نبيل عبد الفتاح يكتب: السينما والناقد والتغير في رؤى العالم

(مقال إهداء الى الأصدقاء سمير فريد، وصلاح هاشم، وعصام زكريا)

هل من الممكن تصور العالم من دون السينما؟

سؤال يتبادر الى ذهني بين الحين والحين، على الرغم من الوعي الذاتي، أنه سؤال لم يكن مطروحا، قبل مغامرة الأخوين لوميير البديعة الساحرة، التي أعادت صياغة رؤيتنا لذواتنا والعالم من حولنا، وفتحت الأبواب أمام التعرف البصري على ثقافات العالم، وقيمه، وأنماط سلوكه، وجمالياته، وسردياته البصرية، بل وأسست السينما، ومعها التصوير الفوتوغرافي، لكبار مصوريه، لثقافة العيون، التي أضافت الى الثقافة البصرية أبعادا جمالية فذة، والأخطر إرهاف الوعي البصري والاجتماعي، بالتعدد والاختلاف..

من هنا تبدو مشروعية السؤال الذي يبدو بسيطا وساذجا، العالم بدون الموسيقى والسينما، سيبدو جحيما أرضيا لايطاق!

من هنا تبدو، السينما في بعض وجوهها، سحرا ما وراء السحر، وواقعا ما وراء الواقع، من خلال التضافر، بين حركية الصورة، وتدفق الموسيقى المصاحبة لها، في توشيجات، وتمازجها، وكيمياء بصرية فذة، في أعمال كبار المخرجين لامعي الموهبة، وعمق الثقافة والوعي الإجتماعي والسياسي، لاسيما سينما الواقعية الجديدة، والموجة الجديدة، وسينما المؤلف.

السينما ومعها الموسيقى، في كافة مدارسهم وتطوراتها، ورموزها الباهرة، لم تكن محض إستهلاك بصري لسردياتها، وحكاياتها الساخرة، والميلودرامية، أو الكوميدية، أو التراجيدية، فقط، وقت أن اعتمدت على النصوص الأدبية، تنهل منها حكاياتها الفيلمية التي إعادت بناءها ومعها فضاءاتها التخيلية.

***

وإنما إكتسبت السينما فرادتها، ومكتسباتها، وتطوراتها التقنية، من اعتمادها  على الرأسمال الخبراتي التقني، والبصري، والسردي من داخلها، عبر خبرات التصوير والسيناريو، والإخراج، والتمثيل، وثقافة الحيز المكاني، منظومة كاملة متضافرة في الإنتاج الإبداعي للعمل السينمائي، وتكامل الجماعة السينمائية، ثم التركيز من قبل الخطابات النقدية والسينمائية على السردية السينمائية مثل التمثيل والإضاءة، والسيناريو. وحركة الكاميرا، والإخراج بوصفه سيد العمل السينمائي وذلك وفق المنطلقات النظرية لكاتب السيناريو والحوار والمخرج، والدور الرائد للناقد السينمائي، سواء أكانت هذه المرجعيات الخلفية لهم/هن أيديولوجية، أو فلسفية أو جمالية – أيتيقية-  ومن ثم دوره في تصنيف  وتحليل  الأفلام وفق توجهات المخرجين وكتاب السيناريو والحوار،من منظور الانتماءات السياسية، أو من منظورات فنية، وتقنية وفق مدارس الإخراج السينمائي على إختلافها، وخاصة الأوروبية، والإيطالية والفرنسية والألمانية، والاسبانية، وسينما أوروبا الشرقية- ألمانيا الشرقية، والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا الخ.

وقد تجددت الخطابات النقدية، مع تطور هذه المدارس السينمائية والإخراجية، وتبلور مقاربات نظرية وتحليلية مستمدة من تطور الفن السينمائي، وتشكلت اللغة النقدية من إبداع نظريات ومصطلحات مستمدة من الفنون السينمائية ومن داخلها وبعضها من فنون آخري..

لا شك أن دور النقد السينمائي، في التكوين النظري والتحليلي والثقافة البصرية، هو نتاج للمعرفة والوعي البصري، والشغف بالسرديات السينمائية والتكوين المعرفي العريض بالفلسفة، والأدب، لاسيماالشعر والرواية والقصة والمسرح والفنون التشكيلية، لأنها روافد معرفية وفنية أسهمت في إرهاف حساسية المخرج المبدع، والناقد الخلاق، وعبرهما تطورت السينما إخراجا ونقدا..

ربما لايحتاج المشاهد العادي للسينما، أيا كان تعليمه، أو أميته، الى الناقد وتحليلاته للأعمال السينمائية، لأنها تخاطب الجموع، من خلال السردية البصرية والتمثل، وتعتمد على تمثل المشاهد، أيا كان لهذه السردية التي تخاطب عيونه وعقله ووجدانه، والتمثل البصري السينمائي نسبي، ويستطيع المشاهد الآن أن يعيد سرد الفيلم، وفق ما إسترعى إنتباهه، وغالبا مايكون سردا مشحونا بأثر العمل على المتلقي العادي وسعيد سرده وفق تخيلاته.

أفيش فيلم شباب امرأة
أفيش فيلم شباب امرأة

من هنا خاطبت السينما العالم كله، ولم تحتاج الى وسائط سوى الترجمة، أو نقل الحوار الى لغة المشاهدين في ثقافات ولغات أخرى.

***

يبدو لي أن دور الناقد الخلاق للسينما، بقطع النظر عن دوائر مستهلكي نقد السينما بين بعض المثقفين، والمتعلمين في عصر الثقافة الورقية، كان بالغ الأهمية، في الإرتقاء بالسينما عموما، وبالوعي البصري، والإرتقاء بثقافة العيون في المجتمعات الحديثة ومابعدها وفي عصر المابعديات السائلة، حتى لحظة انتقالنا الى عالم جديد الآن – الروبوتات، والأخيلة السينمائية، والذكاء الصناعي، دورا بارزا في تطوير الفن السينمائي، في كافة عناصره..

***

السينما والناقد الخلاق، إستطاعوا أن يلعبوا أدوارا هامة في تطور الفنون الأخرى، عبر الناقد أساسا، ومعه المخرج المبدع، والمصور، وكاتب السيناريو والحوار، وذلك الى ثقافات العالم كله، وذلك على النحو التالي:

  • أدى التطور النظري والتطبيقي للخطاب النقدي السينمائي، الى التأثير على ثقافة الصورة، والمكان، لدى الشعراء والروائيين والقصاصين والمسرحيين، وثمة استلهام للصورة السينمائية، وحركيتها في الأمكنة، على الصورة الشعرية، وعلي السرديات القصصية والروائية، بما فيها شعر العامية المصرية، لدى عديد الشعراء من أجيال مختلفةفي مصر مثالا.
  • ساهم تطور كتابة السيناريوهات والحوارات في السينما، على بنية السرديات الروائية والقصصية، وعلى بناء القصة، وعلى مجازاتها اللغوية، والأهم أنها أدت الى نقل الحركة في الفعل التصويري وسرعتها ونقلاتها الى السرد، والقصيدة، لاسيما منذ جيل السبعينيات في مصر حتى جيل العشرية الأولى من الألفية الجديدة.ومن ناحية أخرى ساهمت السينما في تسهيل الكتابة الروائية منذ الستينيات وإلي الآن، من خلال المحاكاة والإستعارة،و—إعادة الصياغة للحبكات، وهو جيل البست سيلر best-seller السائد،بقطع النظر عن مستوى هذا النمط من الكتابة

إبداعيا، إلا أنه أدخل قطاعات من الأجيال الشابة الى السوق القرائي..

  • إنتاج الخطابات النقدية السينمائية، أسهم في إثراء الثقافة –من خلال تنظيراتها، على نحو مافعل بعض الفلاسفة الفرنسيين – بالسينما والصورة فلسفيا
***

الهدف الإنتاجي والإقتصادي من السينما هو السوق ورائدها المتعة البصرية والسردية بالحركة، والجماليات، لأن السوق السينمائي عالمي منذ بداياته، وأيضا كوني الآن. كبار المخرجين المبدعين وكتاب السيناريو والحوار والمصورين العظام، وتجاربهم الرائدة – الواقعية الاشتراكية، والواقعية الجديدة الإيطالية أساسا، ثم الموجة الجديدة وسينما المؤلف – حاولوا كسر الحدود اللإقتصادية للإنتاج، الساعي لتعظيم الربحية، بحثا عن مسارات مختلفة، وملهمة للسينما الساحرة، ونجحوا في تطوير الفن، ومعهم النقاد في تطوير خطاباتهم  النقدية، ولغتهم ومصطلحاتهم، ومجازاتهم..

الناقد السينمائي المبدع ليس محللا للعمل الفني البصري السينمائي فقط، وإنما هو فيلسوف الرؤى البصرية، وجمالياتها، ومن ثم دوره في ثقافات العالم بارز وملهم، وعلى الرغم من أن –في أدواره لايزال محدودا الى حد ما في عمله النقدي السينمائي المتخصص -، على الرغم من دوره في إثراء رؤى العالم، لدى المفكرين والمثقفين الكبار.

من ناحية أخرى دور كبار مخرجي الدنيا، ومدارسهم المختلفة، في إضفاء رؤى مغايرة للعالم، وللشرط الإنساني، في ظل تطورات حياتنا الحديثة، في ظل الرأسمالية وتطوراتها، والحداثة، ومابعدها، وفي مرحلة المابعديات السائلة، وحتى دخولنا عصر الذكاء الصناعي والأناسة الروبوتية..

والسؤال: هل تلعب الروبوتات أدوار كتاب السيناريو والحوار؟ !، هل تلعب دور الممثل والمخرج، هل تلعب أدوار الناقد السينمائي المبدع؟!

أسئلة سنحاول الإجابة عليها في مقال قادم.

***

السؤال لماذا غاب إسهام الناقد في حركة الفكر الحداثي المبتسر في مصر والعالم العربي؟

لماذا تم تناسى دوره في هذا المجال، أو بالأحرى تناسي دور بعض النقاد المصريين والعرب البارزين، في تاريخ تطور الأفكار؟

السبب الأول: يرجع هذا النسيان الى تركيز بعض مؤرخي تطور الأفكار، على بعض المفكرين البارزين، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، وغلبة النظرات المدرسية الأكاديمية في مقارباتهم التاريخية.

السبب الثاني: أن السينما العالمية والمصرية، روج لها بعض الصحفيين من المحررين الفنيين قبل 1952، وبعدها، والى الآن، وغالبهم كانوا يركزون على حكاياتهم عن الأفلام، والظروف المحيطة بكل فيلم، من قفشات ونوادر، والأخبار الخاصة بالنجوم من الممثلين والممثلات، وذلك كجزء من اللاتخصص في الصحافة المصرية، والذي أدى الى تدهورها التاريخي وانهيارها ضمن عديد الأسباب السياسية والاجتماعية والتقنية والثقافية المتدهورة.

السبب الثالث: تحول بعض المحررين الفنيين منذ عقد السبعينيات والى الآن، الى تسمية أنفسهم ” نقادا ” مع تطور بسيط في لغة متابعاتهم للأفلام دون تخصص، أو ثقافة رفيعة، تمزج بين النقد النظري والتطبيقي إلا قليلا، مع ضعف في المتابعة لسينمات العالم ومدارسها، درسا وتحليلا ورؤية، وذلك على الرغم من التطور البارز في المنصات الرقمية وأثر الرقمنة على فعل المشاهدة..

السبب الرابع: فقدان الحساسية السينمائية لدى غالب المحررين-” النقاد”، وتركيزهم على علاقاتهم بالمنتجين والممثلين والممثلات والمخرجين، والعمل في المهرجانات التي لايشاهدها الجمهور ولا غالب المدعوين!!.

السبب الخامس: عدم تطور الدرس السينمائي في معهد السينما في مصر، وعدم تطور حركة البعثات الى أوروبا وأمريكا، على نحو، حول التكوين النقدي، الى ماهو سائد، من ثقافة معطوبة وسطحية.

***

هذا هو الغالب في المشهد النقدي، على الرغم من بروز بعض النقاد البارزين، من أمثال سمير فريد، وسامي السلاموني، وصلاح هاشم، وعصام زكريا...إلخ.

الناقد السينمائي في لبنان، وتونس والمغرب، بعضهم مميز كنتاج لثقافة المشاهدة، والقراءة، والتكوين، على نحو أسهم في تطوير بعض خطابهم النقدي بلا جدال..

تراجع، وتدهور السينما المصرية، إنتاجا وإبداعا، أدى أيضا الى تراجع دور الناقد، على الرغم من أن بعضهم، أسهموا في رفد ثقافتنا البصرية، برؤى مختلفة. ولايزال السؤال مطروحا، هل يمكن تصور العالم دون السينما والموسيقى، ونقادها؟

اقرأ أيضا:

نبيل عبدالفتاح يكتب: كتابة التحوُّلات والهوية في عصور مضطربة

 

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر