«مجدي نجيب».. الفنان الذي يكتب الشعر كلوحة تشكيلية

رحل الأربعاء الماضي الشاعر الغنائي مجدي نجيب (29 مايو 1936 – 7 فبراير 2024) عن عمر ناهز 88 عاما، بعد صراع مع المرض. هنا نتذكر معكم بداياته قبل دخوله عالم الشعر والتأليف.

في الخمسينات بدأ الشاب الصغير «مجدي نجيب» العمل في مصنع ماتوسيان بالجيزة. ووقتها كان المد الشيوعي في ذروته. تعرف «نجيب» على سكرتير نقابة العمال ويدعى «أحمد عبدالجواد شلبي» وبدأ يمارس هوايته الأثيرة لنفسه من الطفولة وهي الكتابة. فتولى تحرير مجلة الحائط بالمصنع وكتب مقالا عن إهمال عيادة الشركة الخاصة بالعمال والمستخدمين فجاءه بإنذار بالفصل. وعندما تكررت كتاباته نُقل هو والمشتركين بالمجلة إلى مركز «ببا» للعمل في الشركة الشرقية للدخان. ولم يثنيه النقل والإنذار بالفصل عن تغيير فكره والكتابة.

خلاف عبدالناصر والشيوعيين

وفي نهاية عام 1958 حدث الخلاف بين عبدالناصر والشيوعيين والذي أسفر عن حملة اعتقالات عنيفة. استمرت طوال عام 1959 والتي بدأت من أول أيام العام نفسه. وكان نصيب مجدي نجيب منها أن حرر الصاغ “عبدالمعطي موسى” مفتش المباحث العام فرع بني سويف، محضرا. أثبت في تحرياته أنه وصل إلى علم الإدارة أن مجدي أحمد نجيب، الموظف بشركة الشرقية للدخان بـ”ببا”. والمعروف بميوله ونشاطه الشيوعي يجري عقد اجتماعات بمنزله وأماكن أخرى يدعو فيها إلى الشيوعية ومناهضة الحكم الحاضر.

وبالفعل توجهت المباحث في 30 إبريل 1959 إلى مقر مخازن الشركة وضُبط مجدي نجيب وتم تفتيشه، فلم يعثر على شيء يخالف القانون. توجهت قوة المباحث إلى منزله وأثناء التفتيش عثر على كراسات بها مذكرات شخصية وخطابات وعناوين وأوراق عليها قصائد شعرية وبعض الكتب. لم يكن نجيب يعرف أنه قيد المراقبة منذ نقله إلى “ببا” في أغسطس 1958. بل كانت المباحث تعد عليه أنفاسه هو والمجموعة التي معه.

وعندما قبُض عليه كانت المفاجأة هي حصر كل كتاباته واجتماعاته حتى العبارات التي كتبها بخط يده على جدران بعض المنازل والمدارس ببندر ببا. وقامت المباحث بتصويرها ومطابقة الخط المكتوب به بخطه. ومن الأوراق التي عثرت عليها المباحث أيضا مراسلات بينه وبين “فتحي خليل” سكرتير مجلة رواليوسف وقتها. والذي كانت تربطه به صلة كتابة الشعر والقصص. وهي صلة لم تكن فقط مع فتحي خليل بل كانت مع مجلة روزاليوسف وصباح الخير وامتدت لسنوات. سجن مجدي نجيب أربع سنوات وخرج عام 1963 لعالم الصحافة والشعر والرسم وكذلك المعارك.

أول ما كتب نجيب في صباح الخير
أول ما كتب نجيب في صباح الخير
البداية الأولى والمعركة الأولى

بعد الخروج من السجن بدأ مجدي نجيب ينشر بعض من قصائد ديوانه الأول “صهد الشتا” في مجلة صباح الخير وذلك عام 1963. وكانت “صباح الخير” معروفة بتبني كل موهبة شابة.

وعن مجدي نجيب تحديدا كتب في المجلة: “البذور الصغيرة التي ألقيت منذ سنوات على صفحات هذه المجلة أصبحت الآن نباتات كبيرة. مختلفة الألوان والأشكال كلها تضج بالحياة وتملؤها في النمو. الشعر العامي الذي أعطته صباح الخير كل ما أمكنها من حب ورعاية. أصبح الآن ظاهرة أدبية من أقوى الظواهر وأشدها التصاقا بحركة الجماهير.

فقد أصبح الشعر العامي الآن المعبر الأول عن الآمال والآلام التي تتحرك في نفوس شعبنا. ومنذ أسابيع ظهر ديوان جديد لشاعر جديد فتحت له صباح الخير صفحاتها منذ حوالي سنة. هذا الشاعر هو مجدي نجيب وجاء مجدي يحمل لنا الديوان وعلى قدر الفرحة التي ملأت نفوسنا بالديوان كان تحفظنا أمامهن. فظهور ديوان من الشعر العامي هو بلا شك وثيقة تدين الحركة وتقيمها. والديوان ليس كالقصائد المتناثرة فعلى الرغم من أن جمهور قرائه قد يكون أقل من جمهور قراء المجلة إلا أن أثر الديوان أبعد مدى”.

يقول مجدي نجيب عن تجربة ديوانه الأول: “بدأت أبحث عن أحد يكتب لي المقدمة فلم أكن معروفًا وساعدني كمال عمار وعرفني على شاعر دارس للفلسفة اسمه مجاهد عبدالمنعم مجاهد. وكتب دراسة حوالي 50 صفحة عن ديواني الأول الذي حمل عنوان صهد الشتا. وأحدث الديوان رد فعل قويًا فقد كان الدارج وقتها كتابة الشعر العامي بكلمات سلسة ولكنى كسرت القاعدة. فعندما شرعت في الكتابة كنت قد خرجت من المعتقل على أثر عملي في السياسة. لذلك كان يسيطر علي شعور حزين. وقد استخدمت صورا مركبة للتعبير تتناقض مع سلاسة الشعر العامي المتعارف عليه الذي كان يكتبه كل من الأبنودي وسيد حجاب وصلاح جاهين وفؤاد حداد، مما دفع الكثير لمهاجمتي”.

 

هجوم وتوسط الشعراء

كان على رأس من هاجم مجدي نجيب هو الكاتب الساخر محمود السعدني. والذي لم يكتف بمهاجمة نجيب وحده بل هاجم كاتب مقدمة الديوان أيضا “مجاهد عبدالمنعم مجاهد”.

أحدث هجوم محمود السعدني على الشاعر الجديد مجدي نجيب هزة كبيرة. وقد تدخل العديد من الكتاب والشعراء دفاعا عن تجربة الشاعر الصاعد ومنهم صلاح جاهين وسيد حجاب وسيد خميس. وظل نجيب يتذكر هذا الهجوم سنوات طويلة ويذكره في حواراته قائلا: “لم يغضبني النقد لأني اكتب الشعر وتنقطع علاقتي به بعد ذلك”.

وكذلك كان ديوانه الأول مفجرا لأزمة الشعر العامي وتجاهل النقاد لهذا النوع من الشعر بل وتعاليهم أحيانا عليه. فكتب سيد حجاب عن صهد الشتا: “تتمثل الأمة ببساطة في جملة اتهامات رخيصة وغير فنية تحول بين هذا الشعر وبين النشر على مستوى جماهيري. كما تتمثل في تجاهل مر من النقاد الأكابر لهذا النوع من الشعر. الاتهامات هي نفسها التي واجهت صلاح عبدالصبور وحجازي فشعراء العامية شعبويون وقرمزيون ولا يعرفون أمور لغتهم وشعرها ثم هم أكثر من ذلك زجالون”.

رحلة مجدي نجيب في دار الهلال

كانت البداية الحقيقية لمجدي نجيب في الصحافة والشعر والرسم والكتابات النقدية في دار الهلال وبالتحديد مجلة “الكواكب”. وذلك في الفترة التي ترأس تحريرها الأستاذ “رجاء النقاش” وبدأ نجيب يجري حوارات هامة ويتطرق إلى أزمات فنية وفكرية. وكذلك ملأت رسومه إصدارات دار الهلال المختلفة مثل مجلة سمير والكواكب. لم يؤثر عليه الهجوم الذي استقبل به ديوانه الأول ولم ينعكس على كتاباته. بل العكس كان مجدي نجيب مشجعا للكتاب والمطربين الشباب وأبناء جيله.

وقد كتب في مجلة الكواكب العديد من المقالات عن مواهب شابة لم تجد الرعاية الكافية فاتخذ من نافذته “خطاب مفتوح إلى….” منبرا لإلقاء الضوء على قضايا وشخصيات. فنجده يرسل خطاب مفتوح إلى “طه نصر” رئيس مجلس إدارة صوت القاهرة يطالبه بتشجيع وتبني موهبتي محمد حمام وعفاف راضي.

ويرسل خطاب مفتوح إلى “فاروق خورشيد” مدير إذاعة الشعب يعتب عليه كثرة المادة الكلامية غير الجذابة والتي يعجز المستمع عن الصمود للإنصات لها وقلة المواد التمثيلية الجديدة، لأن معظم ما يقدم للإذاعة مواد قديمة.

ثم يهاجم مجدي نجيب هبوط مستوى الأغاني التي تبثها الإذاعة ويطلق عليها لقب “زبالة أغاني” قائلا: “فكل الغث الردئ الذي يمكن إطلاق عليه زبالة أغاني تمتلئ به فترات المحطة. ربما يرجع ذلك إلى إصرار إذاعة الشعب على تقديم صغار المطربين المغمورين للجمهور وهذا منطق سليم. ولكن يجب أن تختار هذه الأغاني بذوق سليم”.

ويكتب أيضا خطاب مفتوح إلى الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، يتحدث فيه عن سينما الطفل ومدى العجز الكبير الموجود في هذا المجال. والاعتماد على شخصيات أجنبية مثل سوبر مان والرجل الوطواط وما فيهم من أفكار ضارة تعلم الأطفال العنف والقتل. ويطلب من الوزير إقامة مدينة للأطفال على غرار مدينة الفنون نعرض فيها كل ما هو قريب من وجدان الطفل العربي.

كتب مجدي نجيب مشجعا أيضا الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي واصفا إياه بالطائر الأسمر. وذلك عقب نشر ديوانه “الزحمة” ويسدي نصيحة للأبنودي قائلا: “أخشى على الأبنودي انجذابه الشديد نحو المدينة التي قد تفقده رائحة الطين في بلده أبنود ورائحة ناسه الحقيقيين”.

محطة الإذاعة

بعد النكسة هاجم مجدي نجيب بعنف نوعية الأغاني التي تذاع في محطة الإذاعة. وذلك في مقال بعنوان: “العذاب الحقيقي أن نقهر الضعف”. بدأ مقاله متسائلا عن الإصرار المؤسف المخجل على الاستمرار في نماذج “بعيد عنك حياتي عذاب” و”نار يا حبيبي نار” و”بصراحة بكل صراحة مالقتيش في حبك راحة”. ويتابع تساؤلاته: “لما الإصرار على إرغامنا استنشاق هذا الرصيد اليومي من العواطف المزيفة الكريهة من أغاني التنهدات؟”.

وبجانب الكتابة والشعر والرسم مارس أيضا مجدي نجيب الحوار الصحفي واستطاع إجراء حوارات هامة مع العديد من نجوم الفن في العالم العربي. مثل محمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وفايزة أحمد وأحمد فؤاد حسن وغيرهم. وساهم في الرسوم التعبيرية للعديد من القصائد التي كانت تنشر في مجلات دار الهلال. بل أنه رسم الكاريكاتير الساخر وذلك عندما غاب الفنان بهجت عن نافذته الأسبوعية “تفانين” حل محلة مجدي نجيب.

وقد كتب: “هذه الصفحة ملكية خاصة لعمي الفنان بهجت ومسجلة لشخصه تحت اسم “تفانين” وطالما ملأها بالتفانين. وقد تجرأت في غيابه بالعبث فيها كما ترون واعتقد أنه سيصفح عني، علشان إحنا في العيد”.

التجربة الغنائية لمجدي نجيب

“إنني كنت أرى في تأليف الأغاني عارًا”. هكذا تحدث مجدي نجيب عن تأليف الأغاني وكان هذا هو رأيه وكان يقول أن الشاعر حين يكتب الأغنية سيقدم تنازلات على حساب إبداعه الشعري بحكم طلب المطرب أو الملحن. إلى أن أقنعه الموسيقار بليغ حمدي عام 1966 فقدم إليه الكلمات بعد أيام.

ولكن بليغ رفضها وقال له: “اسمع المزيكا دي أنا شايف أحسن لو تكتب عليها كلمات مناسبة وكانت أغنية “قولوا لعين الشمس ماتحماشي”. وهي أولى أغانيه في الإذاعة، لتتوالى بعد ذلك الأعمال الغنائية لكبار المطربين والمطربات ليصبح واحدا من أهم المواهب الاستثنائية في مصر. فكتب شعر العامية وأبدع في الفن التشكيلي والنقد الفني والأدبي. وكذلك رسم وكتب للأطفال في العديد من المجلات. وتحدث عن هموم الأغنية العربية في كتابه الرائع “أهل المغنى” الذي صدر منذ خمسين عاما وكتابه الآخر “من صندوق الموسيقى- زمن الغناء الجميل”.

اقرأ أيضا:

في ذكرى رجاء النقاش: عندما حاول العقاد تحطيم رأس الناقد الشاب

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر