دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

الست الإمام: إمامة المرأة في التصوف بين التحقق الروحي والقيادة الباطنية(3-5)

إن النساء شقائق الذكرانِ

في عالم الأرواح والأبدانِ

والحكم متحد الوجودِ عليهما

وهو المعبر عنه بالإنسانِ

ابن عربي.

الإمامةُ في اللُّغةِ: مَصدَرٌ من الفِعلِ (أمَّ). تَقولُ: أمَّهم وأمَّ بهم: تَقدَّمَهم، وهيَ الإمامةُ، والإمامُ: ما ائتُمَّ به من رَئيسٍ أو غَيرِه، فيَفعَلُ أهلُه وأمَّتُه كما يفعَلُ، أي: يَقصِدون لِمَا يَقصِدُ. وأصلُ (أم) يدُلُّ على القَصْدِ، وعَرَّفَ العُلماءُ الإمامةَ في الاصطِلاحِ بعِدَّةِ تَعريفاتٍ مُتَقارِبةِ المَعاني.

ومن هذه التعريفاتِ: قال الماوَرديُّ: الإمامةُ مَوضوعةٌ لخِلافةِ النُّبُوَّةِ في حِراسةِ الدِّينِ وسياسةِ الدُّنيا. أمّا أبو المَعالي الجُوينيُّ فيعرّف الإمامةَ على أنها رئاسةٌ تامَّةٌ وزَعامةٌ عامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بالخاصَّةِ والعامَّةِ في مُهمَّاتِ الدِّينِ والدُّنيا. وقال ابنُ خَلدون عنِ الإمامةِ: هي خِلافةٌ عن صاحِبِ الشَّرعِ في حِراسةِ الدِّينِ وسياسةِ الدُّنيا.

وقال ابنُ المِبْرَدِ الحَنبَليُّ: الإمامُ ما يُؤتَمُّ به، تارةً في الصَّلاةِ وهو إمامُ الصَّلاةِ، وتارةً يَكونُ في الفَصلِ بَينَ النَّاسِ وهو الخَليفةُ، وتارةً في العِباداتِ والأحكامِ وهو إمامُ الفِقهِ. وسُمِّيَ بذلك لتَقدُّمِه على غَيرِه؛ فإنَّ إمامَ الصَّلاةِ يَتَقدَّمُهم، وإمامَ الحُكمِ يُقدَّمُ على غَيرِه في هذا الأمرِ، وإن لم يَكُنِ التقدُّمُ حَقيقةً، وإمامُ الفِقهِ يُقدَّمُ قَولُه على قَولِ غَيرِه.

***

ظلّت فكرةُ الإمامةِ مقصورةً على الرجال فقط، استنادًا إلى الحديث الشريف: “لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”. أمّا في عالم التصوف، حيث تتداخل الروحانيات مع التجارب الداخلية للإنسان، غالبًا ما يُنظر إلى المرأة على أنها متلقيةٌ للمعرفة الروحية، وينحصر دورها في الجانب الأنثوي من التوجيه. ولكن حين نعود إلى جذور التصوف الإسلامي، نجد أن الصورة أكثر عمقًا مما تُقدّمه القراءات التقليدية؛ فالمرأة لم تكن يومًا غائبةً عن الساحة الروحية، بل كانت في أحيان كثيرة إمامةً وشيخةً ومرشدةً، تمتلك من النور والحكمة ما يؤهلها لقيادة المريدين في الطريق إلى الله.

كذلك يتم تأييدُ هذه الفكرة من قبل المفسرين بأن صلاةَ المرأة تكون في بيتها أفضل، وأنه من الأفضل أن تلزم بيتها حتى في وقت الصلاة؛ فكيف ستقوم بواجب الإمامة والالتزام به، سواء في الصلاة أو فيما يخص الإمامة السياسية أو حكم البلاد؟

وفي مقابلتي مع الحاجة صفية، التي كنتُ ذكرتُها في مقالةٍ سابقةٍ من هذه السلسلة، ترفض عددًا كبيرًا من هذه الأفكار كما ذكرنا من قبل، فتقول: “هناك الكثير مما هو مباح في أحكام الشرع، لكنه محرّم أو غير مستحب بسبب المجتمع والأعراف والأنفس البشرية وغيرها”.

***

ما يجعلك تشعر -حتى وإن لم تُصرّح هي بوضوح – بأنها تميل إلى فكرة “عين الحقيقة” أكثر من “عين الشريعة”. وهذا ما ينقلنا أيضًا إلى ابن عربي، إذ يعترض ابن عربي على استعمال القياس، لأنه كأداةٍ عقليةٍ يسمح باستنباط أحكامٍ مجهولةٍ من أحكامٍ ظاهرةٍ واضحة، ويملأ فراغًا لا يقبل الامتلاء. ففراغُ الشريعة من أحكامٍ بعينها يجد تفسيره في لانهائية معاني الكلام الإلهي الذي يدل على الامتلاء، ولا يظهر الامتلاء جليًا إلا بجانب الفراغ، مما جعل القرآن يسكت عن بعض الأحكام وتغيب فيه نصوصٌ بخصوص وقائعَ محددة.

وما لم يعلنه الكلامُ الإلهي لا يقل أهميةً عمّا صرّح به، إذ إن حضورَ كلمةٍ في النص المقدس، بمعنى خاص، يخفي غيابَ كلمةٍ أخرى تحمل معنى أو معانيَ مستترة. ويفتح هذا الفراغُ في الشريعة مجالَ الإباحة أو الحرية لأن الدين يقصد التخفيف من التكليف (473).

وكما يقول الشيخ: “فإن كل سكوتٍ عنه فلا حكمَ فيه إلا الإباحةَ الأصلية (…) (474). سكوتُ الشرع عن بعض الأحكام لا يعني جهلَ المشرع – أي الله – بها، بل يقصد منه فتح المجال أمام الحرية الإنسانية، لأن حكم الأصل أن لا تكليف، وأن الله خلق لنا ما في الأرض جميعًا، فمن ادّعى التحجير علينا فعليه بالدليل من كتاب الله، لا يجوز”… نزهة براضة، الأنوثة في فكر ابن عربي، ص157.

***

تقول نزهة براضة في كتابها الأنوثة في فكر ابن عربي: جاء اسم (الخليفة) مؤنثًا كما يذكر الشيخ الأكبر: ثم إن الله أعطاه اسم الخلافة واسم الخليفة، وهما لفظان مؤنثان لظهور التكوين عنهما، فإن الأنثى محل التكوين، فهو في الاسم تنبيه، لم يقل فيه (تعالى) نائبًا، وإن كان المعنى عينه، ولكن قال الله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة (سورة البقرة، الآية 30). ولم يقل إنسانًا ولا داعيًا، وإنما ذكره وسماه بما أوجده له”.

في هذا السياق، تتبدّى إمامةُ المرأة في التصوف لا كوظيفةٍ اجتماعية بل كتحقّقٍ روحي، إذ إن «الشيخ» أو «القطب» عند الصوفية هو من تحقق بحقيقة العبودية، لا من حاز لقبًا أو مكانةً، ولهذا فإن الطريق مفتوح أمام المرأة كما الرجل للوصول إلى هذه المرتبة. يقول الجنيد البغدادي: «طرق الوصول إلى الله بعدد أنفاس الخلائق»¹، وهي عبارةٌ تفتح الباب واسعًا أمام شمول التجربة الصوفية لجميع من صدقوا النية، نساءً ورجالًا.

من إحدى ليالي الذكر بساحة الحاجة زكية
من إحدى ليالي الذكر بساحة الحاجة زكية
الجزء الأول: إمامة المرأة في التصوف – رؤية لا تحدها الأدوار التقليدية

في بنية التصوف الإسلامي، لا تُعرّف الإمامة بالسلطة أو النسب، بل بالتحقّق الروحي، أي ببلوغ مرتبةٍ من الصفاء تجعل صاحبها «دليلًا» للآخرين في سيرهم إلى الله. من هنا تصبح الإمامة الصوفية حالةً لا رتبة، وتغدو المرأة مؤهلةً لأن تكون «إمامة» إذا تحققت بها.

ففي الرسالة القشيرية، يورد أبو القاسم القشيري سِيَرَ عددٍ من النساء اللاتي بلغن مرتبة الإرشاد، مثل رابعة العدوية التي وصفها بأنها «قدوة لأهل المعرفة والزهد»².

إن الشيخ محيي الدين يقف معارضًا للمذاهب التي حرمت وأوجبت على المرأة مجالَ الفعل الديني والسياسي، وأشاعت نصًا آخر يقول: “لا يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة”، وهو قولٌ يتناقض مع أحاديث نبويةٍ أخرى، إذ ينفي التكافؤ بين المرأة والرجل، في حين يثبت الحديث الشريف: “النساء شقائق الرجال” التكافؤَ والمساواةَ بينهما. (الأنوثة في فكر ابن عربي، نزهة براضة، ص 161).

إن الحدسَ الأنثويَّ الذي تمتاز به النساء -كما يصفه ابن عربي في الفتوحات المكية – هو نوعٌ من اللطف الإلهي يجعل القلبَ أكثر قابليةً لتجليات الحق⁴. لذلك يرى الشيخ الأكبر أن للأنوثة في عالم الروح «رتبة إشراقية»، إذ «تظهر فيها حقيقة الحب الإلهي بأكمل صورها»⁵. ومن هذا المنطلق، يمكن للمرأة أن تكون إمامةً، لأن القيادة الصوفية ليست سلطةً ظاهرية، بل إشعاعًا باطنيًا.

الجزء الثالث: الإمامة الفقهية والإمامة الروحية – اختلاف المقصد والوسيلة

التمييز بين الإمامتين الفقهية والروحية أمرٌ جوهري لفهم التصوف.

فالإمامة الفقهية هي منصبٌ تنظيميٌّ يستند إلى معرفةٍ بالشريعة وأحكامها، وهي بطبيعتها ذكورية الطابع تاريخيًا، لأن المؤسسات الفقهية ظلّت تحت هيمنة الرجال. أمّا الإمامة الروحية فهي سلوكٌ وتحقيق، لا يحتاج صاحبها إلى إذنٍ أو إجازة، بل إلى صدقٍ في التوجّه.

وبناءً عليه، فإن المرأة التي تتحقق بهذه الصفات يمكن أن تكون «إمامةً» حتى لو لم تتولَّ أيَّ منصبٍ فقهي. وهذا ما عبّر عنه ابن عربي بقوله في الفتوحات: «قد تكون المرأة قطبًا، وهي الحقيقة المحمدية في صورتها الأنثوية»¹⁰.

***

فالإمامة الفقهية تعنى بـ«التوجيه الخارجي» -تعليم الأحكام وإدارة الجماعة – أمّا الإمامة الروحية فتعنى بـ«التوجيه الداخلي» – إصلاح القلب وهداية النفس. والمرأة في التصوف تتميز في النوع الثاني لأنها تمثل الوجه الرحيم من الحقيقة الإلهية.

ويعود ابن عربي مرةً أخرى لأقصى درجات ربط حصر فكرة الإمامة بالرجال فقط، فيقول إن فكرة منع النساء من الخروج للصلاة هي بالأساس فكرةٌ اجتماعية: “في زمانٍ أرادت العاداتُ منعَ النساء من الخروج إلى المساجد أو غيرها، يؤكد محيي الدين غيابَ نصٍّ دينيٍّ يبرز هذا المنع. ويكشف بشكلٍ مفصل أن محاصرة النساء داخل بيوت الأزواج تعود إلى غيرة الرجال، وليس إلى السند الديني أو العقلي، وأن هذا المنع يعبر عن أحوالٍ مزاجيةٍ ذكورية”. (نزهة براضة – الأنوثة في فكر ابن عربي، ص 160).

الجزء الرابع: المرأة كمعلمة ومرشدة في الطريق الصوفي

النساء في التاريخ الصوفي لم يكنّ ظلالًا لرجال الطريق، بل كنّ معلماتٍ روحانياتٍ لرجالٍ ونساءٍ على السواء. تروي المصادر عن فاطمة النيسابورية وشعوانة البصرية وأم علي الكوفية أنهن كنّ يلقين الدروس في الزهد والمحبة، ويؤوين المريدين إلى مجالس الذكر.

يذكر عبد الرحمن الجامي في نفحات الأنس أن بعض شيوخ خراسان «كانوا يأخذون الطريق على يد نساءٍ صالحاتٍ لما رأوا من سطوع نورهن».

هذه النماذج تبرهن على أن التصوف لم يُغلق الباب أمام المرأة كما فعلت بعض المؤسسات الدينية، فالتجربة الصوفية قائمةٌ على الذوق والمكاشفة، وهما أمران لا يمكن احتكارهما.

كما أن مفهوم «الشيخة» في الطرق الصوفية ظل قائمًا حتى العصر العثماني، خاصة في مصر والمغرب، حيث وُجدت طرقٌ كانت تُدار فعليًا بواسطة نساءٍ من نسل الأولياء، وكنّ يُعرفن بـ«الست» أو «السيدة».

الجزء الخامس: “الست الإمام” في الوعي الصوفي المعاصر

في العقود الأخيرة، بدأ حضور المرأة الصوفية يتخذ أشكالًا جديدة؛ من «الشيخة المرشدة» في الزوايا إلى الكاتبة أو الباحثة التي تُعيد قراءة التراث الروحي بمنظورٍ نسويٍّ واعٍ.

في المغرب والسنغال وإندونيسيا ومصر، توجد اليوم نساءٌ يتولين قيادةً روحيةً فعليةً داخل الطرق الصوفية، وإن كان ذلك بصيغٍ غير معلنةٍ رسميًا.

يشير بعض الباحثين إلى أن النساء الصوفيات «استعدن فاعليتهن التاريخية من خلال الحضور في ساحات الذكر والاحتفال، وتحولن إلى رموزٍ تربط بين الموروث والحداثة». والمتأمل للمشهد يجد أن هذا حاضرٌ بالفعل في مصر على وجه الخصوص، حيث -من وحي تجربتي ومشاهداتي – تؤدي المرأة دورًا مهمًا جدًا في الخدمات والساحات والتربية والإرشاد، لكنهن يقِلنَ غائباتٍ عن الساحات الرسمية. كما تمتد حالة الغياب هذه في أوقات الحديث عن فكرة الإمامة، بالرغم من توافد المريدين من كل حدبٍ وصوبٍ على مقامات نساء آل البيت وولياتهن الصالحات.

هكذا تتجلّى صورة «الست الإمام» – المرأة التي تجمع بين صفاء الروح وحنان القلب، وتُعيد تعريف القيادة الصوفية بما يتجاوز الذكورة الفقهية. إنها القيادة التي لا تستند إلى سلطة، بل إلى بركة، ولا تقوم على خطاب، بل على حضور، حتى وإن كان حضورًا في سياقاتٍ محددةٍ ومن دون اعترافٍ رسمي.

الخاتمة

إن إمامةَ المرأة في التصوف ليست بدعةً أو استثناء، بل جزءًا أصيلًا من بنية الطريق، لأن التصوف في جوهره تجربةٌ قلبية لا تُقاس بالجنس أو الشكل.

فالمرأة الصوفية، بصفائها وحدسها، تمتلك قدرةً خاصة على الشفاعة المعنوية والإلهام الباطني، وقد عبّر ابن عربي عن ذلك بقوله: «كل موضعٍ ظهر فيه الحق بصورة أنثى فهو موضع كمال».

وإن خلصنا إلى فكرة أن النساء شقائق الرجال، يتولين القيادةَ والإمامةَ بشكلٍ متساوٍ، فالمقالة القادمة ستكون عن كيف تُدير النساءُ الخدماتَ الصوفيةَ وكيف يُواجهن المتاعبَ التي تتضاعف لكونهن نساءً.

اقرأ أيضا:

نساء في حضرة البركة: «الست الولية.. حين تحمل النساء سرّ الولاية» (1-5)

الست التي تُعطي العهد: عن النساء اللائي ورثن السر الصوفي (2-5)

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.