لينا الورداني تكتب: هاني شكر الله الحاضر دائما

التقيت بـ«هاني شكر الله» المرة الأولى وأنا في الـ21 من عمري. كنت قد تخرجت في كلية الألسن جامعة عين شمس عام 2002، بعد التدريب في عدة صحف كالأهرام والأخبار والعالم اليوم والتليفزيون. وبعد أن تأكدت تماما من إدماني الصحافة، أخذني والدي لمقابلة هاني شكر الله، مدير تحرير “الأهرام ويكلي” آنذاك.

رحب هاني بنا ترحيبا شديدا، ولاحظ سمرتي فسألني إن كنت بحاجة إلى إجازة، ابتسمت وقلت إنني عدت للتو من المصيف، فقال: “أحيانا الواحد بيحتاج إجازة من الإجازة”. وفعلا دارت الأيام واكتشفت عمق هذه المقولة، فالعودة من الإجازة لروتين العمل اليومي تحتاج فترة انتقالية لمن يملك هذه الرفاهية، ولكني كنت صغيرة ومتحمسة للعمل والتحقت بالعمل في الأهرام ويكلي يومها ولمدة ثلاث سنوات.

**

سلمني هاني لفاطمة فرج، رئيسة قسم التحقيقات -كانت فاطمة جادة جدا، تكلفني بموضوع، اكتبه على الكمبيوتر “الماك” العتيد، تصححه “وتطلع فيه القطط الفطسانة”، تتركه لي، أقوم بالمطلوب من إعادة كتابة أو حوارات أو مصادر أو مراجعة. ثم أسلمه لها على نفس الكمبيوتر العتيق في غرفة التحقيقات لجريدة الأهرام ويكلي.

وهكذا، ثلاثة أشهر، حتى وصل موضوعي للنشر أخيرا، ويوم الثلاثاء قبل أن تذهب الصحيفة للنشر بساعات قليلة، يطلبني هاني لمكتبه، أذهب وأنا لا بي ولا علي، يناقش معي كلمة كلمة وحرف حرف. “يا هاني الموضوع راجعته فاطمة ومحرر لغوي ومراجع ومصحح، أنت بتصلح تاني كلمة كلمة ليه”. يرد هاني: أنا عايزك تتمرمطي، تتدعكي كدا وتتودكي في الشغل متاخديش الحاجة من عالوش أبدا، عايزك تبقي “meticulous”.

لا أخفيكم سرا، لم أكن أعلم معنى هذه الكلمة بعد، أو كنت أعلم معناها لكن لا أفهم كيف أطبقها، ولكنني فهمت بعد ثلاث سنوات من العمل مع هاني. كان يقرأ كل كلمة في العدد بدقة وتأني، لا يترك حرفا. وهو أول من يصل المكتب وآخر من يغادره، يعمل بدقة متناهية، وينتقل بسلاسة بين اللغتين العربية والإنجليزية. كما ينتقل من مكتب لمكتب، يرفرف كالفراشة علينا، يشملنا جميعا برعايته. يتأمل كثيرا ويفاجئنا بوصف دقيق أو نكتة ساخرة.

**

كنت خريجة مدارس وجامعات مصرية وكل معلوماتي عن اللغة من القراءة التي كنت إدمانا بالنسبة لي. منذ طفولتي وأنا تنهال علي أمهات كتب الأدب الإنجليزي وبجواري القاموس. هاني أيضا يحب القراءة، كان دائما ما يحمل في جيب جاكيته كتاب «سلاحي ضد الملل» كما كان يقول. كان دائما ما يحمل كتابا في السيارة، والمكتب وعلى البحر وفي كل مكان. إذا لم تصدق يمكنك أن ترى بنات هاني، لدي صور لملك وفريدة وسارة بالكتب على البحر وحمام السباحة، والأرجوحة والمطعم وكل مكان.

في اجتماع الأهرام ويكلي- تصوير: رندا شعث
في اجتماع الأهرام ويكلي- تصوير: رندا شعث

تعلمت من هاني الكثير مما أعرفه عن الصحافة. كما تعلمت الكثير مما أعرفه في الحياة. توطدت علاقتي بهاني وأصبحت فاطمة أعز صديقاتي. اقتربت أيضا من هالة وعلاء شكر الله أشقاء هاني وحسام ابن هاني وعايدة صديقتي وزوجته السابقة وناهد زوجته الأسبق. وأحببت هذه العائلة الممتدة حبا عظيما.

**

حضرت معهم حفلات وتجمعات وجنازات وندوات، ولم أكن أتوقع أبدا أن أحضر جنازة هاني نفسه لم أكن أتخيل أن يأتي اليوم مع أنه كان واضحًا. فعلى مدى حياة هاني تعرض لكم من الأزمات القلبية غير قليل، أذكر منها قلب مفتوح وجلطة. بالإضافة لأشياء أخرى لا أتذكرها الآن. وكل مرة أزور هاني في العناية المركزة اهتدى إلى غرفته بسبب رائحة السجاير. لم يكن هاني يستمع إلى نصائح الأطباء كان يدخن رغم معاناته من الربو وقلبه المتعب.

كان يأخذ كل شيء على قلبه لم يكن يقبل بأنصاف الحلول، لطالما فتح باب غرفة رئيس التحرير أو مدير التحرير ودخل علينا رجل ببدلة ينقل استياء رئيس مجلس الإدارة. وكانت إجابة هاني دائما بابتسامة هادئة، “يزعلوا إحنا بنعمل شغلنا. استقالتي جاهزة لو مش عاجبكم ارفدوني، التغطية مش هنغيرها”. كنت أشعر بالسعادة والفخر لأن رئيسي لا يخشى شيئا أو أحدا. نسأله ما العمل يقول: “نعمل اللي علينا لحد ما يمشونا”. وبالرغم من أنه لم يقبل بأنصاف الحلول أبدا. كان دائما ما ينصحنا بالعكس “لازم تفضلوا مكانكم، بكرة لما تنجح الثورة هنحتاج ناس مخها مفتوح في أماكن زي جرايد وتليفزيون الدولة”. كان في غاية الحماس للثورة حتى قبل حدوثها.

أما بعد الثورة، دبت الحياة في قلب هاني، وكأنه صغر عشرين عاما. أتذكر في يوم 25 يناير 2011، لم أذهب للعمل وخرجت للشارع ولم أعد إلا يوم 13 فبراير، تفهم هاني ذلك ولم يضغط علي ولا على نصف طاقم التحرير المخيم في ميدان التحرير. وفهم أنني لن أستطيع الكتابة عن الثورة كصحفية لأني جزء منها، فطلب مني كتابة يومياتي في تقرير عما حدث فقط. كتبت شهادات وبروفايلات وتقارير لأيام 28 يناير، و2 فبراير موقعه الجمل، في سلسلة اسميتها “وجوه التحرير”، ويوم التنحي كتبت عدد من التقارير أو الشهادات أيضا.

**

بعد التنحي، اتصل بي هاني وقال لي: “مبروك لينا، برافو، خدي بكرة راحة وتعالي بعده المكتب ورانا شغل”. وصلت المكتب ووجدته منهمكا في كتابة مانيفستو الثورة وكان عبارة عن مقال تفصيلي لما بعد الثورة.

أقنعت هاني بالذهاب لتغطية الثورة في ليبيا بعد مصر، اقتنع بسهولة، ووفر لي كل الدعم وكان يحرر مقالاتي بنفسه، وعندما نشبت الحرب، لم يطلب مني العودة، فقد تركني أقوم بعملي ومكثت هناك شهر بعد تغطية وافية.

حقيقة، أشعر أنني محظوظة، لأني بدأت وأنهيت حياتي العملية مع هاني، فكان أول وآخر رئيس تحرير أعمل معه في الأهرام ويكلي، ثم آخر رئيس تحرير لي في الأهرام أون لاين. عملت معه لمدة 3 سنوات من 2002 وحتى 2005 في الأهرام ويكلي، ثم التحقت بهيئة الإذاعة البريطانية ومن الإذاعة للتليفزيون “بلاد تشيلني وبلاد تحطني” حتى عام 2010. سعدت كالأطفال عندما طلب مني هاني العمل معه في تأسيس أهرام أون لاين وظللت حتى 2013.

**

كنا نسافر إلى رأس سدر وإسكندرية والغردقة، أحببت هاني وأسرته الصغيرة والكبيرة، ولم أكن أتخيل حياتي بدونه فحتى بعد رحيله كثيرا ما أتخيل أنني عندما أدق الباب سيفتح لي، وأن كل هذه الفترة السخيفة مقلب وأن هاني عايش هيرجع عشان يتخانق معانا ويوبخنا على تقاعسنا تجاه العمل والوطن.

لا يحب هاني النكد ولا الاستسلام للحزن، كانت لديه طاقة رهيبة للإبداع والعمل، طاقة أكثر من عشرين شاب وفتاة مجتمعين معا.

تجربة “أهرام أون لاين” كانت ممتعة بحق، وفارق السنوات بينها وبين “الأهرام ويكلي” جعلت عملاق الصحافة هاني أهدأ أو أروق – إن جاز التعبير- لا يوجد ما يريد إثباته لأحد، بل كان يعمل لمجرد الاستمتاع.

**

دفع هاني مرتين ثمن استقلاله وحريته والصحافة التي كان يدافع عنها، مرة في “الأهرام ويكلي” عام 2005، عندما غضبت الحكومة من تغطية الأهرام لانتخابات 2005 سيئة السمعة، وكانت وقتها جريدة عملاقة تضاهي الـ”independent and the guardian” ربما أبالغ قليلا هنا ولكنها كانت جريدة فريدة وكانت الأقوى في مصر من حيث اللغة والتغطية، والصحافة. ولكنها انهارت تدريجيا بعد رحيل هاني.

في اجتماع الأهرام ويكلي- تصوير: رندا شعث
في اجتماع الأهرام ويكلي- تصوير: رندا شعث

ورأيت المشهد ذاته في عام 2012، عندما جاء الإخوان وقرروا إقالة كل من هم فوق الستين، لإزاحة كل من هم ليسوا إخوانا، لم أنس رص الكتب وإزالة رسومات ملك وسارة وفريدة من مكتبة هاني الضخمة ورحيله، مرتين، مشهد لن أنساه ما حييت.

أتذكر من المشاهد الضاحكة الباكية، في العناية المركزة بمستشفى دار الفؤاد، كان معي والدي محمود الورداني ووالدتي عائشة الفيشاوي، بعد أن ارتدينا واقي المستشفى الأزرق فوق الأحذية والرأس والمعطف لزوم التعقيم، دخلنا في موعد الزيارة المخصص لهاني واحدا تلو الآخر، وإذ بأمي تنهار من الضحك من هول المنظر، هاني جالسا على سريره وفوقه مكتب وأكثر من تليفون وكمبيوتر وتاب، ومنهمك بالعمل “طيب وليه لبسنا كل الحاجات دي، ولازمته إيه التعقيم، دي الكمبيوترات دي تمرض لوحدها”.

أما حكايات هاني فكانت ممتعة جدا، صحيح أنه لا يتذكر أسماء الكثير من الزملاء والأصدقاء.

مثلا: “يا فاطمة عزمتي حسين على الفرح”.

حسين مين؟

هكذا لا يتذكر الأسماء لكنه يتذكر لحظات بعينها ويرويها بشغف رهيب، مثل لحظات ثورية في أيام الجامعة، كالسبعينات والحراك الطلابي.

**

كان هاني يعرف عني كل شيء عني. كنت أحكي كل شيء لفاطمة التي بدورها تعطي تقرير يومي لهاني بالتليفون حتى قبل أن تعود للمنزل. وكان هاني يعطيني النصيحة مباشرة وبدون تجميل. “أنا طبعا عرفت من صاحبتك”. يقول هاني ببساطة.

تجمعنا على حب القراءة والوطن والعدالة والأطفال وإدوارد سعيد. حضرت حفل تأبين لإدوار سعيد في لندن، وكان هاني في غاية التأثر وهو يلقي كلمته.

رأيت هاني في أكثر من نسخة وأحببتها: هاني مدير ورئيس التحرير الجاد، المفكر العظيم، المثل الأعلى في العمل والتفاني والدقة وحب العمل، وهاني الصديق الجدع المحب، صحبته ممتعة، صوته حنون، ويمكنك دائما الاعتماد عليه.

أما هاني الأب، فكان أبا جميلا ليس فقط لبناته الثلاث وولده حسام. ولكن أيضا لسلمى شكر الله ومايا جويلي وعايدة الكاشف، كان أبا حنونا جدا، ينغمس في اللعب والنقاش والغناء والرقص مع الأطفال، وكان يدلل أطفاله كثيرا.

لطالما أعجبني حماس هاني وجديته الشديدة. يأخذ كل شيء على محمل الجد. لقد ذهب بالطريقة التي أحبها في هدوء وبدون بهدلة: “أما أموت شدوا الفيشة مش عايز أقعد على أجهزة في مستشفيات”، أو “أما أموت مش عايز دراما وزعل ونكد عايزكم تعملوا حفلة تسمعوا مزيكا وترقصوا تويست وتأكلوا وتشربوا”. هكذا كان يقول دائما. لكننا لم نستطع، رحل هاني فجأة ورحلت معه البهجة.

اقرأ أيضا

ملف| أن تكون هاني شكر الله

هالة شكر الله تكتب: أخي العنيد، الصامت، المتأمل

باسل رمسيس يكتب: هاني شكر الله بين لحظتين

أميرة هويدي تكتب: مديري هاني شكر الله

رندا شعث تكتب: كانت فلسطين دائما في قلبه

خالد جويلى يكتب: طرف من خبر بدايات «هاني»

نادر أندراوس يكتب: «النقد اللاذع لكل ما هو موجود».. الماركسية الممتعة لدى هاني شكر الله

عزة كامل تكتب: 7 مشاهد من حياة هاني شكر الله

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر