«قنا».. ليالي الموالد

تاريخ قنا مثير للخيال حقا وعجيب إلى درجة كبيرة، فهي التي كانت مقرا لعبادة الإلهة حتحور في العصور القديمة. ثم تحولت إلى أن تكون مقر التصوف ووعائه الأكبر في مصر، فهي التي ضمت التصوف بكل أشكاله وصوره، وحافظت عليه حتى بات صورة لا تفارق قنا قديما أو حديثا. كل تلك الصور صنعت قنا في ذاكرة الناس وحاضرهم، جو صوفي لا ينعزل عن مصريته. فالحياة في قفط التي كانت تمد معابد مصر بالحجارة، تكتمل في نقادة أولى سطور التاريخ القديم، تمر بدندرة ومعبدها الخالد والقائم وسط رقعة زراعية عمرها المصريون منذ آلاف السنين. هنا في قوص حيث أصالة التاريخ ومفهومه، كل تلك الصور لا تنعزل عن ليالي قنا الدائمة.

حافظت قنا على هذا الإرث التليد واستطاعت أن تعبر عنه بقوة وسط عالم مليء بالأحداث المتسارعة. تستطيع أن تتلمس هذا بين كلمات الناس وسلوكهم وحياتهم طوال اليوم. فالمحافظة من أكثر المحافظات ارتباطا بالموروث الشعبي في الموالد والأعياد الدينية المختلفة. الناس هنا لا يكادون يتركون فرصة إلا ويعبرون عن كل هذا وبقوة، فتختلط العادات ببقايا الآثار القديمة فيها، كأنها امتداد لذلك وحياة لأحجار صامتة. الغالبية هنا يتمسكون بلهجتهم الصعيدية القوية بأنفة شديدة، ولبساهم التقليدي الرائع والجذاب. لا تكاد تلحظ لمسة حداثة في أغانيهم أو عاداتهم إلا نادرا.

ليالي قنا

هنا في مدينة قنا تدور الحياة كلها حول مسجد سيدي عبدالرحيم القناوي، تلتف من حوله الزوايا والتكايا الصوفية التي قامت على “حسه”. فالسيد محور الأحداث هنا وسيدها بلا منازع، ومصدر شهرة المدينة في بر مصر كله. والنقطة الأكثر جذبا لأنشطة المدينة ومركز الحياة الاجتماعية فيها. هنا بين أزقته الضيفة تعقد كل يوم أربعاء حضرة باسمه. ورغم أهمية تلك الحضرة للمتصوفة المنجذبين إلى قوة السيد الروحية، فهي مهمة للمساكين والغلابة أيضا، يمكنهم فيها أن يتناولوا وجبة دسمة من قبل رعايا الحضرة يوميا على شرف السيدة وروحه. ولا ينسى هذا بدعوة تملئ الأسماع تتلوها كلمة مدد تعبر عن احتياج الناس لعطف الأولياء ورعايتهم.

أما ليلتهم الأبرز التي يتنافس فيها الأغنياء على إطعام المساكين فهي الليلة الكبيرة لمولد سيدي عبدالرحيم القناوي. هنا لوحة فنية رائعة نسجت بأضواء خضراء وبمشهد لا تكاد تلمح فيه شخصا إلا وهو منشغل بشىء بين رجل يقدم الطعام للمساكين في خفية مخافة أن يراه أحد فيذهب ثوبه. وبين حلقات صوفية تنشد أغاني رائعة، يحيى مولد سيدي عبدالرحيم القناوي في خشوع وخضوع تام لأهالي الصعيد كله. يأتيه الناس من كل مكان كأنه قبلتهم التي لا غنى عنها، ويتصدر موكب الكسوة في عصر يوم المولد المشهد. حيث يصل إلى الضريح فيتم تغيير الأغطية التي كانت على المقام، يعبر مولد سيدي عبدالرحيم عن إرث عميق ورثه أهالي قنا جيلا بعد جيل، حتى صار عندهم أهم رمز في حياتهم.

لا غرابة أن يؤثر حضور سيدي عبدالرحيم القناوي على شكل الحياة في المحافظة، أسماء المحلات كلها تتعلق بآل البيت، والقرب منهم والتقرب إليهم. فظاهرة تعليق صور الأولياء داخل المحلات والدكاكين تنفرد بها تلك المحافظة العريقة. يصنع سيدي عبدالرحيم الجو العام في المدينة فتجد ذكره حاضرا عند كل باب.

***

الليالي في قنا لا تقف عند محطة السيد فقط، فبالقرب يقع ضريح الشيخ حمام، وهو أحد الأولياء المحليين المعروفين هنا في قنا على وجه الخصوص، لكنه على ذلك يكن له الناس احتراما كبيرا. وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في مواضع مختلفة في مصر. حيث يحتفظ الناس للأولياء المحليين بمكانة خاصة دون الأولياء المشهورين، لارتباطهم أكثر بقريتهم أو مدينتهم أو الحي الذي يقطنون فيه. أما الشيخ حمام فلقد جمع كل هذا وزيادة وعليه فلقد كان قدره وسط الناس. عبر مولد الشيخ حمام عن عاطفة كبيرة وروح عميقة لدى الناس في قنا نحو ما ينتمون إليه ويعبر بشكل أو بآخر عن إرثهم وتاريخهم الطويل في التصوف.

لكن يبقى لؤلؤة الموالد في قنا المولد النبوي إذ أكبر الأحداث الدينية التي تمر بها قنا. إذ لا يرتبط بمكان محدد فكل قرية تحتفل به حسب طريقتها الخاصة. منهم من يقيم مائدة ضخمة لا تتوقف عن تقديم الطعام والحلوى للمريدين في الطرق والشوارع. ومنهم من يقيم الليالي الطويلة بإنشاد صعيدي أصيل يعبر عن قصة المولد النبوي الشريف في ما يمسى بالموالدية في أسلوب غنائي رقيق. بالإضافة كذلك إلى قصص شعبية علقت في أذهان الناس كقصة يوسف وزليخة أو قصة كرامة القطب الدسوقي مع التمساح بصوت عذب ينم عن ذائقة فنية رائقة. فالجبلاو تنافس الأشراف في تلك الليالي الفنية. وتتم تلك الجلسات الصوفية في مجموعة يترأسها واحد منهم بصوت عذب يلقي عليهم الشعر والأناشيد:

يا مغرور بالدنيا الدنية

وادي الدنيا دامت لمين

ولا دامت لحوا ولا آدم

ولا دامت لزين العابدين

جبال الكحل تفنيها المراود

وكتر المال تفنيه السنين

رجال طلقوا الدنيا ثلاثا

رجال طلقوا نوم الليالي

***

المولد لا يقف وحده بل هناك طقوس مصاحبة له، مثل الدورة التي تلف نواحي المحافظة، وهي عبارة عن كسوة يحملها أحد الجمال بهودج ضخم.

هنا حفل مختلف عن ذلك كله، يقف وحده بشكل منفرد، يطلق عليه مؤتمر الأسرة الدندراوية، يقام هذا الاحتفال في قرية دندرة احتفالا بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج. يجيء إليه آلاف الناس في تجمع كبير وضخم يهدف إلى إرساء قواعد الأخوة والمودة بين الناس والقبائل في الصعيد ومصر عموما. في هذا الوقت من السنة لا تجد في القرية بابا مغلقا. حيث فتحت جميع الأبواب للضيوف، تستقبل القرية في هذا الوقت آلاف الزوار من كل مكان، لا ينام الناس فيها بهدف خدمة الضيوف وتقديم الطعام والشراب لهم بشكل متواصل يختلط بمشاعر الحب والإخاء، حتى لو كانت الأسرة ضعيفة فكوبا من الماء والعصير يغنيهم. تجتمع طقوس قراءة القرآن والإنشاد والغناء والاحتفالات في هذا المؤتمر. فضلا عن فض الخلافات بين الأسر، في هذا مشهد صورة حية من صور قنا الجميلة.

اقرأ أيضا:

«قنا».. أصل كل شيء

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر