من الأدب الفرعوني| أمنمحات من قبره لسنوسرت: "خذ الحذر من مرؤوسيك"

“لوكنت استللت سلاحي بيدي لكنت جعلت هؤلاء المخنثين يولون الأدبار، ولكن لا شجاع في الليل ولا أحد يحارب وحيدا، ولا يحرز النصر بدون عضد”، كانت هذه الجملة أحد الأسباب التي دعت العالم الأثري الكبير (دي بك)، يرجح أن تكون تعاليم الملك أمنمحات الأول (1991-1962 ق.م) التي تركها لابنه سنوسرت الأول (1962-1926 ق.م) قد كتبت بعد وفاته وليس في وقت حياته، بحسب الدكتور سليم حسن، في كتابه الأدب المصري القديم.
ويلمح حسن إلى أن الملك أمنمحات، وهو مؤسس الأسرة الثانية عشر (1991-1759 ق.م) بعصر الدولة الوسطى (1991-1650 ق.م)، قد اغتيل بفعل مؤامرة حيكت من داخل قصره، مستشهدا بوقائع قصة سنوهيت التي أشارت إلى العودة المفاجئة لسنوسرت إلى مصر بعد أن وصلت إليه أنباء اغتيال والده، وكيف احتاط لإخفاء الأمر عن جيشه خوفا من حدوث فتنة.

رساله من القبر
حسب حسن فقد كتبت التعاليم بواسطة الكاتب الملكي (خيتي)، مستندا إلى النص الذي وجد بين أوراق (شيستر بيتي) ونصه هو (أي الكاتب خيتي) الذي كتب مؤلفا يسمى تعاليم الملك (سحتب-اب –رع )، عندما ذهب ليستريح منضما إلى السماء وداخلا بين أرباب الحياة”، ويشير حسن إلى تشكك الأستاذ جادرنر في أن تكون التعاليم قد ألفت بواسطة خيتي، والذي صاغها بأسلوب يوحي بأن الملك كان يتكلم من قبره، معتقدا أن الهدف من كتابتها بعد مقتل الملك وتولى ابنه أن تكون كنوع من الدعاية السياسية التي تعضد موقف سنوسرت في تولي زمام الأمور، ودحض محاولات المنشقين في السيطرة على مقاليد الأمور.
وطبقا لحسن فقد فضل سنوسرت استخدام قوة السلاح الأدبي من خلال صياغة مقالة سياسية على لسان والده الراحل والذي يخاطبه من قبره بصفته الملك الشرعي للبلاد، وينوه حسن إلى الرأي القديم والذي قرره الأثري جن في بحثه أن الملك أمنمحات جاء لابنه في رؤيا بعد موته.

خذ الحذر من مرؤوسيك
ويلفت حسن إلى أن الملك أمنمحات يستهل تعاليمه لابنه  بتحذيره من خطورة أن يضع ثقته في أي شخص، مذكرا ابنه أن خيانته قد وقعت بأيدي من أحسن إليهم، فيستهل قائلا: “أنت يا من أصبحت ملكا، اصغ لما سألقيه عليك حتى تصير ملكا على البلاد وحاكما على شواطئ النهر، وحتى يمكنك أن تفعل الخير، خذ الحذر من مرؤوسيك لأن الناس يصغون لمن يرهبوهم، ولا تقتربن منهم على انفراد، ولا تثقن بأخ، ولا تعرفن لنفسك صديقا، ولا تصطفين لك خلانا لأن ذلك لا فائدة منه”.
ويتابع متحدثا عن خيانته من الناس الذين أحسن إليهم، فيقول: “فإني قد أعطيت الفقير وعلمت اليتيم، وجعلت من لا ثروة له مثل صاحب الثراء، وقد أكل خبزي الذي جند الجنود ضدي”.

المؤامرة
وينتقل أمنمحات في هذه الفقرة إلى الحديث عن المؤامرة في وصف دقيق للحالة التي كان عليها وقت حدوثها، فيورد قائلا: “لقد كان ذلك بعد العشاء حينما دخل الليل، وكنت قد أخذت ساعة من الراحة واضطجعت على سريري، وكنت متعبا، وأخذ قلبي يجد وراء النوم، ثم شعرت كأن أسلحة تلوح، وكان إنسان يسأل عني، فانقلبت كأني ثعبان الصحراء (أي قمت منتصبا)، وقد استيقظت على صوت الحرب وكنت وحيدا ووجدت أنها حرب جنود، ولو كنت أسعفت بالسلاح في يدي لكنت شتت شمل المخنثين، ولكن لا شجاع في الليل تأمل لقد أريق الدم وأنت بعيد عني، وقد سلمت لك (الملك) قبل أن يسمع رجال البلاط بذلك، وعلى ذلك دعني أفعل ما تريد، وذلك لأني لم احتط ضد المؤامرة فأني لم أفطن لها من قبل، هذا فضلا عن أن قلبي لم  ينتبه إلى تراخي الخدم، هل حدث أن النساء اصطففن في ميدان المعركة؟ وهل من لا يرعى حرمة القانون قد شب في القصر؟ أو هل الماء الذي كسر السد قد انطلق، وعلى ذلك خاب الفلاحون في عملهم؟
ويوضح حسن أن أمنمحات يشير إشارة واضحة إلى أن المؤامرة قد دبرت في غرف الحريم وباشتراك الخدم، وهو ما يظهر في السؤالين الأولين، أما السؤال الثالث فهو عبارة عن استعارة مكنية تشير إلى تراجع الشعور بالولاء والذي غرسه الملك من خلال أعماله العظيمة في البلاد، مشبها ذلك بكسر السد والذي يؤدي إلى غرق الأراضي ليضيع مجهود الفلاحين سدى.

لم يجع إنسان في سنى حكمي
وفي نهاية كلماته لأبنه سنوسرت، قدم أمنمحات خلاصة تجاربه السياسية داخليا وخارجيا، مشيرا إلى الإصلاحات الداخلية التي قام بها من تنمية للزراعة ومحاربة للفقر والجوع وإقامة الطرق، وخارجيا تحدث عن محاربته وقهره لأعداء مصر، فيورد معلنا: “لقد افتتحت طريقي إلى الفنتين (أسوان)، ونفذت حتى مناقع الدلتا، لقد كنت مؤسسا للمحاصيل الزراعية ومحبوبا من الإله (نبر) رب الغلال، ولم يجع إنسان في سنى حكمي، ولقد أذللت الأسود واصطدت التماسيح، وقهرت أهل واوات (النوبة القديمة)، وجعلت الآسيويين يمشون كالكلاب، وأقمت بيتا مزينا بالذهب وسقفته باللازورد، وأبوابه من النحاس وأقفاله من البرنز وقد صنعتها لتبقى إلى زمن لا نهاية له، والأبدية تخشاها”.

تعليق
وفي تعليقه على التعاليم، يشير الدكتور سليم حسن إلى أنه من الواضح من سياق التعاليم نبرة الحزن والتشاؤم التي سيطرت على كاتبها أو قائلها، لافتا إلى أن الملك أمنمحات جاء بعد عصر الاضمحلال الأول حين تحولت مصر إلى دويلات متناحرة وساد الفقر والمرض بين جموع الشعب، ليأخذ على عاتقه إعادة بناء الدولة القديمة، ولكنه اصطدم بخفافيش الدولة العميقة، إذ حتمت عليه الظروف أن يستعين بموظفين وعمال من بين أولئك الذين شبوا وترعرعوا في فترة الانحطاط وأبت نفوسهم الفاسدة التغيير وأرادوا أن يقوموا بثورة مضادة تعود بمصر إلى عهود الظلام، ليدفع أمنمحات حياته ثمنا لحياة الوطن.

هوامش
الأدب المصري القديم – دكتور سليم حسن – مهرجان القراءة للجميع 2000- من ص 198 إلى ص 206.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر