رحلة الإسكندر الأكبر إلى سيوة.. من الفروسية إلى البارانويا!

بحلول عام 332 قبل الميلاد، كان الملك الشاب قد غزا مساحات شاسعة من الإمبراطورية الفارسية في الأناضول وسوريا والشام واتجه جنوبًا للاستيلاء على فلسطين وفينيقيا ومصر. فلم يكن الإسكندر الأكبر مجرد قائد طموح أو فاتح طامع في توسيع ملكه، بل كان روحا لا تهدأ وعقلا ينشغل بأسئلة فلسفية ربما زرعها فيه معلمه أرسطو. كما أن ظروف اغتيال والده وتحمله المسؤولية مبكرا قد وضعه أمام تحديات صعبة لم يكن آخرها دخول مصر التي وجد نفسه فيها أمام شعب له تاريخ وعقيدة يعتز بهما.

ويتفق المؤرخون على أن غزو مصر كان أمرا حاسما بالنسبة للإسكندر الأكبر لعدة أسباب يأتي في مقدمتها تأمين خطوط اتصالاته. وتقويض البحرية الفارسية التي كانت لا تزال قوية وتحتفظ بقواعد لها في مصر ما يشكل تهديدًا خطيرا على اليونان. وبالتالي كان عليه تدمير تلك القواعد وتأمين مصر من الأعداء الذين يمكنهم مهاجمة إمبراطوريته. وفوق كل ذلك لم يخفَ على أحد تطلعه إلى ثروات المحروسة.

في الوقت نفسه كان المصريون قد أرهقوا من الحكم الفارسي، فرحبوا بالإسكندر كمحرر ولم يقاوموا جيشه. وخلال فترة وجوده في مصر، قام الملك الشاب بإجراء إصلاحات مثل تنظيم القوات العسكرية وإدخال نظام الضرائب اليوناني وترميم معابد الآلهة المصرية وتقديم القرابين التقليدية وبناء مدينة الإسكندرية لتمجيد اسمه. وبذكاء واضح سعى الإسكندر إلى حكم مصر على نحو يكسبه احترام الشعب. فلم يصور نفسه على أنه طاغية بل على أنه حاكم جيد يصون كرامتهم وحريتهم وأسلوب حياتهم.

الحدود والأسئلة المؤرقة  

وقبل غزو الإسكندر عرف المصريون أهمية تأمين حدودهم، حيث بنى الملك أحمس، الذي حكم خلال الأسرة السادسة والعشرين، معبدا لآمون “ملك الآلهة” في منخفض عميق يُعرف بواحة سيوة التي تقع في قلب الصحراء باتجاه الحدود الشمالية الغربية مع ليبيا. وقد شيد هذا المعبد بهدف تأكيد السيطرة المصرية على الحدود وكسب تأييد القبائل الليبية.

وكان المسافرون اليونانيون على طرق القوافل من برقة يزورون معبد آمون أو معبد الوحي. وقد أعجبوا بما وجدوه وتحدثوا عنه لتتسع شهرته في أنحاء العالم اليوناني حتى أنهم دمجوا سيرته في أساطيرهم زاعمين أن المعبد أسسه ديونيسوس وزاره كل من هرقل وبيرسيوس. كما ساوى اليونانيون بين آمون وزيوس وأطلقوا على الإله المعبود في سيوة اسم آمون- زيوس.

ولم يكن الإسكندر ليتجاهل أهمية سيوة الجيوسياسية، كونها بوابة لمصر من الجهة الغربية. فضلا عن مكانتها الرفيعة في عقيدة الشعب بفضل معبد ملك الآلهة وصاحب النبوءات المصيرية. وقبل هذا وذاك سيدفعه شغفه للإجابة على الأسئلة التي تؤرقه فيقرر شد الرحال إليها.

ومن المرجح أن دوافع الإسكندر الأكبر للبحث عن إشارات مستقبلية أو نبوءات في سيوة كانت ذات شقين. فقد أراد إضفاء الشرعية على حكمه في عيون المصريين من خلال التصرف كحكامهم. ومن جانب آخر ترسيخ قنوات للتواصل بين الليبيين واليونانيين في برقة. كما تشير بعض المصادر إلى أن الدافع الإضافي كان الرغبة في محاكاة الغزاة العظماء وأبطال الماضي الذين زاروا المعبد.

 

***

وفي فبراير من عام 331 قبل الميلاد، انطلق الإسكندر وحاشيته من الجيش من مدينة ممفيس (ميت رهينة– البدرشين، محافظة الجيزة حاليا). ومعهم ما يكفي من الإمدادات للبقاء على قيد الحياة في الصحراء. وقد كانت الرحلة شاقة بسبب الحر الشديد وطول المسافة لكن ذلك لم يضعف من عزيمة الإسكندر بحسب المصادر القديمة. التي تؤرخ إلى أنه خلال الرحلة نفد الماء من المسافرين. فإذا بالأمطار الغزيرة تهطل لتروي عطشهم وتمدهم بما يحتاجون من الماء في إشارة إلى المدد الذي تمتع به القائد الشاب وصحبته.

كما لم يخلُ تاريخ تلك الرحلة من بعد أسطوري أيضا. حيث تقول المصادر إنهم ضلوا طريقهم بسبب عاصفة رملية، لكن اثنين من الغربان أو الثعابين قد أرشدوهم عبر الطريق. وبهذه التدخلات ظن الإسكندر أنه قد حصل على الرضا الإلهي وأنه سيصل بأمان إلى سيوة. على خلاف ما ذهبت إليه المصائر بآخرين ممن قصدوا المعبد. مثل الملك الفارسي قمبيز (حكم من 530 إلى 522 قبل الميلاد) الذي أرسل جيشًا لتدميره وابتلعت الصحراء جميع رجاله البالغ عددهم 50 ألفا بحسب المصادر.

ابن زيوس- آمون

ومن غير المعروف كم استغرقت الرحلة إلى سيوة لكن المصادر تتفق على أنه بمجرد وصوله، انبهر الإسكندر ببساتين النخيل والينابيع الباردة المحيطة بمعابد آمون الحجرية. وبناءًا على التعليمات، اقترب الملك الشاب من معبد الوحي بالاحترام اللازم وطلب سماع الرسالة الإلهية من كهنة آمون.

وهناك ثلاثة مؤرخين قد كتبوا عن لقاء الإسكندر مع الكاهن، وهم أريانوس وبلوتارخ وكوينتوس كورتيوس روفوس. ومن بين الثلاثة، يعتبر أريانوس الأكثر موثوقية لأنه استقى مباشرة من الجنرالات المقربين من القائد. ووفقا له، فإن الإسكندر تلقى ردا مرضياً في معبد النبوءات. لكنه لم يكتب شيئا عن أسئلة التي طرحها أو الأجوبة التي تلقاها.

وكتب بلوتارخ أن الكاهن استقبل الإسكندر باعتباره ابن زيوس-آمون. وأبلغه أن “إمبراطورية العالم مُدخرَة له” وأن جميع جرائم القتل التي ارتكبها فيليب المقدوني قد تمت تسويتها. فيما قال الروماني كوينتوس روفوس، الذي تعرض لانتقادات باعتباره غير موثوق به للغاية، إن الكاهن استقبل الإسكندر باعتباره ابن آمون. حيث استفسر عن إمبراطوريته ومصير قتلة أبيه. وأضاف روفوس أن رفاق الإسكندر سألوا عما إذا كان من المقبول بالنسبة لهم تقديم التكريم الإلهي للإسكندر. وأنهم حصلوا على إجابة بالإيجاب.

وبهذه الروايات التي جاءت في صالح القائد الشاب أصبح هناك إسكندر ما قبل سيوة وإسكندر ما بعدها. فقد مثلت زيارته لمعبد الوحي نقطة تحول في تاريخه السياسي والشخصي. حيث تشير المصادر إلى أنه أصبح بعدها أكثر استبدادًا ولا يمكن التنبؤ به. كما لاحظ رفاقه تحولًا في سلوكه وظهرت عليه علامات جنون العظمة أو البارانويا خصوصا بعد ما تم تصويره على العملات المعدنية بقرون كبش تخرج من رأسه، وكان هذا رمزًا للإله زيوس- آمون ويُفهم على أنه إعلان الإسكندر عن ألوهيته.

***

 ويذهب المؤرخون في تفسير ما طرأ على الإسكندر من تغيرات إلى أسباب سياسية. من حيث رغبته في إضفاء الشرعية على نفسه في عيون المصريين، الذين اعتادوا معاملة الحكام كآلهة أو بخصائص الآلهة مثلهم كمثل معظم شعوب مناطق الشرق الأدنى. لكن الأمر تجاوز ذلك إلى طلبه من أعضاء المحكمة الركوع أمامه وكان ذلك سببا في امتعاض الكثير من رجاله. لأنه بالنسبة لليونانيين كان مثل هذا الفعل مخصصًا للآلهة فقط.

وفيما تابع الإسكندر حملاته بمزيد من الثقة والشجاعة، ظل الغموض يكتنف الرسالة التي  تلقاها في معبد الوحي. كما ساهمت تلك الزيارة في إضفاء طابع أسطوري على شخصيته، سواء خلال حياته أو عبر صفحات التاريخ. لكن بعيدا عن اختلاف الروايات والتأويل ربما يحق لنا أن نسأل: هل وجد الإسكندر الأكبر إجابات عن أسئلته المحيرة في سيوة؟ هل عرف مكانته جيدا بعدما تلقى نبوءته فلم يعد يرى نفسه بشريا؟ أم أن هذه مصر التي تخلق أساطيرها على طريقتها الخاصة؟

بقي أن نشير إلى أن هناك نظرية تفيد بأن الإسكندر الأكبر قد دفن في سيوة حيث نقل جثمانه بعد وفاته. غير أن الدلائل على ذلك ضعيفة ربما بسبب ندرة جهود التنقيب الأثري في المنطقة وتعدد النظريات حول موقع مقبرته. الذي يظل لغزا غامضا تماما مثل حياته وبطولاته وتحولاته.

المصادر:  
  • موقع المتحف البريطاني.
  • قاعدة بيانات قسم الكلاسيكيات والتاريخ القديم، كلية الآداب، جامعة وارويك، إنجلترا.
  • الموسوعة التاريخية.
اقرأ أيضا:

«الإسكندر الأكبر»: محاضرة طه حسين في كلية الآداب عام 1924

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر