«خط الصعيد».. علامة رمزية وظاهرة عالمية

خط الصعيد لقب لكل خارج عن القانون، تصدر ضده أحكام قضائية كثيرة، لكنه يعتصم بجبال الصعيد، وتكثر محاولاته الناجحة في الإفلات من قبضة الشرطة. لكن حياته تنتهي عادة برصاصها، وتبقى صورته مزدوجة الهوية. لأن هويته الإجرامية في النظرة الرسمية ترتبط في أحيان كثيرة بصورة شعبية تعتبره بطلا.

“خط الصعيد” لا يعتبر ظاهرة صعيدية أو مصرية بل هو ظاهرة عالمية، ولها جذور تاريخية عميقة. لأنها تنتج من تحالف قسوة الجغرافيا مع قسوة الواقع، وتحتاج إلى شروط كثيرة كي تتحقق.

التركي “محمد التشغرجوي” نموذج مثالي لفهم ظاهرة الخط، وهو أخطر من محمد منصور الدرنكي بمراحل، وحياته أكثر تعقيدا. خاصة في ظل تداخلها مع النظام العثماني الذي عشنا قرونا طويلة في ظلاله. والذي يلعب دورا كبيرا في وجود الظاهرة مع المكانة الخاصة التي يمنحها للأغوات.

ظهر محمد التشغرجوي في أواخر الدولة العثمانية. ويقال إنه قتل 1081 شخصا خلال حياته مع المطاريد والتي استمرت خمسة عشرة عاما من الفرار والكمائن والمواجهات الدامية. وقد رفض خلالها صورته كمجرم، وكان يرى نفسه إنسانا فاضلا ومحقا في قتل كل شخص من هؤلاء.

**

هناك كتب كثيرة تناولت حياة “التشغرجوي”، وكان كتاب الصحفي الشهير زينل بسيم أحد أكثر تلك الكتب جذبا للاهتمام. ثم جاء الكاتب التركي الكبير يشار كمال، وكتب عملا فريدا عن حياة “التشغرجوي” بعنوان (الفتوة) يشبه مع فعله صلاح عيسى في كتابه “أفيون وبنادق”. الذي تناول فيه حياة “محمد محمود منصور سر الختمة” المشهور بلقب “الخط”. والذي تحصن في جبل درنكة بأسيوط، وكان حديث البلاد ـ حكومة وملكا وشعبا ـ في أربعينات القرن الماضي بسبب الوقائع التي ارتكبها والإتاوات التي فرضها ونجاحه في مقاومة السلطات لفترة طويلة. وكانت مدار اهتمام الملك نفسه، حتى سقوطه في النهاية.

حكاية “التشغرجوي” تشبه حياة “خط الصعيد” من وجوه كثيرة. وإن كانت شخصية “التشغرجوي” تتفوق مرات ومرات على حياة “الخط” من حيث مميزاته الشخصية، وعدد ضحاياه، وطبيعة مغامراته مع السلطة. وهي تزيدنا وعيا بحقيقة ظاهرة الخط، والذي لا يمكن اختزاله في مجرد مجرم منحرف يستحق القتل. بل هو علامة رمزية تنعكس عليها أبعاد جغرافية واجتماعية وسياسية معينة ولا تنتهي بحياة شخص معين، بل تتجدد باستمرار. وقد رأينا نماذج كثيرة تحمل لقب الخط في العقدين الأخيرين، وإن ظلت تلك النماذج باهتة قياسا بنموذج “التشغرجوي”.

ولعل أول ما تطرحه حكاية “التشغرجوي” هو ربطه بالنظام العثماني الذي ارتبطنا به لعدة قرون. الأمر الذي يجعلها كاشفة لعالم المطاريد الذي نسمع عنه لكننا لا نعرف تفاصيله. ولا نفهمه بشكل جيد، ولا نعرف تعقيداته وتشابكاته وتداخلاته مع الحياة الاجتماعية ككل.

**

لا يقدم يشار كمال كتابه باعتباره عملا أدبيا متخيلا بل باعتباره تحقيقا استقصائيا عن حياة التشغرجوي. وقد بدأ التحقيق بقراءة ما كتب عن “الفتوة”، وقام برحلات ميدانية إلى الأماكن التي ارتبطت بحياته. حيث قام بزيارة العقيد رشدو الذي قتل الفتوة، واستمع لذكرياته. ولحسن الحظ كانت للعقيد رشدو مدونات كتبها أثناء إجراء تحرياته ودراسة حياة الفتوة. وقد دونها في اثني عشر دفترا، من أجل عمل الكمين المناسب له. والتي احتوت على تفاصيل كثيرة وصغيرة كانت سببا في التمكن من “الفتوة” بعد الكثير من المحاولات الفاشلة التي لم تسفر إلا عن قتل العشرات من الجنود والضباط.

لم يكتف يشار كمال بالدفاتر التي احتوت على تحريات العقيد رشدو. بل تجول في الجبال التي تجول فيها التشغرجوي، وقابل عددا من الناس الذين أدركوا الفتوة وتعاملوا معه. وبعد جمع المعلومات الكافية نشر سيرة حياة التشغرجوي عام 1956 في جريدة جمهوريت.

ترى من هو التشغرجوي وما هي حكايته هذا ما سوف نتناوله في فقرات قادمة؟

اقرأ أيضا:

«شعبان عبدالرحيم».. غزة والقيمة الوهمية للفن الهابط

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر