مكتبة الحبشي للكتب النادرة: كيف تحول «بيت يكن» من محل جزارة إلى صرح ثقافي؟

بعد 13 عاما من العمل المستمر، استطاع المعماريان د.علاء الحبشي وزوجته علا سعيد، تحقيق حلمهما بتحويل «بيت يكن» بالدرب الأحمر إلى صرح ثقافي في قلب القاهرة التاريخية، وتوالت إنجازات ترميمه بافتتاح «مكتبة علاء الحبشي للكتب النادرة» بدعم من مؤسسة بركات.

إرث «سوق السلاح» المُهمَل

يقع «بيت يكن» في منتصف شارع «سوق السلاح» بالدرب الأحمر بالقرب من قاعة صلاح الدين التاريخية. إذ يرجع إلى عدلي يكن باشا (18 يناير 1864 – 22 أكتوبر 1933) رئيس وزراء مصر وابن أخت محمد علي باشا الكبير ولي مصر.

بمرور الأعوام، عاني البيت التاريخي – أنشأ في منتصف القرن السابع عشر – من الإهمال الشديد، مع تأثره بالزلازل ومنها زلزالي عام 1992 و2005، وأصبحت الساحة مركزا لتجمع صرف المنازل المجاورة. بينما اكتظت الطرقات والبوابات بالكامل بالقمامة.

واكتملت المأساة بشراء جزار للبيت مكتفيا بعرض اللحوم . ولكن بجهود ذاتية، استطاع د. علاء الحبشي، رئيس قسم الهندسة المعمارية بجامعة المنوفية واستشاري ترميم وصيانة المباني الأثرية، إحياء “بيت يكن” من جديد. إذ كان دائما ما يتساءل: “كيف لهذا التاريخ أن يُهدم ويستبدل مكانه بمشاريع تجارية!”.

يرى الحبشي أن الإنسان هو التراث وبدون التراث أو التاريخ لن يكون موجودا. بالإضافة إلى توقف مصير الأمة عليه ومسارنا في المستقبل. ما جعله يخوض تجربة خاصة من أجل إحياء التراث.

المهندس علاء الحبشي
المهندس علاء الحبشي
حياة الحبشي في مكتبة

رغم تعدد الأولويات لترميم «بيت يكن»، إلا أن الحبشي اختار تحقيق حلمه بتدشين المكتبة وجعلها مصدرا لنفع الباحثين والقراء والطلبة. كان إيمانه بمبدأ نفع الغير سببا في أن يُخرِج ما في الصناديق.

يقول لـ«باب مصر»: “جاء قراري رغم حالة بعض الكتب السيئة ومنها كتب أصلية تم الحفاظ عليها. وقررت تخصيص أفضل قاعة في بيت يكن لهذه الكتب”.

تشمل المكتبة ذات الجدران الشاهقة والسقف المرتفع، كتب تاريخية ونادرة. بالإضافة إلى مقتنيات شخصية تعد “عرض حياة الحبشي بأكملها” على حد وصفه. إذ أحب عادة لازمته خلال قراءة أي كتاب، وهي الكتابة على الهامش. أو وضع تذكرة طيران به. أو الاحتفاظ بصورة لابنه بين أوراق الكتاب.

كانت هذه العادة أشبه بالاحتفاظ بجزء من روحه بين طيات كل كتاب، وكأنها ذكرى يود نقلها لمن يقع في يده الكتاب من بعده. ويضيف: “أضع ذكرياتي في الكتب، حتى بدأت هذه الأوراق في التساقط، وما زال فيها الكثير. بالإضافة إلى مجموعة أكاديمية وضعت فيها أيضا حياة أسرتي”.

تختلف نظرة الحبشي للكتب النادرة. فالمكتبة لا تضم كتاب نادرة لدرجة الكتابة بدم الغزال، أو مخطوطات أصلية. ولكنها تشمل كتب همشتها الكتابات العربية. ودائما ما يرى الحبشي أنها مُهمَشة.

غياب هذه الكتب عن الساحة، يُعرَض البعض لإشكالية عدم فهم التراث، وعدم توافر قيمة سابقة. ولكن هنا في مكتبة «علاء الحبشي للكتب النادرة» تم جمعها وتوافرها للجمهور على أرفف منسقة بحسب كل تخصص. ويقول: “من ضمن الكتب نوادر عن البلاد العربية، وجزء كبير من الإسكندرية ومصر بشكل عام”.

وتابع: أما أقدم كتاب هو كتاب فرنسي يرجع تاريخ إصداره إلى عام 1840. ورغم حالة بعض الكتب السيئة والتي بحاجة إلى ترميم، إلا أن قناعتى بأن إتاحتها للجميع والنفع بها أفضل من أن تظل حبيسة الصناديق انتظارا للحظة ترميمها.

بصمة في التاريخ

كل ما في المكان ينُسَب إلى صاحبه الأصلي “يكن” وباللغة التركية (يجن) تعني ابن شقيقته والمقصود بها بناء الوالي المنزل لابن شقيقته.

ولكن المكتبة تم تسميتها باسم مؤسسها علاء الحبشي، ويفسر ذلك قائلا: “لا يتضمن اسم العائلة بأكملها لقب يكن، ولم يشرفنا بالحضور أيا من أفراد عائلته. لهذا قررنا الاحتفاظ باسم البيت – بيت يكن – نسبة لليكنية ونسب المكتبة والمنقولات لاسم مالكها”.

ويرى أستاذ العمارة أن نسب اسم المكتبة له يعد خطوة لترك بصمة في التاريخ بالحفاظ على المكان وإهداء مقتنياته الشخصية. ويوضح: “يستطيع الطالب أو الباحث الاستفادة من المادة العلمية مع الاستمتاع بالمساحة مع الجانب التراثي”.

وعن اختيار موقعها، يرجع الحبشي سبب اختيار هذه القاعة وتخصيصها مكتبة، نظرا لأنها غنية بالكثير من العناصر التراثية مثل الأسقف الملونة التي تعبر عن تاريخ البيت وتعود إلى القرن الـ17، وبحلول القرن الـ19 تم إضافة طبقة جديدة، وحاليا طبقة ثالثة للقرن الـ21. ويضيف: “كل المواد المستخدمة تعبر عن التراث، لتحقيق هدفنا في استمرار التراث بعباءة المعاصرة”.

استقبلت مكتبة علاء الحبشي للكتب النادرة، مجموعة من الكتب المُهداة بكل اللغات، منها الإنجليزية والفرنسية. وكانت المفاجأة أن بعضها يمتلك منها نسختها العربية، بالإضافة إلى أخرى مُهداة من الجامعة الأمريكية، ومركز “سيداج” والمركز الثقافي الفرنسي.

سيف الرشيدي، مدير مؤسسة بركات
سيف الرشيدي، مدير مؤسسة بركات
حماة التراث

يقول الحبشي: “الدعم المادي كان عائقا لتحقيق هذا الحلم في البداية، لذلك تحدثت مع مؤسسة بركات، وطلبت المساعدة لاستمرار مشوار تحقيق الحلم”.

وتابع: بالفعل اختارت «مؤسسة بركات» دعم المشروع ماديا، إذ يتوافق مع تحقيق هدفها الأساسي، فالمؤسسة الإنجليزية معنية بدراسة وتمويل مشاريع التراث الإسلامي والعمارة والآثار والفنون والثقافة والحفاظ عليها.

فيما يقول سيف الرشيدي، مدير مؤسسة بركات لـ«باب مصر»: “تم اختيار مشروع «مكتبة علاء الحبشي للكتب النادرة» من بين عدد كبير من المشاريع المُقدمة، نظرا لأنه سيحدث تأثيرا على المدى الطويل”.

ويستكمل المؤرخ المعماري: “بالإضافة إلى مميزات المكتبة المتعددة كالتعليم وتطوير الكفاءة، كذلك التحدي الصعب الذي يقع على عاتق د. علاء بمجهود ذاتي في ترميم وتطوير البيت التاريخي، ومن الصعب تمويل المشروع من أي جهة أخرى”.

بيوت القاهرة

علاقة الرشيدي بحي الدرب الأحمر ترجع إلى قبل 20 عاما، واستكملها بعمل في المنطقة استمر لمدة 10 سنوات. ويقول: “أرى المكتبة تتحقق من خلال مجهود الحبشي فهو أمر يستحق الثناء عليه بشكل شخصي”.

ويرجع الرشيدي تميز مشروع المكتبة لسببين، أولهما أن د. علاء اشترى البيت قبل 13 عاما وظل هذه الفترة يرممه. والآخر رحلته في جمع الكتب عن العمارة والتراث على مدار 40 عاما، فيقول: “البيت قيّم وتعد المكتبة وسيلة هامة لرفع الوعي عن التراث وأهميته”.

ويرى أن القاهرة كغيرها من المدن التاريخية التي بحاجة إلى مشاريع مشابهة. أما المؤسسة ترى أنه مشروع نموذجي، وعن أهمية حفظ التراث العمراني والمعماري في مدن مصر التاريخية كالقاهرة يقول: “الهوية ليست في المباني المسجلة أثر فقط، لكن في الشوارع والأسواق والأنشطة الحرفية”.

اقرأ أيضا

التحقيقات مستمرة في فرنسا: من يسترد تمثال رأس كليوباترا

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر