون كثيرا بين الأوبئة ومسمياتها وماهيتها.

يقول مدحت عباس، موظف وأحد أبناء القرية، جري إعداد الطعام على قدم وساق، في أغلب منازل القرية في هذا اليوم “يوم النذور” الذي تقام فيه وليمة أمام مسجد الكبير، أقدم وأكبر مسجد بالقرية، والأطفال في قمة الفرحة والتحرق شوقا لبدء الاحتفال بهذا اليوم.

ويذهب الرجال لمنازلهم عائدون كلٍ بصينية متوسطة الحجم أو “طبلية” (منضدة صغيرة يستخدمها الناس في الصعيد لتناول الطعام) بها الطعام المتوفر في المنزل، الذي قد يكون لحوما وأرزا وخضارا، وأخرى فطائر أو ألبان جبن أو عسل “طعام فلاحي”.

وفي تلك اللحظة لا تستطيع أن تميز أي صينية تتبع أي رجل، فجميع الموائد تمتزج ببعضها البعض، والكل يتناول الطعام دون تفرقة بين العائلات والأطفال والفقراء والأغنياء، ففي يوم النذور تختفي كل الانتماءات الاجتماعية.

ويحكي عباس أن الاحتفال يتكرر سنويًا في الموعد نفسه، آخر جمعة من شهر نوفمبر، وأحيانًا توافق أول ديسمبر، ويتم تقديم موائد الطعام من كل منزل أمام المسجد الكبير وفاءً للنذر، حين تم شفاء أهالي القرية من مرضى الكوليرا والطاعون في 1920 كما نسمع من أجدادنا منذ عشرات السنين.

أما محمد ثابت، 54 عاما، معلم أول بإدارة نجع حمادي التعليمية وأحد أبناء القرية، يقول، إن أهالي القرية حين أصيبوا بالمرض منذ أكثر من 90 عام، كانوا يتضرعون إلى الله لنجاتهم من المرض المهلك، وعلى رأسهم الشيخ محمد أحمد عويس، أحد أبناء القرية.

ودعا أهل القرية للتصدق والدعاء إلى الله مستشهدًا بحديث النبي صل الله عليه وسلم “داووا مرضاكم بالصدقات”.

ويروي الحاج عبدالعال محمد، 60 عاما، أحد أبناء القرية، أن الله استجاب لدعاء أهالي القرية ومنذ ذلك اليوم وفي موسم حصاد القمح والبرسيم المتزامن مع أواخر شهر نوفمبر وأوائل شهر ديسمبر نقوم بالوفاء بالنذر الخروج بالموائد والصدقات، حتى أن بعض الأهالي حاولوا الاستمرار بها بطريقة أخرى عن طريق جمع 100 جنيه من كل منزل وإعطائها للفقراء.

ولكن الجميع رفض، لأنها أصبحت عادة تجمع أهالي القرية وتنشر الحب والتسامح بين أبناء جميع العائلات وتزيد من ترابطهم.

ويضيف عبدالرحيم يونس، 54 عاما، موجه أول بإدارة نجع حمادي التعليمية، أنه تم اختيار هذا المكان تحديدًا، لأن المسجد أقدم وأشهر مسجد بالقرية، لافتًا أنه قديمًا كانت القرى المجاورة والعزب والنجوع التابعة للشرق بهجورة توفي أيضًا بهذا النذر.

ولكن بدأت تتساقط تلك العادة مع الزمن، إلا أن قريتنا مازالت تحافظ عليها باعتبارها عادة تراثية.

وتابع القط عبدالودود، 55عاما، ملاحظ بطلمبات نجع حمادي، أنه لا يشترط أن يكون الأكل المقدم لحوما، وإنما كل ما يجود به المنزل من خير، بحسب القدرة المادية، حيث تتنوع الموائد ما بين اللحوم والفطائر والطعام الفلاحي وغيرها، مؤكدين أنهم يورثون هذه العادة لأولادهم وأحفادهم.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر