ورش الفخار في سوهاج.. مهنة تقاوم الاندثار وتحفظ التراث

على ضفاف الترع جنوب محافظة سوهاج، تنتشر العديد من الورش الصغيرة التي ما تزال صناعة الأواني الفخارية فيها جزءًا من حياة الناس. ويحكي شيوخ المهنة وكبار الحرفيين أن هذه الحرفة انتقلت من جيل إلى آخر كما تنتقل الحكايات، فالأب يورث أسرار الطين والماء والنار لابنه، والجد يعلم حفيده كيف يلامس العجلة بيديه حتى تخرج قطعة فنية متقنة.
على ضفاف الترع في سوهاج
يقول لطفي محمد (75 عاما) من مركز ومدينة المنشاة بسوهاج، وأحد قدامى الحرفيين: “إحنا ورثنا المهنة دي من آباءنا وأجدادنا. كنت طفل صغير بقعد على حجر أبويا وأشوف إيده وهي بتشكل الطين. ولما كبرت عرفت إن حياتي هتفضل مرتبطة بالعجلة والفرن”.
ويضيف: “في الماضي كانت الورش مزدحمة بالشباب والأطفال اللي بيتعلموا خطوة بخطوة. وكانت المنطقة تمتلئ بأصوات العجن والدوران والطرق. في مشهد يعكس قيمة المهنة ومكانتها. أما الآن فقد بات هذا المشهد نادرا”.
رحلة الأواني الفخارية
تبدأ رحلة الأواني الفخارية – بحسب ما أوضح محمد علي- من الطين الذي يتم عجنه وخلطه بالماء حتى يصبح طيعا ولينا. ثم يوضع على عجلة الفخار التي يديرها الصانع بمهارة فائقة. في لحظات تتحول الكتلة الطينية إلى شكل دائري متناسق يمكن أن يصبح “قدحا أو ماجورا أو طاجنا أو أي وعاء آخر”. بعد ذلك تترك القطعة لتجف قليلا، ثم تدخل مرحلة الحرق داخل الأفران حتى تكتسب صلابتها النهائية.
ويكمل: “للطواجن الفخارية مكانة خاصة، فهي تصنع باستخدام مادة تعرف بـ(الإبرام). وهي مادة تضاف للطين لتزيد من قدرته على تحمل درجات الحرارة العالية. فيصبح الطاجن قادرا على البقاء طويلا في الأفران والاحتفاظ بحرارة الطعام. وده السبب اللي بيخلي أكبر المطاعم في مصر تستخدم الطواجن الفخارية في تجهيز وتقديم الأكل. الإبرام هو سر الطواجن، من غيره ممكن يتشقق ولا يصلح، لكن لما يتحط صح بيعيش سنين طويلة”.
أزمة حقيقية
عبر كمال سعد، بصوت يملؤه الحزن، قائلا: “رغم أن صناعة الأواني الفخارية في سوهاج تمثل جزءًا من التراث المصري، خاصة في الصعيد، إلا أن المهنة تواجه حاليا أزمة حقيقية. فقد تراجعت معدلات البيع بسبب انتشار الأواني المعدنية والألومنيوم والبلاستيك، اللي بقت أرخص وأسهل في الاستخدام”. وأضاف: “زمان كنا بنبيع بالعشرات كل يوم، دلوقتي ممكن يمر أسبوع وما نبيعش حاجة. الناس بقت تفضل الألمونيوم والبلاستيك على حساب الفخار” .
وأشار إلى أن هذه المنافسة جعلت عددا كبيرا من الحرفيين يهجرون المهنة. بينما اختفى جيل كامل من الورش القديمة التي كانت تزين القرى. فالشباب اليوم لم يعد يرى في صناعة الفخار فرصة للرزق. خاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام وضعف الإقبال.
ليست مجرد حرفة بل تراث
يتابع سعد: “كان عدد الورش في مركز المنشاة وحده يتجاوز 159 ورشة في ثمانينيات القرن الماضي، يعمل بها أكثر من ألفي شخص بين أسطوات وعمال وبائعين. أما اليوم فلا يتجاوز عدد 20 ورشة فقط يعمل بها نحو 150 شخصا. معظمهم من كبار السن”.
ويضيف بأسى: “إحنا مش عايزين حاجة غير إن المهنة دي تفضل عايشة. الفخار هو حياتنا وتاريخنا، ولو اختفى يبقى جزء من مصر اختفى معاه”.
وبرغم التراجع، ما زال هناك من يتمسك بالمهنة ويرى فيها رسالة يجب الحفاظ عليها. فهم يؤمنون أن صناعة الأواني الفخارية ليست مجرد حرفة، بل تراث حي يعبر عن هوية مصر وذاكرتها. كثير من الحرفيين يطالبون بدعم حقيقي من الدولة والجهات المعنية. من خلال إقامة معارض للتسويق والترويج، وفتح أسواق جديدة للسياحة الداخلية والخارجية. حتى تصبح الأواني الفخارية منتجات تراثية ذات قيمة ثقافية وسياحية، وليست مجرد أوعية منزلية.

مركز الحرف التراثية
يقول الدكتور فهيم إبراهيم، عميد كلية الآثار بجامعة سوهاج، إن الكلية تولي اهتماما كبيرًا بتدريس وتعليم صناعة الأواني الفخارية. باعتبارها جزءًا أصيلا من التراث المصري القديم الذي يعكس ملامح الحياة اليومية عبر العصور المختلفة.
وأوضح أن الجامعة تضم مركزًا متكاملاً هو مركز الحرف التراثية، المختص بدراسة وتطوير العديد من الحرف التقليدية. ومن بينها صناعة الفخار، بهدف الحفاظ عليها من الاندثار ونقلها إلى الأجيال الجديدة. وأشار إلى أن كلية الآثار تضم قسم الترميم، وهو من الأقسام العلمية البارزة. حيث يدرس الطلاب فيه أساليب ترميم الأواني الفخارية المتهالكة وإعادتها إلى حالتها الأصلية.
وأضاف إبراهيم: “الكلية جهزت معمل أفران متخصص يستخدم في التدريب العملي على صناعة الأواني الفخارية. مما يتيح للطلاب الجمع بين الجانبين النظري والتطبيقي”.
جولات ميدانية ومؤتمرات علمية
تابع عميد آثار سوهاج: “نظمت الكلية خلال السنوات الماضية العديد من الجولات الميدانية في القرى والمناطق التي تشتهر بصناعة الفخار داخل محافظة سوهاج، لإكساب الطلاب خبرة مباشرة من أصحاب الحرفة والتعرف على مراحل التصنيع التقليدية. مثل هذه الأنشطة تسهم في ربط الطلاب بالبيئة وتعزز من فهمهم العملي للتراث”.
وكشف الدكتور فهيم أن الكلية تستعد حاليا لتنظيم مؤتمر علمي دولي حول التراث. بمشاركة باحثين وخبراء من داخل مصر وخارجها. بهدف تبادل الخبرات وإبراز أهمية الحرف التراثية، وعلى رأسها صناعة الفخار، في الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وتقديمها للعالم.
ويرى فهيم أن صناعة الأواني الفخارية يمكن أن تتحول إلى مصدر جذب سياحي في سوهاج والمنشاة، على غرار ما يحدث في بعض الدول التي تفتح ورش الحرف التقليدية أمام الزوار والسياح ليشاهدوا مراحل التصنيع ويشتروا المنتجات كقطع تراثية.
هذه الخطوة، كما يؤكد، يمكن أن تعيد الحياة إلى المهنة، وتوفر دخلاً مستداما لأصحاب الورش. وتضع المنشاة على خريطة السياحة الثقافية في مصر. وأضاف أن الفخار له تاريخ عريق في سوهاج، فهو يمثل ذاكرة صعيدية ومصرية ممتدة من عهد الفراعنة حتى اليوم. ويجسد مزيجا من البساطة والإبداع، ومن التراث والهوية.