برقيات دعم الثأر في الصعيد

في لقاء مع مجموعة من الأشخاص في إحدى القرى، وأثناء حديثي عن الثأر باعتباره واجبا من واجبات الدولة، ولا جدوى التضحيات التي يقدمها الصعيدي نتيجة تمسكه بالثأر.

باغتني أحدهم قائلا: “القانون ما جبش حق الخطيب، هيجيب حقنا”

كلمة الرجل كانت على سبيل الدعابة والسخرية، وأثارت الضحك فعلا، لكنها لفتت انتباهي إلى التداخل الشديد بين الموضوعات المحلية والقومية، والمؤثرات المباشرة وغير المباشرة التي تجمع بين سكان القمة والقاع.

الجملة العابرة نجحت في أخذنا من موضوع الثأر إلى الأهلي والزمالك، حيث تحدث الحاضرون في القرية النائية كخبراء في كرة القدم، وكمُلّاك للناديين، وكان التعصب سيدا للموقف.

***

العصبية الكروية ليست بعيدة عن العصبية القبلية، بل هي جزء منها يظهر في شكل مختلف، وما يعنينا، هو تأثير الأفكار الخاصة بالمجال الكروي في الثقافة الشعبية بشكل عام، فكل حديث عن غياب العدل في الرياضة ينعكس على الحياة العامة.

الناس في الريف أذكياء ويقرأون المشهد المصري بانتظام، ويقومون بعمل المقارنات، والخروج منها بأفكار ومعتقدات، وهم مثل غيرهم يميلون إلى احتضان الأفكار التي تتوافق مع أفكارهم الراسخة.

جزء من مشكلة الثأر يرجع إلى عدم ثقة الصعيدي في المنظومة القانونية، التي تشمل التحريات والشهود والحكم وإجراءات التنفيذ وغيرها، وغياب الثقة راسخٌ وعميقٌ، بسبب الشعور القوي بتهميش الصعيد وظلم الحكومات المركزية عبر العصور.

لقد تابع الصعايدة تلك الخصومة التي نشأت بين الخطيب ومرتضى، وتعرض فيها الأول لهجوم، يستحق في نظر الصعيدي ردا شخصيا سريعا، خاصة ذلك الكلام الذي يتعلق بشقيقة الخطيب، لكن الرجل آثر الصمت، والاحتكام إلى القانون، فماذا فعل القانون للخطيب، وهو من كبار الأعيان، هكذا يقول الصعيدي.

لقد نجح القانون في كسب ثقة الصعايدة. عندما صدر حكم المحكمة النهائي بحبس المتهم، غير أن الثقة عادت واهتزت مرة أخرى، عندما شاهدوا المحكوم عليه طليقا وكأن الحكم لم يكن.

***

لم يذهب المحكوم عليه إلى (جبل المطاريد)، ذلك المكان الأسطوري الذي يفر إليه المجرمون. بل ظل في مكانه بشكل طبيعي، ومنح الجبلَ الأسطوري عضوية النادي، وصار يكلم الناس عبر شاشات التليفزيون، ويدلي كل يوم بتصريح صحفي، ويتنقل بحرية في الأماكن العامة دون أن يتوجه إليه أحد لتنفيذ الحكم القضائي.

لا شك في ظهور علامات كثيرة كفيلة بإعادة ثقة الصعيدي بالمنظومة القضائية، غير أن عدم الثقة يتجدد بتجدد المظاهر التي تثيره وتغذيه، ومنها جبل المطاريد المشهور بقسوته ووحشته، وهو يظهر في أرقى الأماكن وأنعمها، ومنها عدم اختفاء المحكوم عليه عن أعين العدالة، بل ظهوره على أوسع نطاق ممكن، وتحدثه في التليفزيون، ليشكك بشكل فجٍّ في كفاءة القانون، ويرسل برقيات لدعم الثأر في كل مكان، لا في الصعيد وحده.

عندما نتحدث عن علاج الثأر ننظر إلى الصعيد فقط، هذا خطأ، ينبغي أن ننظر أيضا إلى الطبقات العليا وهي تدعم الثأر بشكل غير مباشر.  واحد من أهم أسباب تخلفنا يكمن في التوقف أمام المؤثرات المباشرة وتجاهل المؤثرات غير المباشرة.

اقرا أيضا:

أبوفياض: خط الصعيد الجديد بين نار الدولة وجنة القبيلة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر