سوسن بشير تكتب: في وداع بانكي

كنا ثلاثة في زمن مضى. هي اسمها سالي شاهين وهو اسمه أحمد جبر وأنا. هي وأنا في بداية المراهقة وهو يكبرنا بسنوات قليلة. إنها صديقة وتوأم طفولتي الأثيرة وهو صديق مراهقتي المبكرة الحميم، وبلغة ذاك العصر صديقي “الأنتيم”. هي وهو حبيبان. مسرح قصة حبهما كان نادي الصيد بالدقي في قلب القاهرة الكبرى، المنتزه اليومي لأبناء الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة للمنطقة في ذاك الزمن، وهؤلاء الأبناء هم أصحاب الحظ الذين اشترك لهم آباؤهم في هذا النادي، لكن في وقت لم تكن فيه اشتراكات النوادي الرياضية والاجتماعية تمثل ثروة مستحيلة كما هي الآن.

لم يكن أحد يعرفه في النادي باسم أحمد جبر وإنما باسم أحمد بانكي، أو أحمد بانك. كان ذاك زهوة عصر قصة شعر البانك الشهيرة للفتيان والفتيات. لكن الموضوع لم يكن مجرد قصة شعر. كان أحمد هو ذلك الشاب اللامع الذي يرتدي دائما اللون الأسود، متمثلا في تيشيرت لاكوست مكوي كيا جيدا، وبنطلون أنيق لا هو بالضيق ولا بالواسع، لكنه يبرز مع التيشيرت العضلات القوية لجسده المتناسق متوسط الطول.

**

يسير أحمد في ممرات النادي ناظرا أمامه بينما تدير الفتيات رؤوسها نحوه. لم يكن وسيما بقدر ما كان ساحرا بحسب وصف إحداهن، بالسن المكسور نصف كسر في مقدمة فمه. حتى مع دراسته في أشهر مدرسة حكومية حينها، حين كانت مدارس الحكومة تخرج أجيالا من المتفوقين الدارسين باللغة العربية، يمكنه أن يحدث الفتيات عن أحدث الأغاني والأفلام الأجنبية الرومانسية، يردد كلمات تلك الأغاني عن ظهر قلب، ويعرف كيف يضع “ميكس” الأغاني الأجنبية متناسقة الموضوع، في شريط كاسيت واحد لا مثيل له.

لو اهتم بانكي بمن يحدثه فسينظر في وجه بنظرة جادة مهتمة ووجه جامد منحوت يشبه كثيرا فيهما أداء صالح سليم بدون أي تقليد وإنما بتشابه أصيل. ولو لم يهتم بانكي بمحدثه فستجده مديرا لوجهه في اتجاه آخر بينما يستمر محدثه في الكلام. كان بانكي قاسيا ومحبوبا، ولم يكن تأثيره على الفتيات فقط وإنما على أصدقائه من الفتيان والشباب، في سنه وأصغر وأكبر.

**

أيا كان عمر صديقه فأحمد هو الأخ الأكبر، الذي يلجأ إليه الطرف الآخر بالنصح وطلب الصداقة. ولو تشاجر بانكي مع شخص في الشارع خارج النادي، وأتت زمرة لمناصرة هذا الشخص، ما هي إلا دقائق وسيخرج الشباب فرادى وجماعات لنصرة بانكي على خصمه واصطحابه داخل النادي منتصرا، حتى لو لم يعرف أحد سبب المشاجرة. كان بانكي ذلك الفتى صاحب الحضور الذي يطغى على حضور الآخرين. هبة من الخالق.

هي، كانت المراهقة الصغيرة السمراء مليحة الوجه فائرة الجسد، يصف فتيان وشباب النادي ملامح وجهها وتفاصيل جسدها ليس فقط بالجمال وإنما بأنهما كذلك “سكسي”، ترتدي الألوان النارية في كل ملابسها المتماشية مع الموضة العالمية للفتيات. متفوقة في مدرستها اللغات الخاصة، تقرأ روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتبكي مع بطلاتها. أحبته حبا بريئا من النظرة الأولى، ذلك الحب الذي سيتوج بالزواج بعد واحد وعشرين عاما من بدايته. كانت مستقرة وكان هو جامحا. كان صاحب خبرة في علاقات سابقة وكانت هي الفتاة ذات حلم الحب الأول والأخير. الحلم الذي ظلت وفية له، الحلم الذي غيره بعد حين، فأصبح حلمها حلمه.

أنا، كنت في موقع الحظ بعيون فتيات كثر، أنا المراهقة الأخرى الشقية صديقة بانكي كأخته وحبيبة صديقه الوسيم. تأتيني الفتيات ملتصقات في الظاهر بي بهدف التقرب منه. كنت في شبه منجى من شخصيته المسيطرة الآمرة الناهية لأنني لست حبيبته، بينما يقع ضرر السيطرة على سالي ذات الشخصية القوية الطموحة وبرج الجدي المعاند الباحث عن استقلاله. كانا يفترقان، ويعودان، في دوائر زمنية متعاقبة.

هي ترفض الراغبين في حبها رفضا حاسما، وهو يجمح ويعود إليها سريعا راجيا أن تحتضنه ثانية. وأنا شاهدة على الحب الراسخ، وعلى الفراق القصير وعلى العودة الأكيدة التي أصبحت بعد ذلك عودة نهائية دائمة، تخلى فيها الجامح عن جموحه، وتفرغ لحبيبته، التي رفضت لأجله عروض الزواج، واتجه لمسار جديد يؤهله ليصبح الحبيب، الخطيب، الزوج الوفي، ثم والد الابنين عمر ويوسف. هذا ما فعله الحب.

**

في زمن كان يمكن لأي مواطن مصري أن يصاب فيه بفيروس سي، بسبب طبيب أسنان لا يمتلك أدوات التعقيم الجيد، أو سرنجة ملوثة تم استخدامها من قبل، أو أدوات جراحية عبر إليها الفيروس بسبب إهمال الأطباء /أو الممرضات في أي مجال طبي، إهمال غير متعمد لكنه نتاج أكيد لمنظومة الصحة المصرية الفقيرة، والتي ما زالت فقيرة بسبب حكومات مصر المتعاقبة، أصيب أحمد في ذلك الزمن بفيروس سي، وعولج بعدها وتعافى، لكن مضاعفات الفيروس أصابت أعضاء حيوية أخرى في جسده، لكنه قلبه ظل حيا وسليما بالحب.

مع السنوات لم يكن بانكي رحيما بجسده كذلك، فلم يسمع لكلام الأطباء فيما هو ممنوع منعا باتا من الطعام والشراب، وفيما يجب أن يتناوله من العلاج، بل فعل العكس تماما. فلم يتحمل قولونه ذات يوم وانفجر، لكن قلب أحمد ظل حيا وسليما بالحب، حتى مع اشتداد اعتلال كل من الكبد والشريان الرئوي وتضخم الفتق في بطنه، ورفضه للعلاج وقبوله لمسكنات الأعراض.

كان يكفيه أن يميل برأسه كل ليلة على كتف رفيقة دربه ويقول لها: “ساعة الحظ ما تتعوضش”، أو”سوف تلهو بنا الحياة وتسخر فتعال أحبك الآن أكثر”، ليحيا سعيدا لوقت أطول. كان يعرف أنه في طريق توحش المرض العضال، كان يعرف أنه لن يشيخ، وكان مطمئنا لحبيبته وزوجته التي أصبحت مع سنوات المرض أمه وأم أولاده، أصبحت الأب وربة الأسرة، أصبحت الطبيبة والممرضة. وأنا بعد مرور السنوات الطويلة شاهدة على حبهما، وشاهدة على حياتهما.

**

اشتد المرض، ورفض بانكي العلاج مرة عاشرة، وأسفرت أعراض تلف الكبد أكثر وأكثر عن نفسها في أعضاء الجسد. تناول بانكي وجبة من الوجبات الممنوعة قبل أسبوعين من النهاية، وقضى أسبوعان يلتقط لقيمات في كل وجبة على غير ما اعتاد. وربما كانت هذه علامة من علامات الرحيل. وذات ليلة نادي على رفيقة دربه ليتسامرا، وفي لحظات زاغت عيناه وهو بين يديها. نقلته حبيبته إلى أفضل مشفى، حيث أدخله الأطباء إلى الرعاية المركزة، التي لبث فيها يوما في غيبوبة طبية رحل من خلالها كما أراد، دون عذاب ودون ألم، في التاسع من يناير لعام ألفين وثلاثة وعشرين ميلادية.

أحمد وسالي، كلاهما مؤمن بالله والقضاء والقدر، كلاهما روحاني، وكلاهما يرى الحياة الأخرى بعد الموت هي دار الخلود، حيث سيعيش الأخيار في جنة النعيم، في خلو من المرض والألم. كلاهما متيقن بمقابلة الآخر، وإن رحل أحدهما مبكرا عن الآخر. بحسب كل منهما فرحلة الحب مستمرة. وأنا، كما كان على أن أشهد القصة، كان على أنا أن أقصها. أن أقص القصة، هي طريقتي في تقديم العزاء لصديقة عمري وأخت روحي.

اقرأ أيضا

ماجدة الجندي..بريشة الفنان أنس الديب

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر