شعراء السبعينيات ولطميات جوائز الدولة
اللطميات طقسٌ شيعي معروف. والكلمة مأخوذة من اللطم وهو ضَرْبُ الخدِّ ببَسْط اليد، أو بالكف المفتوحة، أو باطن راحة اليد، و المَلْطِمان لغة هما الخدان. واستخدام اللطم في طقوس الجنائز قديم جدا، ويرتبط مع الشيعة بجريمة قتل الحسين رضي الله عنه، والظلم الواقع على آل البيت.
لا تقتصر اللطميات على الطقوس الشيعية، بل هي حالة ثقافية عامة. لها أشكالها المختلفة التي لا تتوقف على اللطم بالمعنى المباشر للكلمة. خاصة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي تتحول كثيرا إلى مآتم.
تنتج اللطميات من أحداث القتل المباشر الذي نراه كل يوم تقريبا في عالمنا العربي. أو أحداث القتل المعنوي الذي يشعر به ضحايا الظلم، أو أصحاب الحقوق الضائعة. وهذا القتل المعنوي شائع في عالمنا العربي وله جذور تاريخية عميقة جدا، ربما تصل إلى عصور ما قبل التاريخ. وربما بسبب تلك الجذور البعيدة وتراكم المظالم تحولت اللطميات إلى حالة نفسية تتحقق من خلالها لذة غامضة وانتصارات وهمية.
اللطميات شائعة جدا ومنتشرة، و لا تنجو منها حتى الطبقة المثقفة التي تتميز نظريا بارتفاع الجانب العقلاني في نظرتها للأمور. وبالتالي تتميز بقدرة ذهنية عالية تجعلها تتجاوز فكرة البكاء على اللبن المسكوب.
***
تظهر لطميات المثقفين في المناسبات الثقافية المختلفة مثل المهرجانات الأدبية الكبيرة. واختيار الممثلين للبلاد في المهرجانات الخارجية، وإعلان الجوائز الأدبية الكبيرة. وكل الفعاليات العربية تقريبا ترتبط بمشاعر الظلم الناتجة عن تجاوز المجتهدين وتقدير أنصاف المجتهدين أو الأدعياء. وما أكثر الذين يحصلون على مزايا لأسباب لا تتعلق بإبداعهم بقدر ما تتعلق بعلاقاتهم، وشبكة المصالح التي ينخرطون فيها.
موسم إعلان جوائز الدولة ـ خاصة جوائز الدولة التقديرية وجائزة النيل ـ واحدٌ من تلك المناسبات التي ينشط فيها اللطم. وترتفع فيها الشكوى من الظلم، وقتل المجتهدين.
وإذا كانت اللطميات الثقافية لا تحدث من فراغ، لأن مظاهر القتل المعنوي موجودة، والظلم موجود، والفساد موجود. لكن وجوه الفساد كثيرة، منها سلبية المثقفين، و تمجيدهم للبكاء على حساب الفعل. وقيامهم ترك الأسباب الواقعية التي تنصر المجتهدين من أجل التشبث بالصراخ المجاني. حيث لا يفيد الشاة نصرها بعد ذبحها.
سبب اللطميات هو تجاوز المستحقين وحصول غير المستحقين على الجوائز. وهو أمر خطير طبعا، وله أضراره الثقافية، ويستحق الإدانة. لكن ما يستحق الإدانة أيضا هو سلبية الحركة الثقافية، التي لا تتمتع بأي قدر من التنظيم، ولا تمارس أي ضغط من أجل حصول المستحقين على حقوقهم. وهذا ظلم خفي نتورط فيه جميعا ونحسب أنفسنا أبرياء، يجب أن تكون هناك خطوات فعالة على الأرض. هذا ضروري في مناخ مثل مناخنا العربي.
ما يستحق الإدانة نسيان التجارب الجيدة حتى فوات الأوان. ثم التفنن في صنع المآتم عند رحيلهم، نحن الذين لم ننطق بكلمة طيبة أثناء حياتهم.
هناك أيضا نوع من المثقفين يلطم مطالبا بالعدل لا من أجل العدل. بل من أجل لفت الانتباه إلى أنفسهم، أو استخدام المظلومين في الهجوم على المؤسسات لا لنصرة المظلومين بل لتحقيق مآرب أخرى. أي أن اللطم يقوم به أحيانا عدد من غير المستحقين للجوائز، في الوقت الذي يتعفف فيه المستحقون ولا يعلقون بكلمة على ظلمهم.
***
والغريب أن اللطميات الثقافية تبدأ بعد فوات الأوان، أو بعد إعلان جوائز الدولة. وهذا خطأ كبير يكشف عن فساد في تعامل المثقفين مع الزمن، لأن الظلم الحقيقي يبدأ الآن. حيث تقوم الجهات صاحبة الحق في الترشيح بإرسال ترشيحاتها حتى نهاية ديسمبر، هنا يتم استبعاد عدد كبير من الذين يستحقون. وتصعيد أسماء أخرى أقل جدارة، ويكون يوم إعلان النتيجة مجرد اختيار من ثلاثة أسماء تم ترشيحها من تلك الجهات منذ ستة أشهر.
من هنا يجب أن نتحرك لدعم التجارب الجديرة بالتقدير والتكريم منذ الآن. من ناحيتي كمتابع للحركة الشعرية منذ سنة 1987 حتى الآن، أشعر بالمرارة بسبب تجاوز شعراء السبعينيات في جوائز الدولة التقديرية وجائزة النيل. لأنهم قدموا تجارب بالغة الأهمية، يمكننا أن نتفق أو نختلف معها. لكننا لا نستطيع تجاوز الجهود الكبيرة لهؤلاء الشعراء، وحضورهم الإيجابي في الحركة الأدبية. سواء من خلال إبداعهم الشعري مثل عبد المنعم رمضان وجمال القصاص وأمجد ريان ومحمد سليمان ومحمد آدم، وصلاح اللقاني ومحمد فريد أبو سعدة. أو من خلال جهودهم الإضافية في الكتابة النقدية أو في مجال الترجمة مثل جهود عبد المقصود عبد الكريم وطلعت شاهين، والراحل محمد عيد إبراهيم.
***
لقد ظُلِم هذا الجيل بأشكالٍ مختلفة. منها تجاوزهم في جوائز الدولة التقديرية، رغم إنتاجهم الوفير على مدار نصف قرن تقريبا، وجدارتهم بالحصول عليها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هو كيف ننصرهم بشكل عملي؟
يجب أن نبكي عليهم الآن لا بعد إعلان النتائج، والبكاء هنا بمعنى الحرص على حقوقهم، وتقديرهم. والضغط على الجهات صاحبة الحق في الترشيح من أجل ترشيح هؤلاء الشعراء الكبار لجوائز الدولة. ويجب الضغط على وزارة الثقافة كي تعلن ترشيحات تلك الجهات، وأسباب ترشيحها لفلان أوعلان. كي نناقش تلك الأسباب بشكل موضوعي. من ناحية، وكي نقف على مظاهر الفساد في ترشيحات بعض الجهات من ناحية أخرى. حيث توجد مؤسسات أكاديمية كسولة تتعامل باستهانة شديدة مع الأمر. وأن نقف عند أساس الظلم، وتوجيه النقد للمتسببين فيه، هناك عند النبع، في زمن الترشيح، لا بعد فوات الأوان.
الحديث عن الضغط لا يعني الحديث عن الفرض، بل يعني السعي لعمل حوار مجتمعي حول تلك الجوائز. لأن المجتمع هو المانح الحقيقي، وهو المتضرر من تهميش المجتهدين وتقدير الزائفين.
كيف يتجاوز المثقفون ثقافة اللطم على اللبن المسكوب؟ أو ينخرطون في حركة جماعية منظمة لمقاومة الظلم المنتشر في الحياة الثقافية. أو كيف يمنع المثقفون قتل التجارب الجديرة بالحفاوة والتقدير. هذا عمل وطني فكيف نتركه نحن الذين نغني كثيرا للوطن. يجب البحث عن طريق للمقاومة، ورسم هذا الطريق يحتاج إلى حوار جاد بين المثقفين.
اقرأ أيضا:
نجيب سرور وأمير الشعراء ورمزية القبر المهدم