عن "حصيرة الصيف الواسعة" في دشنا.. أهال يروون ذكرياتهم مع "الصيف" في القرن الماضي


ذكريات كثيرة ارتبطت بفصل “الصيف”، تحتل قلوب أهالي دشنا، خصوصا كبار السن، ممن عايشوا وقتا كانت فيه (الهوايّة) أو المروحة الخوص هي جهاز التكييف الأول والأخير، للحصول على نسمة هواء باردة، وبالرغم من بدائية الإمكانيات في ذلك العصر، إلا أن الأهالي استطاعوا قبل ما يقرب من نصف قرن أن يجدوا حلولا بسيطة، نبعت من البيئة المحيطة بهم، وبالرغم من تخيل معاناة الأهالي في ذلك الوقت من صعوبة توفير المياه فضلا عن تبريدها ومخاطر انتشار اللوادغ ومشقة العمل تحت صهد شمس الصيف ، إلا أن لسان حالهم يقول: كان الصيف أخف وطأة على النفوس، أكثر من الآن بالرغم من انتشار المكيفات والمبردات وكل سبل الرفاهية الحديثة، مرجعين ذلك إلى جو الألفة والتحابب، فالكل بعد يوم شاق في الحقول والحرف وإذا ما جن الليل يجلسوا  أمام منازلهم ،، يسترجعوا ذكريات النهار، يتسامرون ويضحكون، في لوحة إنسانية رسمتها أصابع الصيف.

الأغاني
“يا سلام ..ده أحلى أيام في الصيف “، هكذا قال العم عبدالمنعم فرج الله، 81 سنة بالمعاش، مسترجعا ذكريات الصيف في دشنا في حقبة الخمسينات والستينات، لافتا إلى أن فصل الصيف ارتبط بموسم حصاد الغلال والبقول؛ مثل القمح والشعير والعدس والفول والحلبة.

ويسترسل: وفي تلك الأيام كانت دشنا مشهورة في صعيد مصر كله بأنها بلد البقول، وكان بها عشرات المدشات، التي كانت ترسل بضائعها عبر النيل إلى القاهرة والإسكندرية، موضحا أن عملية حصاد القمح والبقول في ذلك الوقت كان يعمل فيها الجميع خصوصا الأطفال، ويتذكر أنه أجرته في اليوم لم تكن تتعدى المليمين.

ويقول فرج الله: معظم عمال الحصاد كبارا وصغارا كانوا يسرون عن نفسهم أثناء العمل تحت أشعة الشمس بالغناء، مثل (هون يا مهون) أو هيلا هيلا وهي صيحات كانت تحفز العمال على العمل وتنسيهم مشقة الإجهاد بسبب الجو الحار، منوها بأن الغذاء الرسمي للجميع في ذلك الوقت كان الجبنة القديمة والعيش الشمسي والبصل، مؤكدا أن تناول الجبنة القديمة بما تحتويه من أملاح عالية يقي من الإصابة بضربة شمس.

الثلاجة الصعيدي
ويبدي محمد عبد الدايم،  74 سنة بالمعاش، دهشته من شكوى الأهالي حاليا من صعوبة الصيف وتحملهم للعطش بالرغم من أن مبردات المياه حاليا بالشوارع، ويسترجع عبد الدايم ذكريات حين كان مصدر المياه الوحيد للأهالي هو قربة السقا، فلم تكن المياه قد دخلت إلى المنازل ولم يكن متوفرا إلا حنفية عمومية تابعة لمجلس المدينة أو مياه النيل، وكان معظم الفقراء ممن لا يتحملون كلفة السقا والتي كانت مليمات يلجئون إلى النيل للحصول على الماء.
وكانت الطريقة المتاحة للجميع لتبريد المياه هو وضعه في علاوة أو زير، لافتا إلى أنه غالبا ما كانت تكون المياه عكرة بسبب الفيضان ولذلك فكان الأهالي يضعون في قعر العلاوة أو الزير نوى المشمش أو الخوخ، والذي يقوم بعملية ترشيح للمياه فتركز الشوائب أسفل الإناء ويصبح الماء نظيفا، وبعد ذلك يتم لفها بقطعة من الخيش المبلل وتوضع في مكان بعيد عن الشمس ومعرض للهواء وبعد ساعات يمكن أن تحصل على كوب ماء بارد من الثلاجة الصعيدي – على حد تعبيره.
أما بالنسبة لحفظ الأطعمة فقد كانت ربات البيوت تصنع علاقة، عبارة عن مقطف صغير يتم ربطه بحبل إلى عمود متدلي قرب السقف، بحيث يكون معرضا للهواء عبر (السنبلة) وهي فتحة أسفل السقف للتهوية، يربط المقطف إلى النافذة القريبة إلى الأرض لتسهيل إزالته عند الحاجة، مؤكدا أن هذه الطريقة كانت تحفظ الطعام المطبوخ ليومين على الأقل وكان الخطر الوحيد يتمثل في الثعابين، التي كانت أحيانا تسمم الطعام وينتج عن تناوله حالات تسمم غذائي.

السطوح هو الحل
ويروي عيد عبد الهادي، 67 سنة بالمعاش، أنه في فصل الصيف كان الجميع يهجرون الغرف ويتجهون إلى السقيفة في فترة النهار أما في الليل فكانوا يهرعون إلى السطوح، لتلقي النسمات العليلة والباردة جدا أحيانا، ملفتا إلى أن تصميم المنازل في تلك الفترة كان مكيفا بشكل ذاتي، بسبب مادة البناء وهي الطوب اللبن والطين، فضلا عن أن سمك الجدار كان يصل أحيانا إلى أكثر من نصف متر مما يعزل الحرارة ويجعل المكان رطبا، وكان يكفي أن ترش بعض الماء في أرضية الغرفة وتنتظر قليلا حتى تشعر ببعض البرودة المساعدة على الاسترخاء والنوم.

ويتذكر عبد الهادي أن منزلهم القديم كان يحوي (نوامة) وهي عبارة عن مصطبة من الطوب اللبن  كانت تبنى فوق أسطح المنازل، وكانت مصممة كسرير طيني، “وكنا نفرش عليها حصير أو كليم وننام أثناء الليل حتى شروق الشمس”.

النيل والحكاوي
وبالنسبة للعم عدلي أبو الحمد، 67 سنة بالمعاش، ارتبط الصيف في ذهنه بالنيل والحكاوي، فقد كان النيل المكان الأكثر قصدا خلال الصيف، فمن شدة الحر وندرة المياه، كان الصغار والكبار يقفزون إليه كلما اشتدت وطأة الحر عليهم.
ويشير أبو الحمد إلى أن معظم المقاهي والتي كانت عبارة عن عشش بسيطة كانت بجوار النيل، وكان يتجمع الشباب في فترة المساء لشرب الشاي وتدخين المعسل والاستماع إلى حكاوي السيرة الهلالية، وكانت تمتد السهرات أحيانا إلى قرب الفجر ، وفي آخر السهرة يحصل الراوي على بقشيش من الحاضرين في حدود بعض المليمات أو التعريفة.

ويردف أبو الحمد: كانت المنازل عبارة عن حواصل من داخل بوابات، والحاصل هو عبارة عن غرفة تفتح على صحن البوابة، فكنا نخرج الغرف ونجلس سويا نحتسي الشاي وندخن الجوزة ونمضي ساعات الليل في الحكي والتسامر.

الشلولو والهوايّه
وتلمح أم حمادة، 80 سنة، ربة منزل، إلى أنه قديما كانت ربات البيوت تميل إلى الطعام الخفيف خلال فصل الصيف لصعوبة هضم الطعام المسبك، ومن أشهر تلك الوجبات الشائعة جدا والسهلة التحضير (الشلو لو) وهو عبارة عن ملوخية جافة، يتم فركها في طبق من الماء المثلج يضاف إليه الليمون والملح وقطعة ثوم، ويمزجوا جيدا ويقدم مع هذا الطبق البصل ويشترط أن يكون الجبز طازجا.

وتقول أم حمادة إن هذه الوجبة خفيفة وسريعة بالإضافة إلى مذاقها المحبب، متابعة: كانت تعتمد المنازل في تلك الفترة على إعداد البقول المنتشرة في ذلك الوقت مثل الفول والبصارة، لعمل طبق البصارة والعدس الأصفر وأبو جبة، وبالنسبة للعصائر كانت تعد لأسرتها أحيانا بعض الليمونادة، وهو المشروب المنعش الوحيد الذي كان متاحا وقتها قبل ظهور المياه الغازية والعصائر المعلبة.

وتنوه أم حمادة إلى أن المروحة اليدوية كانت هي وسيلة الحصول على بعض الهواء أثناء فترة النهار، والتي كانت تصنع إما من الخوص أو القماش، وكانت تسمى (الهوايّة).

الثعبان والشمس
” كل يوم والتاني كنا نسمع فلان لسع، فلان عضه ثعبان”، هكذا عبر ماهر عبد العال، 65 سنة بالمعاش، عن مخاطر الصيف لافتا إلى أن تصميم المنازل ومواد بنائها كانت تسمح بتكاثر الثعابين والعقارب داخل المنازل، خصوصا في فترة الصيف، وساعد على ذلك أن الكهرباء لم تدخل دشنا إلى بعد منتصف الستينات وكانت تضاء الشوارع بالمشاعل والكلوبات.
وكان شائعا جدا أن نسمع في اليوم الواحد عن حالات لدغ، معظمها كان يتم إسعافها بسرعة أما بالطريقة البدائية لدى المعالج البلدي بطريقة الشريط وإخراج السم أو من خلال الوحدة الصحية باستخدام المصل المضاد، وبعض الحالات كانت تتوفى خصوصا في حالات الأفاعي.
ومن مخاطر الصيف أيضا في ذلك الوقت خبطة الشمس، والتي كانت تصيب الشخص بصداع شديد وزغللة في العين وكانت تعالج أيضا بالطريقة البلدية وهي تدليك الرأس بالأصابع لإخراج ضربة الشمس، وتدليك فروة الرأس بالليمون والخل ولفها بمنديل.
للاستماع لقصص الأهالي اضغط هنا

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر