هل تعود الحياة إلى صهريج «ابن النبيه» الأثري بالإسكندرية؟

في قلب مدينة الإسكندرية القديمة، حيث تتناثر المعالم الأثرية بين الأزقة الضيقة والمباني التراثية، يقف صهريج «ابن النبيه» كواحد من أقدم وأهم الشواهد على عبقرية العمارة الإسلامية، التي صمدت قرابة 600 عام. لكن، بدلا من أن يكون مزاراً ثقافياً وتاريخياً، تحول محيطه إلى مكب للقمامة ونقطة تجمع للنباشين. وألقيت لافتته الأثرية داخل الأسوار، بينما تصدّرت مكانها لافتة إعلان تجاري! الموقع مغلق بالأقفال، بلا خطة تطوير، ولا حتى إشارة تُعرّف الزائر بتاريخ الصهريج ومكانته.
مخالفات بيئية وأثرية.. رفع القمامة بعد شكاوى متكررة
يقول تامر ذكي، الخبير الأثري، إنه قدم عدة شكاوى إلى عدد من الجهات المعنية لرفع كفاءة النظافة بمحيط الصهريج الأثري. الذي تحول ملتقى لـ”النباشين” المتواجدين باستمرار أمام هذا الموقع، في مخالفة صريحة لقوانين الآثار والبيئة. حيث يقومون بفرز القمامة من الصناديق الموجودة أمامه. ويضيف: “أخيرا تمت الاستجابة وتم رفع صناديق القمامة من محيط الصهريج”.
ويؤكد أن صهريج “ابن النبيه” يعد من أهم الصهاريج العمومية في مدينة الإسكندرية. وهي الصهاريج العمومية التي كانت تخدم عامة المدينة دون ارتباط بمنشأة بعينها. وقد تم تسجيل الصهريج ضمن الآثار الإسلامية والقبطية منذ عام 1951 بقرار رقم 10357. ويعد من أهم وأكبر الصهاريج التي تعود للعصر الإسلامي.

عمارة إسلامية نادرة.. الصهريج الذي خزن الحياة
يعد صهريج “ابن النبيه” من أبرز خزانات المياه التاريخية في الإسكندرية. حيث كانت المدينة تعتمد عليه في حفظ المياه لاستخدامها في الشرب والطهي وسقي الدواب، وسائر الأغراض الحياتية المختلفة.
ويتكون الصهريج من ثلاثة طوابق تحت سطح الأرض، وتبلغ أبعاده نحو 11×13 مترا. ويضم نحو 48 عمودا من الجرانيت، تتميز بتيجانها وقواعدها وأبدانها ذات الطرز المختلفة.
ويحمل بعضها رموزا وعلامات مسيحية، ما جعل البعض يظن أن المكان يعود للعصر الروماني. لكن في الحقيقة أن العمارة الإسلامية كثيرا ما أعادت استخدام أنقاض الأبنية القديمة، وهو نمط شائع في بعض الطرز الإسلامية.
ابن النبيه.. قاضي المدينة وعالمها
يُنسب الصهريج إلى محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن صالح بن حسن، المعروف بـ”ابن النبيه”، الذي توفي عام 862هـ. وكان من علماء الدين والدنيا في القرن التاسع الهجري. وقد عمل قاضيا في مدينة الإسكندرية، واشتهر بين أهلها من الفضل والصلاح، فأطلق اسمه على الصهريج تخليداً لذكراه.
وكانت الإسكندرية تحتاج إلى صهاريج المياه لتخزين احتياجاتها من المياه الصالحة للشرب ولأمور الحياة اليومية. ولهذا انتشرت الصهاريج في المدينة، وتنوعت بين عمومية وبلدية. فالعمومية كانت صهاريج منعزلة تخدم المدينة ككل. أما البلدية فكانت ملحقة بمنشآت معينة كالمساجد والوكالات والبيوت.
وقد خضع الصهريج لعدة عمليات ترميم، أولها عام 1892 بمعرفة لجنة حفظ الآثار العربية، وتبدو آثاره واضحة بالطابق الثالث من الصهريج من خلال كتل الأحجار المميزة. وفي عام 2007، عملت بعثة فرنسية على ترميم أجزاء أخرى من الموقع. واستكملت بعض الحفائر للكشف عن سقف الصهريج، وأزالت إضافات حديثة غير أصلية، وأعادته إلى حالته الأولى.
«سيرة الإسكندرية».. مسار جديد لإنقاذ الصهريج
أوضح مينا ذكي، مؤسس مبادرة “سيرة الإسكندرية”، أن المبادرة أطلقت مؤخرا ضمن جولاتها مسارا خاصا بشارع السلطان حسين. لإبراز الجمال المعماري به ومبانيه القديمة، وأبرز السير الذاتية التي كان شاهدًا عليها.
وأكد أن من أهم أهداف هذا المسار هو إعادة ترميم وفتح صهريج ابن النبيه للزيارة أمام الجمهور. فضلا عن تعليق لافتات إرشادية وتوعية بكافة آثار الشارع. وعبر عن استيائه من استبدال اللافتة الأصلية الدالة على موقع الصهريج بلافتة إعلانية تجارية، وإلقاء اللافتة الأثرية داخل الأسوار.
وأشار إلى أنه تواصل شخصيًا مع عدد من رجال الأعمال السكندريين لبحث فكرة تمويل ترميم الصهريج وفتحه للزيارة، وتركيب لافتات إرشادية جديدة. خاصًة أن تكلفة ترميم المكان ليست مرتفعة مقارنة بقيمته التاريخية. ورغم الترحيب بالفكرة، إلا أنه لم يتلق ردا نهائيا حتى الآن لبدء العمل.
شاهد على عبقرية نظم المياه بالإسكندرية
تحدث المهندس مجدي صباغ، المتخصص في التراث المعماري، عن صهريج ابن النبيه، مؤكدا أنه يحمل قيمة أثرية وسياحية كبيرة، بحكم موقعه وسط منطقة أثرية وتاريخية. وهي حديقة الشلالات وطابية النحاسين.
وشدد على أهمية إعادة فتح الصهريج بعد ترميمه وتأمينه، وتحويله إلى متحف يعرض نظم تغذية المياه بالإسكندرية القديمة. لأنه يجسد عبقرية النظام المائي في المدينة، ويعد شاهدًا على نظام هندسي متطور سبق عصره. وأضاف: “يجب نقل هذه المعرفة للمجتمع السكندري والسياح، فالمكان يعد ثروة أثرية حقيقية”.
وتابع: “تكلفة الترميم وإعادة التأهيل معقولة نسبياً، والمكان يستحق الكثير منا بالفعل. هناك بالفعل هيئات مهتمة بالتراث السكندري أعدت مشروعاً لإحياء الصهريج. وتم عرضه بالفعل على وزارة الآثار، لكن حتى الآن لم يتخذ فيه أي إجراء رسمي. وهو ما يعد خسارة سياحية كبيرة للإسكندرية”.

«هرتز باشا»: معماري له فضل كبير على تراث العمارة الإسلامية في مصر
متحف للمياه.. مشروع مؤجل ينتظر الانطلاق
يسترجع المهندس المعماري د. محمد عادل الدسوقي تاريخ نشأة مدينة الإسكندرية، موضحا أنه منذ تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر، كانت في حاجة إلى صهاريج لتوصيل المياه لسكانها.
ويقال إن عدد الصهاريج بلغ نحو 700 صهريج لخدمة المدينة. لكن المتبقي منهم حاليا عدد قليل جدا، وما تم تسجيله في عداد الآثار هم خمسة صهاريج فقط. من بينها: صهريج الباب الأخضر، صهريج ابن بطوطة في منطقة كوم الناضورة، صهريج المباهما، ودار إسماعيل. ويعد صهريج ابن النبيه الأهم والأكبر من حيث الطراز المعماري.
ويناقش «الدسوقي» مسألة إعادة فتح صهريج ابن النبيه قائلا: “فتح الصهريج مسألة ليست سهلة، وتحتاج لتفكير عميق عن كيفية فتحه: هل سيكون متاحا للزيارة وتدخله الجماهير؟ أم يكون جزءا من عرض متحفي؟ أم نكتفي برفع كفاءة محيطه ليشاهده الزوار من الخارج فقط؟ الفكرة تحتاج إلى دراسة دقيقة”.
ويضيف أن المركز الفرنسي للدراسات السكندرية أعد منذ سنوات مقترحا لإنشاء متحف عن المياه تاريخ الإسكندرية الهيدروليكي. مشيرًا إلى عراقة هذا التاريخ وأهمية عرضه للجمهور. كما طرح المعماري السكندري الكبير د. محمد عوض مقترحا مشابها، يتضمن إنشاء مبنى ومتحف متخصص في تاريخ المياه. يضم كافة التفاصيل المعمارية والهيدروليكية. لكن، للأسف، لم ير أي من المقترحين النور حتى اليوم.
محاولات وأفكار لإنقاذ صهريج ابن النبيه الأثري
يضيف «الدسوقي» أنه شاهد في الوقت الراهن على عدة محاولات واقتراحات وأفكار لإعادة استخدام هذا الصهريج الذي لا مثيل له. صادرة عن جهات بحثية سكندرية متعددة. ورغم وجود صهاريج أخرى في مدن مصرية مختلفة، فإن صهريج ابن النبيه يتميز بعمارة لا مثيل لها، ومساحة فريدة تجعله متفردا عن غيره.
ويؤكد أن وزارة الآثار المصرية تبدي اهتماما بإعادة إحياء هذا المعلم الأثري المهم في تاريخ مصر عامة، والإسكندرية خاصة. ويشير إلى أن الموقع الجغرافي للصهريج يجعله أكثر تميزا، فهو في قلب المدينة، ويعد منشأ نادرا من الناحية المعمارية. كما يلفت إلى تدفق الجهود البحثية والمجتمعية حاليا لإعادة إحياء الصهريج، معربا عن أمله في أن تكلل هذه المحاولات بالنجاح عبر دراسة علمية متأنية.
قرار حاسم ينتظر الإرادة
وسط هذه الجهود البحثية، والمبادرات المجتمعية، ومقترحات الترميم المتعددة، يبقى القرار الحاسم معلقًا. ويختتم الدسوقي بقوله: “الصهريج يحتاج لتمويل، ودراسة علمية، وإرادة رسمية”. هذا المعلم الأثري الفريد لا مثيل له، ويمثل فرصة ذهبية لإحياء جزء من تاريخ الإسكندرية المائي والمعماري، في قلب المدينة”.
اقرأ أيضا:
مبنى السلطان حسين بالإسكندرية.. من مقر تاجر قطن إلى مركز للعرض الفني والمتحفي
«في حضرة المقام».. مشروع بحثي لتوثيق ذاكرة منطقة بحيرة مريوط
معرض «الابتسامة الذهبية».. حين تصير الهشاشة فنًا والمقاومة ملامح