المكن والدموع.. طقوس “الجنائز” بدشنا قديما
الموت و طقوسه كان جزء كبير من حياة أجدادنا قدماء المصريين المؤمنين منذ الأزل بالثواب والعقاب والحياة الأخرى، هذا الإيمان جعلهم يبنون أهرامات ويعيشون حياة موصولة دائمًا مع حياة ما بعد الموت، ولكل هذه الطقوس بداية بالعديد فن الرثاء العتيق وطقوس الجنازات وزياة المقابر في المواسم والأعياد وصولا للقهوة في العزاء، أصل وموروث شعبي.
تعد الجنائز من الأحداث الاجتماعية التي تلقى اهتمامًا كبيرًا بين أهالي مدينة دشنا، شمالي قنا، منذ عشرات السنين، وبحكم التركيبة القبلية للبلدة تستلزم الجنائز عددًا من الطقوس المتوارثة، تبدأ من الإعلان عن وفاة شخص ما من خلال انبعاث أصوات صراخ النساء وانتهاء إلى تشييعه إلى مرقده الأخير في الجبانة.
إعلام شعبي
يقول زغلول عبدالدايم، 74 سنة بالمعاش، إن وسيلة الإعلام الشعبي عن حالات الوفاة كانت تتمثل في صراخ وعويل النساء، حيث كان الرجال يتحركون صوب المكان المنبعث منه الصراخ لمعرفة شخصية الميت ولا تمر دقائق حتى يكون هناك العشرات وأحيانًا المئات أمام منزل الميت في انتظار إنهاء غسله وتكفينه لتشييعه إلى قبره.
ويلفت عبدالدايم إلى أن ظاهرة الصراخ والعويل اختفت حاليًا واستبدلت بوسائل أخرى أهمها النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
السّبال والمعددة
ويتابع عبد الدايم: قديمًا كان هناك وظيفة تسمى (السبال) وهو شخص يقوم بالتسبيل على الميت، بمعنى أن يسترجع قائلا “الدوام لله” ويرافقه أحد أقارب المتوفى مرددًا خلفه “الدوام لله يا أبوي أو الدوام لله ياخيِّي” بحسب قرابته للمتوفى.
وتلفت أم حمادة، ربة منزل، 81 سنة، إلى أنه بالتوازي مع التسبيل كانت تحضر (المعددة)، وهي امرأة مسنة تحفظ عددًا من الأشعار الحزينة التي تثير شجون وحزن النساء المكلومات في الميت لينخرطن في الصراخ والعويل.
وتروي أم حمادة أن من الأشعار التي كانت تقال على لسان الزوجة “زهزهتلي الدنيا وحسبتها قمرة، أتاري ليالي الُّشوم قاعدلي محبَّرة”، وتوضح أم حمادة أن العديد اختفى تمامًا من دشنا منذ ما يقرب من 20 عامًا بفضل انتشار التعليم والثقافة الإسلامية الصحيحة والتي تحرم تلك الطقوس.
الحفار
ويوضح قناوي عبدالنعيم، تربي دشنا، أن عملية غسل الميت كانت تجرى بمعرفة أقاربه ولم يكن يسمح للغرباء حضور الغسل وخصوصًا النساء، وأحيانا كانت تُسند مهمة غسل الميت للحفار، أما حاليًا فيتجه الأهالي إلى الاستعانة بالمغسل أو المغسلة، لافتًا إلى أن نظام القبور كان قديمًا عبارة عن شق حفرة أما حاليا فنظام الفساقي وهي حجرات ذا قباب تُبنى تحت الأرض ويكون لها فتحات يوضع فيها الميت.
المكن والدموع
وتلمح أم وجيه، ربة منزل من عزازية دشنا 82 سنة، إلى أنه كان من التقاليد المعروفة قديما أن يخاط الكفن داخل المنزل ، حيث يشتري أحد الرجال القماش وتعكف نساء المنزل على خياطة الكفن باستخدام ماكينات السنجر والتي كانت شائعة جدا في بيوت دشنا خلال القرن الماضي، وتعلق أم وجيه بقولها: كان يبقى المكن داير ودموعنا على خدنا، وتلفت أن هذا المظهر اختفى تماما وأصبح الأهالي يفضلون شراء الكفن الجاهز.
بكوة الوداع
“مع السلامة يا حبيبي” هكذا كانت النساء تودع المتوفى قبل أن يغادر منزله محمولا على الأعناق داخل نعشه، بحسب أم أشرف ربة منزل 68 سنة، ملمحة إلى أنه بعد أن يجهز الميت ويعطر جسده ويلف في كفنه ويوضع في (الكرب) النعش، ويتأهب الرجال لحمله على أكتافهم لتشييعه، تنطلق النساء في ( بكوة الوداع )، ويصطففن في صفوف أفقية يلوحن بمناديلهن باكيات صارخات: مع السلامة.
وتلفت أم أشرف إلى أن هذا الطقس ما زال موجود حاليًا ولكنه اقتصر على الأقرباء فقط.
آجر وصلي على النبي
ويشير حمدي عبدالهادي إلى أنه بمجرد أن يخرج النعش المحمول على أكتاف أقارب المتوفى حتى يتسابق المشيعون في المشاركة في حمله ونيل الثواب، وينقسم المشيعون إلى قسمين قسم أمام النعش يردد بشكل جماعي :”لا اله إلا الله محمد رسول الله”، بينما القسم الخلفي يتبادلون حمل النعش من أركانه الأربعة، بشرط أن يستأذن من حامله باستخدام عبارة “آجر وصلي على النبي” وهى تعني امنحني الأجر مثلك في حمل جثمان المتوفى.
الجبانة
ويلفت علي عبدالمعين ، موظف 55 سنة، أنه بمجرد الوصول إلى الجبانة يتجمع أقارب المتوفى حول مكان القبر ويتم إنزال الميت إلى قبره بمعرفة التربي والذي يبدأ في إهالة التراب عليه وسد فتحة القبر، وأثناء ذلك يقوم الحاضرين بتلاوة سورة الإخلاص والدعاء للمتوفى بالمسامحة والغفران، وبعدها ينصرف المشيعون قاصدين المندرة أو ديوان العائلة لإقامة سرادق العزاء وتلقي التعازي والمواساة من العائلات الأخرى.
ويلمح عبدالمعين أنه حاليًا اتجه معظم الأهالي إلى أخذ العزاء على المقابر، من خلال أن يعلن أحد أقارب المتوفى بصوت عال في الجبانة قائلا: من شال عزى، بمعنى أنه لا يوجد عزاء في ديوان العائلة.
تراث قديم
ويوضح الآثاري محمد همام أن معظم عادات وطقوس الجنائز في صعيد مصر أصلها مصري قديم، ملمحًا أن أسطورة قتل أوزوريس وثقت لعادات القدماء في البكاء والعويل والعدودة من خلال الشعر الجنائزي الحزين، مشيرًا إلى أن مقابر النبلاء بالأقصر ومقابر بني حسن بالمنيا تحتوى على العديد من مشاهد الجنائز مثل الصراخ وإهالة التراب والموكب الجنائزي وتوديع المتوفى، ومعظم تلك الطقوس استمرت على مدى العصور التالية وحتى العصر الحديث وإن كان بعضها اندثر بفعل التطور الثقافي مثل طقوس العدودة، والتي تستخدم فقط في الدراسات التراثية.
13 تعليقات